الفساد ظاهرة اجتماعية ذات تأثير سلبي متعدي لجميع نواح الحياة ، تتوزع أثارها على المستويين الداخلي والدولي ، فعلى المستوى الداخلي تنطوي هذه الظاهرة على انحراف في السلوك الإنساني عن المسار الطبيعي وما يرافقه من تصدع القيم الاجتماعية والأخلاقية، و تفاوت اقتصادي بين أفراد المجتمع ، و تمكين أصحاب النفوذ السياسي من الإثراء غير المشروع على حساب المصلحة العامة ، أما على المستوى الدولي فهذه الظاهرة تمتد للنيل من ثقة الدولة في المحيط الدولي ، كما أنها تضعف إمكانياتها الاقتصادية، ومركزها السياسي في الداخل والخارج ،وبذلك تتوزع أثارها بين الفرد والدولة، وترتبت على ظاهرة الفساد جملة ردود فعلية تشريعية اتخذت وسائل وقائية وعلاجية للحد من أثارها .
وبذلك فان ظاهرة الفساد تشكل مشكلة داخلية تتوزع بآثارها السلبية توزيعاً عموديا متفاوتاً على جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها ، فضلا عن أنها ظاهرة دولية تحمل آثار سلبية أفقية تتوزع جغرافياً بنسب متفاوتة بين دول العالم وتكاد تتركز بنسب اكبر في الدول التي لا تحترم حقوق الإنسان، ومبادئ الديمقراطية ،وتفتقر لأجهزة رقابية قوية قادرة على أنفاذ القانون .


والفساد المالي والإداري يعني اصطلاحا استغلال الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب شخصية خاصة على نحو مضر بالمصلحة العامة .
وتتخذ ظاهرة الفساد أشكال وأنماط مختلفة، ولعل من ابرز هذه الإشكال الرشوة والاختلاس وإهدار المال العام واستغلال النفوذ وغسيل الأموال والإثراء غير المشروع .
لذا فان ظاهرة الفساد كانت وما تزال موضوع يستقطب اهتمام الباحثين من مختلف التخصصات لاسيما في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون ،لأنها تنال من مقومات الإنسان باعتباره موضوع هذه التخصصات، ونظرا لأنها ظاهرة داخلية ودولية في نفس الوقت لذا أصبحت من الهموم المشتركة للمجتمعين الداخلي والدولي ، فقد تصدى لها المجتمع الدولي عبر عدة اتفاقيات كان من بينها اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد لعام 2003 والتي دخلت حيز النفاذ عام 2005 ، كما أن المجتمعات الداخلية واجهتها عبر تشريعاتها الوطنية ، واظهر المجتمع العراقي تصديه للفساد من خلال منظومة تشريعية توزعت بين مجموعة من القوانين والأوامر نذكر منها أمر سلطة الائتلاف رقم 55لعام 2004 الذي نظم عمل هيئة النزاهة في العراق والأمر رقم 57 لعام 2004 الذي نظم عمل المفتشين العموميين بالتنسيق مع هيئة النزاهة والمؤسسات ذات العلاقة والأمر رقم 59 لعام 2004 الذي نظم أحكام المخبرين السريين والأمر رقم 77 لعام 2004 الذي نظم عمل ديوان الرقابة المالية .
ونظراً لخطورة هذه الظاهرة فقد حثت الاتفاقيات الدولية المصادق عليها العراق، والقوانين العراقية على مكافحة الفساد بكافة صوره ، كما تعددت المؤسسات المشاركة في مكافحتها للفساد ، لذا توزعت مهمة مكافحة الفساد بينها ، فالتضامن حالة ضرورية بين هذه المؤسسات سواء أكانت أفراد أم مؤسسات حكومية أم غير حكومية يفضي إلى التعاون والتكامل في تحسين مستوى أدائها في هذا الإطار لذا سنبحث الموضوع بين دور كل منها في مكافحة الفساد.
أولا: دور المواطن
أن المواطنة الصالحة تتطلب أعمال صالحة ولعل من أهم مظاهر هذه الأعمال هو الحرص على المال العام ، ومنع كل ما يفضي إلى إهداره ، والإبلاغ عن كل ما يسئ للوظيفة العامة ويمس بالمال العام، وقد منح الأمر 59 المذكور أعلاه في القسم (1) منه الحق لكل عراقي أن يفضح حالات الفساد الحكومي وعلى جميع المستويات في العراق ، كما وفر القسم(1/2) حماية قانونية لكل من يقوم بالإبلاغ عن حالات الفساد من أي رد فعل انتقامي أو رد فعل حكومي ضد المخبر سواء كان المخبر موظف حكومي ام شخص عادي، وقد رتب القسم (3/1،2) جزاءً في حالة التجاوز على المخبر يتمثل بتعويضه مع الاحتفاظ بحقه في أقامة شكوى أمام المفتش العام، فضلاً عن تشجيع المخبرين عن طريق منحهم مبالغ مالية بنسبة 25% من قيمة الحقوق المستردة نتيجة الأخبار .
ثانياً: دور المنظمات غير الحكومية
لقد نظم أحكام عمل هذه المنظمات في العراق الأمر 45 لعام 2004 ، لذا يعترف لها بأي دور طالما تستهدف به تحقيق أهداف إنسانية مجردة عن أي اعتبار ربحي، ولعل مكافحة الفساد يمكن أن يكون مجال عمل هذه المنظمات وقد منحت المادة (13) من اتفاقية الأمم المتحدة للمؤسسات غير الحكومية فرص للمشاركة في أنشطة تمنع الفساد وتحاربه، وتقوم بالتوعية على أسبابه، وأساليب معالجته، وإظهار مخاطره ، أضاف إلى أن هذه المنظمات يمكن أن توفر مناخ للوقاية من ارتكاب أي من أشكال الفساد أعلاه من خلال حملاتها الإعلامية التي تثقف باتجاه تقديم حوافز مادية لمن يحسن أداء أعماله الوظيفية ، والذي يبلغ عن حالات الفساد .
ثالثاُ : دور المؤسسات الحكوميةوتقسم إلى :
1- مؤسسات ذات الاختصاص العام
وهي تتضمن السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية فلابد من أن يتكامل عمل كل منها مع عمل الأخرى ، فلا يجوز مثلاً أن يعمد البرلمان إلى تشريع قانون يتضمن نصوص غامضة تفسرها الجهة التنفيذية على نحو يفضي إلى أهدار المال العام، أو تفضي إلى وقوع الإدارة في أخطاء تحمل ميزانية الدولة أعباء مالية، أو تسمح بتفسيرها على نحو يتمكن من يدان بموجبها بنفي التهمة عنه بسهولة أمام القضاء.
إضافة إلى ما تقدم فقد رسم قانون مجالس المحافظات رقم 21 لعام 2008 دور تشريعي ورقابي للمجالس و مكنها من ذلك حيث منحت المادة (7/8) للمجلس طلب إقالة المحافظ في حالات منها عدم النزاهة أو استغلال المنصب الوظيفي أو هدر المال العام ، كما يحرم من الترشيح لعضوية مجالس المحافظات من أثرى على حساب الوطن أو المال العام بحكم قضائي بموجب المادة(5/7) من القانون اعلاه.

2- مؤسسات ذات الاختصاص المباشر
وهي تشمل المؤسسات المعنية بشكل مباشر بمكافحة الفساد وهي دائرة المفتش العام ، وديوان الرقابة المالية ، وهيئة النزاهة ، والمجلس المشترك لمكافحة الفساد ، وغيرها من المؤسسات التي تعنى بالنزاهة ومكافحة الفساد وهذه المؤسسات هي بحاجة اليوم إلى تشريع ينظم عملها في قانون واحد يأخذ بنظر الاعتبار الأساليب الجديد لارتكاب جرائم الفساد ومنها الجريمة المعلوماتية أضافه إلى إدماج نصوص اتفاقية الأمم المتحدة في القانون لما لها من فوائد أهمها أنها تروج وتيسر نشر ثقافة مكافحة الفساد بين الأفراد وتشيع ثقافة التعاون الدولي بين الدول لتحقيق هذا الغرض ، وبذلك يمكن رفع مستوى أداء المؤسسات المعنية بالنزاهة في ظل وجود قانون يوفر الحلول الكافية للحالات الفساد بمختلف أشكاله وأساليبه.
وأخيرا أن عمل المؤسسات المعنية بالنزاهة رقابي ينطوي على طبيعة قضائية أكثر مما هو تنفيذي، لذا وحرصاً على سمعة هذه المؤسسات وامتثالاً لاتفاقية الأمم المتحدة يقتضي أن تحترم استقلاليتها التي كفلها الدستور في المادتين (102) و(103). فذلك يوفر فرص أفضل لمكافحة الفساد في العراق، ويضمن لهذه المؤسسات وخاصة هيئة النزاهة التي تلعب دور مزدوج الاول قانوني حيث تتولى التحقيق في قضايا الفساد وأحالتها لقاضي النزاهة والثاني أعلامي تقوم من خلاله بنشر ثقافة مكافحة الفساد ووضع معايير النزاهة في الوظيفة العامة ، وأن استقلاليتها في ذلك يمكنها من تعيير عمل جميع المؤسسات الحكومية بمعايير موضوعية محايدة وشفافة تمكنها من كسب ثقة المجتمع العراقي والدولي وهو ما يساعد على تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطن ، وتقليل التفاوت في المستوى الاقتصادي بين المواطنين، وترشيد الإنفاق الحكومي ، وتطوير أساليب الإيرادات وتنميتها، وحمل المسؤوليين الحكوميين من الكشف عن ذممهم المالية، وكل ذلك من سمات الحكم الديمقراطي، ونخلص من كل ما تقدم أن مسؤولية خلق بيئة نظيفة من آفة الفساد هي مسؤولية تضامنية تعاونية لا يمكن أن تحقق إغراضها ألا بتضافر جهود الدولة والمواطن ومؤسسات المجتمع المدني .