كان مبحث المعرفة يشمل مجالا من المجالات التي تحتكرها الفلسفة وتحتضنها. فبالإضافة إلى مبحث الوجود الذي هو أول مباحث الفلسفة، ومبحث القيم، اهتمت الفلسفة بمدى قدرة الإنسان على إدراك الحقائق (حقائق الأشياء) ومعرفتها معرفة يقينية صادقة، أبالعقل أو بالحواس أو بهما معا؟ أو بطريقة ثالثة مخالفة لهما؟ وهل لكل أداة من هذه الأدوات حدود تقف عندها ولاتدرك ماتتعداه من حقائق؟ كيف تتكون المعاني والأفكار؟
وقد تراوحت الأجوبة بين الشك واليقين. فالذين يقرون بقدرة الإنسان على المعرفة اختلفت وجهات نظرهم في كيفية حصول المعرفة، وهذا هو مصدر انقسامهم إلى حسيين وتجريبيين من جهة، وعقليين من جهة أخرى، أو موفقين بين التجريبيين والعقليين. غير أن مايجدر التنبيه إليه هو أن الفلسفة التقليدية طرحت مسألة المعرفة من أفق أنطلوجي ميتافيزيقي متأثر بالاهتمامات التي سيطرت على الفلسفة. وهذا ماجعل مبحث المعرفة مبحثا ميتافيزيقيا يطرح المعرفة في إطار تعارض بين النفس والجسد. كما أن الأجوبة التي كانت تعطى فيه على مسائل المعرفة كانت محددة بنوعية الأجوبة التي يقترحها الفيلسوف للمشكل الأنطولوجي.
فثنائية أفلاطون على المستوى الأنطولوجي بين العالم المعقول والعالم المحسوس، تنعكس في نظرته للمعرفة على صورة ثنائية: المعرفة العقلية والمعرفة الحسية، والقول بأن الحسية لاتعطينا سوى النظر بينما العقلية توصلنا إلى اليقين. بالإضافة إلى ذلك نظرت الفلسفة التقليدية إلى المعرفة في معناها الفلسفي العام، حيث لم يكن بالإمكان الحديث عن معرفة علمية بالمعنى الضيق. هذا يعكس لحظة كانت العلاقة بين الفلسفة والعلم علاقة هيمنة وتبعية، حيث إن الفلسفة كانت تنصب من نفسها المشرع والوصي على العلوم.
غير أنه بظهور الفلسفة النقدية الكانطية التي عاصرت الثورة العلمية النيوتونية تغير الوضع، حيث حاول كانط في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب " نقد العقل الخالص" أن يبرز الخطوط العامة لمشروعه الفلسفي التجديدي حيث بين أن هدفه الأساسي هو الإجابة عن سؤال أصبح يفرض نفسه بإلحاح في تلك الفترة: لماذا يتقدم العلم ولماذا تفشل الفلسفة؟
إن الإجابة عن سؤال كهذا تقتضي حسب كانط البحث في بنية الممارسة العلمية وطبيعتها، لامن حيث المنهج والخطوات التي يسير عليها البحث العلمي فقط. بل الأسس والشروط العقلية والتجريبية التي تسمح بقيام المعرفة وتجعلها ممكنة. إن السؤال الفلسفي حسب مقدمة الطبعة الثانية هو: كيف يكون العلم ممكنا؟ أي ماهي الشروط التي ينبني عليها العلم لتكون قضاياه يقينية؟ والجواب عن هذا السؤال سيخول لنا حسب كانط الوقوف على الأسباب التي تجعل من المتعذر قيام معرفة ميتافيزيقية.
لهذا يمكن القول بأن وجهة النظر الابستمولوجية بدأت تتبلور مع كانط لاسيما وأنه اهتم في كتابه المذكور بتحليل الأسس والمبادئ التي تقوم عليها المعرفة عامة. وقد أدى إلى إبراز دور كل من الذات والموضوع في عملية المعرفة.غير أن هذا لايعني أن وجهة النظر الأنطولوجية التقليدية لم يبق لها وجود داخل نظرية المعرفة الكانطية. بل العكس لقد بقيت محافظة على نفسها.إلا أنها جعلت من العلم ومن ثورته مناسبة لإعادة النظر في ذاتها.بهذا يذهب الكثير من مؤرخي الفلسفة إلى أن فلسفة العلوم بالمعنى الحقيقي بدأت مع كانط، نظرا للتوجه الذي سارت عليه فلسفته النقدية والقائم على تحليل المعرفة إلى شروطها الأولية وعناصرها الأساسية.
غير أن أهم تيار قطع مع مبحث المعرفة في صورته التقليدية هو التيار الوضعي الذي اعتبر أنه على الفلسفة إن أرادت أن تتحلى بالعلمية أن تجعل العلم موضوع اهتمامها، وليس من سبيل أمام الفكر كي يتقدم سوى الإقلاع عن البحث في القضايا الميتافيزيقية التي تصيبه بالعقم، واتخاذ العلم وقضاياه موضوعا للبحث والدراسة. وعلى أساس ذلك نقيم فلسفة علمية تكون بديل الفلسفة التقليدية.
لهذا يمكننا مع التيارات الوضعية ابتداءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر الحديث عن نشأة رسمية للابستمولوجيا. والحقيقة التي لايمكن إنكارها هي أن المذهب الوضعي بمختلف تياراته ونزعاته استمات من أجل الاستعاضة عن وجهة النظر الأنطلوجية في مبحث المعرفة بوجهة نظر ابستمولوجية علمية استماتة كبرى. وكل التيارات الابستمولوجية التي نشأت فيما بعد سواء اتفقت معه أم لم تتفق هي في الحقيقة تيارات مدينة له بالشيء الكثير.
وعليه يمكننا القول بأن التوجه الطاغي حاليا في الفترة المعاصرة على الفلسفة وعلى مبحث المعرفة هو التوجه العقلي القائم على الاهتمام بالعلم وقضاياه، والبحث في طبيعة المعرفة العلمية وفي فلسفتها خلافا لما كانت عليه نظرية المعرفة التقليدية وهو توجه تحدوه رغبة اجتناب المتاهات الفلسفة العقيمة أو محاولة إقامة نظرية للعلم على أسس علمية، كما لم يعد البحث في المعرفة موقوفا على الفلاسفة وحدهم بل أصبح يشاركهم حتى العلماء .
كل هذه الأسباب تلزمنا بأن نركز مناقشتنا على نظرية المعرفة في ثوبها المعاصر ألا وهو الابستمولوجيا وفلسفة العلوم وتدفعنا إلى التركيز على أهم التيارات الابستمولوجية المعاصرة كالوضعية والتكوينية والعقلانية المعاصرة.