ليس بالموارد وحدها يتقدم الانسان
من التفسيرات الاحادية المطروحة التي تحاول الاجابة عن سؤال التقدم والتخلف , هناك تفسير نستطيع وصفه بالتفسير الاقتصادي البحت , يرى في التقدم والتخلف مسألة إقتصادية بحتة , وبالتالي فإن المتقدم هو كذلك مقاسا بمقاييس اقتصادية بحتة , والمتخلف هو كذلك للسبب والمقياس نفسيهما , اما سبب التقدم والتخلف , وفق هذا المنظور فمرده الى عامل شبه أوحد وهو العامل الاقتصادي , كثير من النظريات الكلاسيكية والحديثة في التنمية (النظريات الكمية) وبعض التفسيرات الماركسوية تقول بمثل ذلك التفسير الذي فحواه أن وجود رأس المال هنا هو سبب التقدم , وأن انتفاءه هناك هو سبب التخلف .
وعلى ذلك , فإن حل إشكالية التقدم والتخلف مسألة بسيطة و من الناحية النظرية على الأقل : حاول أن تكوّن رأس المال اذا أردت التقدم ولا حل غير ذلك , ففي رأس المال يكمن التقدم والتخلف , وهو حجر الفلاسفة الجديد الذي ينقلك من حال الى حال .
ورأس المال و كما هو متعارف عليه في علم الإقتصاد و ليس الثروة بمعناها العام وليس مجرد الموارد أو المال أو أي سلع او مقتنيات اخرى مختلفة , بل هو تحديدا السلع الإنتاجية , أي تلك السلع التي تدر دخلا مستمرا يساهم في نمو رأس المال الذي انتجه ويضيف بعض الاقتصاديين الى هذه السلع عاملا غير منظور وهو (التنظيم) بصفته جزءا من رأس المال , وهذا العامل في رأينا أهم من السلع نفسها التي تبقى مجرد أشياء عندما يغيب التنظيم , الذي يكون من خلاله رأس مال أو لايكون, بطبيعة الحال , فإن هذا التعريف لرأس المال يختلف جذريا عن التعريف الماركسي المعروف الذي يقوم على اساس أن رأس المال (علاقة) اجتماعية تاخذ شكلا اقتصاديا , حيث يكون الاستغلال هو قاعدة هذه العلاقة و حيث تكون القيمة الزائدة هي قاعدة هذا الاستغلال إقتصاديا , على أي حال , لسنا هنا في مجال تقديم تعريفات او المفاضلة بينهما , بقدر ما أن المسألة منحصرة في محاولة معرفية صدقية مقولة أن رأس المال (بالتعريف العام) هو قاعدة التقدم والتخلف والفاصل بينهما .
يواصل أصحاب هذه النظرة , أي ان رأس المال هو المسؤول عن التقدم والتخلف , نقاشهم بعد الاتفاق على القاعدة الاساس , فيفيضون في شرح أن شروحات كمية حول كيفية تكوين رأس المال هذا من خلال طرح مفاهيم ومصطلحات كمية أخرى متعلقة بالهدف نفسه , وهو تنمية رأس المال , مفاهيم مثل الادخار والاستثمار والانفاق الخاص والعام والضرائب والفائدة ونحو ذلك .
ويتفاءل البعض بان مثل هذا الطريق سوف يؤدي الى التنمية (وهي المعادلة للتقدم في رأيهم ) في خاتمة المطاف , ويتشاءم البعض الآخر فيرى أنه في ظل العصر التقني الذي نعيشه و لامجال للحاق بركب الدول المتقدمة , إذ أنه كلما تقدمنا كلما تقدموا هم اكثر بفضل أسبقيتهم التقنية (الرأسمالية) , وبالتالي فإن الفجوة بين المتقدمين والمتخلفين سوف تبقى وتتسع ابد الدهر .
وبغض النظر عن مثل هذا النقاش , ومن هو الاقوى حجة هنا أو هناك , فإن تساؤلنا ليس منصبا على هذا النقاش بقدر ما هو متعلق بالقاعدة نفسها المنطلق منها وهي كون رأس المال وتوفر الموارد بالتالي كفيلين بنقل بلد أو شعب ما , من خانة التخلف الى خانة التقدم وتساؤلنا هذا ليس منطلقا من اعتبارات نظرية محضة , كأن نقدم تعريفا مختلفا للتقدم والتخلف ومن ثم نبني عليه بناءا منطقيا معينا , بقدر ما هو منطلق من مجرد الملاحظة البسيطة لما جرى ويجري في هذا العالم مما يناقض , أو ينقض بالأصح , مقولة أن رأس المال خاصة وتوفر الموارد عامة , قادران على نقل بلد من خانة التخلف الى خانة التقدم .
فلنبدا نقاشنا بمجرد الاسئلة البسيطة التي قد تقودنا في النهاية الى اجوبة أو محاولات اجوبة ولو كانت بسيطة , اول هذه الاسئلة مثلا : هل تقدمت الولايات المتحدة الامريكية لوفرة مواردها ومن ثم سهولة تكوين رأس المال , ام أن المسألة غير ذلك ؟ وأذا كانت الاجابة بنعم, فإن سؤالا إخر يبرز : اذا كانت المسألة كذلك , فلماذا لم تتقدم البرازيل أو الارجنتين بالطريقة نفسها ؟ ولديهما من الموارد ما يعادل ما هو متوفر في الولايات المتحدة ؟ نحن نقارن بين هذه البلدان لانها تتساوى في أمور تاريخية كثيرة , مما يجعل المقارنة اكثر إيجابية : فكل هذه البلدان تنتمي الى العالم الجديد , وكلها بلاد مهاجرين ومستوطنين , وكلها ذات موارد إقتصادية أولية متشابهة , وكلها نالت الاستقلال الرسمي في أوقات ليست ببعيدة عن عن بعض من منظور تاريخي , قد يقال إن الاستعمار هو السبب , ولكن ألم يكن الاستعمار موجودا في كل هذه البلدان ؟ قد يقال إن ما كان في أميركا وكندا واستراليا مثلا لم يكن استعمارا بمعنى الكلمة و إذ أن المستوطنين ذواتهم هم من ابناء الاستعمار, فالامريكيون مثلا ينتمون الى عروق اوروبية بصفة عامة,وانغلوساكسونية بصفة خاصة , ولكن أليس الشئ نفسه حادثا في دول امريكا الجنوبية , حيث أن الكثير من ابناء تلك المنطقة ينتمون الى اصول لاتينية ؟ فإذا وصفنا الوجود الأسباني والبرتغالي في الجنوب بأنه إستعمار,فلا بد منطقيا أن نعتبر الوجود الأنكليزي خاصة في الشمال إستعمارا أيضا , وإلا لكنا غير منطقيين مع التاريخ ومع انفسنا في تحليلنا , بما يعني أننا مسيرون أيديولوجيا بعيدا عن الموضوعية التي نحاولها , قد يقال إن اهل الشمال لم يختلطوا بأهل البلد الاصليين وهو ما فعله أهل الجنوب فما معنى ذلك ؟ هل نخلص الى نظرية عنصرية (هتلرية) مفادها أن العرق الآري أفضل الاعراق و وهذا هو سبب تفوق الشمال (وقد ذكر هتلر ذلك صراحة في كتاب ( كفاحي ) ؟ بالطبع لا , لإذ اننا هان ننطلق من قاعدة مبدئية مفادها أن الانسان هو الانسان في كل مكان (المساواة الطبيعية), ولكن هنالك عوامل تجعل هذا الإنسان فاعلا هنا او منفعلا هناك,اذا,ما السبب ؟ سبق أن ذكرنا حين الحديث عن الاستعمار , ملاحظة إختلاف طبيعة الاستعمار , الانكليزي في الشمال واللاتيني في الجنوب , وربطنا كل ذلك بما حدث في أوروبا في بداية نهضتها الصناعية , حيث قامت الصور الصناعية في انكلترا , البلد المستفيد بشكل غيرمباشر من اكتشاف ( العالم الجديد ) على حساب المستفيد المباشر من ذلك , وهو إسبانيا والبرتغال,وصلنا الى نتيجة هي أن السبب يكمن في اختلاف الذهنية الانكليزية عن الذهنية اللاتينية , وقبل ان يساء الفهم , وكثيرا ما يحدث هذا للأسف , نقول أن الذهنية أو العقلية شئ مكتسب وليس من طبيعة الاشياء , وبذلك عندما نقول العقلية الانكليزية أو اللاتينية أو العربية , فليس معنى ذلك أن مثل هذه العقلية شئ من طبيعة الشعب وفق حتمية معينة (كما قال بذلك مونتسيكو مثلا أو ابن خلدون إلى حد ما) , ولكنه شئ مكتسب تاريخيا ويمكن أن يتغير تاريخيا أيضا,وليس له علاقة بطبيعة الاشياء,هذا إن كان للأشباء طبيعة ثابتة,المهم,قد يتفق أحدهم معنا في هذه النتيجة , وهي محورية العقلية السائدة, ولكن قد يعترض آخر فيقول : (وماذا بشأن الهند أو مصر مثلا , ألم تكونا من أملاك الاستعمار الانكليزي, ولديهما من الموارد الشئ الكثير , فلماذا لم تسيرا على الخط الامريكي نفسه , ولماذا لم تفعل هذه العقلية الانكليزية فعلها ؟) و احتجاج سليم وسؤال مشروع , والإجابة تكمن هنا في القول أن هناك عوامل ومتغيرات قد تحرف النتيجة عن الحدوث هنا أوهناك , الولايات المتحدة مثلا أرض بكر الى حد ما , ولذلك من السهل ملاحظة أثر هذا المتغير أو ذاك عليها , مع عدم وجود متغيرات متدخلة اخرى , اما في جنوب أمريكا أو الهند أو مصر , فإن هناك العديد من المتغيرات المتداخلة قد تحرف النتيجة عن الحدوث , فأمريكا اللاتينية و بالأضافة الى طبيعة العقلية اللاتينية , تشترك مع الهند ومصر في عامل أو متغير معين وهو أن كل مجتمعاتها عبارة عن مجتمعات قديمة , بمعنى أن هنالك ثقافات ومورثات سائدة , ومن ثم ذهنية أن عقلية سائدة وغير قابلة للأختراق الكلي من قببل العقلية الاستعمارية , التي ليست شرا كلها , وبالتالي فإن اثر هذه العقلية لم يكن كليا كما هو في الحالة الامريكية الشمالية , ومثل هذا الطرح قد يرد عليه بحالتين معاصرتين هما اليابان , وهي المجتمع القديم صاحب التراث القديم وانكلترا نفسها صاحبة العقلية المتحدث عنها والتي تراجعت وتقدم الآخرون .
أما بالنسبة الى اليابان , فإن الملاحظ أنها قيدت التراث ولم يقيدها التراث , بمعنى أنها أبقت التراث شكلا واعطته مضمونا جديدا يتناسب مع العقلية الحديثة المكتسبة , وذلك مل لم يحدث في الهند أو مصر أو غيرهما , فالولاء للأمبراطور مثلا تحول الى ولاء للوطن , والتفاني في خدمة السيد تحول الى تفاني في خدمة الانتاج , وهكذا , بمعنى أن مبادئ الولاء والتفاني , وهي مبادئ تراثية يابانية , بقيت شكلا واختلفت مضمونا , أما ما حدث في الهند أو مصر فهو بقاء الشكل والمضمون لثقافة لا تعترف بشئ اسمه تقدم أو تخلف , إذ إن هذه المفاهيم لا تنتمي اليها و وبالتالي بقيت كما هي برغم مظاهر التحديث السطحي , وذلك موضوع حديث آخر .
وبالنسبة الى انكلترا نفسها,فإن الملاحظ أنها قد تحولت الى بلد محافظ تراثي لأسباب تاريخية لا مجال لذكرها هنا , إذ إن النتيجة هي الأهم , فإنكلترا اليوم هي أكثر بلدان غرب اوروبا محافظة , ويترافق ذلك مع كونها البلد الاقل نموا وإبداعا تقنيا مقارنة مع بقية دول غرب وشمال اوروبا والولايات المتحدة,فالعقلية التي انتجت الثورة الصناعية في انكلترا انحسرت, وهذا من الادلة التي تؤكد أن العقلية أو الذهنية السائدة يوما ما ليست من طبيعة الاشياء ولكنها مسألة تاريخية , بينما أخذت هذه الذهنية تسود في بلاد أخرى (المانيا مثلا) مما قلص من تقدم انكلترا النسبي مقارنة مع الآخرين و قد يقال إنك (تهرف بما لا تعرف) في هذا المجال , فانحسار التقدم الانكليزي النسبي ليس مرده الى سيادة ذهنية معينة أو نحو ذلك , بقدر ما أن مرجع ذلك الى انحسار الاستعمار الانكليزي نفسه , وتلاشي الامبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس و لقد تلاشت الامبراطورية فتلاشت معها المواد الخام والموارد غير المحدودة في الهند والصين ومصر وغيرها .
مثل هذا القول صحيح نسبيا , إذ لا شك في ان وفرة الموارد وسهولة الحصول عليها عاملان مهمان في التقدم الاقتصادي خاصة (وليس التقدم بصفة عامة) , ولكنه لا يصلح متغيرا مفسرا لتقدم هذا وتاخر ذاك وذلك من خلال عدة ملاحظات نورد بعضها , فإنكلترا نفسها في بداية نهضتها الصناعية , كانت معتمدة بصفة اساسية على مواردها الذاتية من حديد وفحم وغيرهما , مما اتاح لها قدرة وقوة اكثر من جيرانها (اسبانيا والبرتغال مثلا) الاكثر موارد ومالا , ومن خلال هذه القدرة اتجهت الى الاستعمار واستجلاب الموارد من وراء البحار مما زادها قوة على قوة , ولكن جذور القوة الاولى تكمن في الذات لا في الخارج , وومن المعروف أن اليابان من أفقر بلاد الدنيا في مواردها الطبيعية , إذ هي تستورد تقريبا كل احتياجاتها في هذا المجال من الخارج ومع ذلك فهي اليوم مارد صناعي وجبار اقتصادي ومثال يضرب في إمكانية التقدم بصفة عامة , وهناك دول في هذا العالم لديها من الموارد الطبيعية الكم الكثير , ولديها من المال ما هو أكثر , ولكن لا هذه الموارد ولا تلك الاموال , جعلت منها بلادا متقدمة سواء إقتصاديا أم غير ذلك , إن ذهب أمريكا ومواردها التي كانت تصب في إسبانيا لم تجعل من الاخيرة دولة صناعية , ولكنها جعلت من انكلترا كذلك ,المسألة اذا لا تتعلق بالموارد نفسها , ولكن بالعقل الذي يتعامل مع هذه الموارد , لقد كانت الموارد موجودة دائما هنا وهناك , ولكن الثورة الصناعية وقبلها بذور الرأسمالية لم تحدث الا في وقت ما , والسؤال المطروح هو : لماذا حدث ذلك في ذلك الزمان وذلك المكان , بطبيعة الحال هنالك الكثير من محاولات التفسير لهذه الثورة التاريخية , يركز بعضها على العوامل الاقتصادية والاجتماعية البحتة بعيدا عن الوعي المباشر وفق حتمية معينة (الماركسية),والبعض الآخر يميل الى التفسير وفق عوامل غير إقتصادية دينية تحديدا , وذلك مثل محاولات ماكس فيبر .
وبغض النظرعن هؤلاء أو أولئك , إذ اننا نحاول هنا تأييد وجهة نظر على الاخرى بقدر ما نحاول مجرد طرح اسئلة ومحاولة تلمس إجابة , فإننا نميل إلى القول إن ما حدث كان نتيجة ثورة فكرية قبل أي شئ آخر , غيرت نظرة الانسان الى نفسه ومجتمعه والكون حوله , وكانت النتيجة هي هذا العصر الحديث فالموارد وحدها لا تخلق ثورة ولا تغير شيئا ما لم تكن منظورا إليها على انها محل فعل , وهذه النظرة هي ما يغير الاشياء , ومن دونها , ستبقى الموارد مجرد مادة خام وشئ من اشياء الطبيعة , أما التعامل معها وفق نظرة معينة فهو الذي يجعلها موارد ورأس مال وسلعا تبتغى ونحو ذلك , بمعنى أن كل شئ هناك في ذات الانسان , في عقله الذي يجعله يتعامل مع الاشياء الخارجية (خارج الذات) بطرق مختلفة , أما الاشياء نفسها فهي مجرد أشياء لا تقدم ولا تؤخر ولا معنى لها من دون تدخل الذات التي تمنح المعنى وتمنح القيمة وكل شئ آخر , إذ لا قيمة لأي شئ بذاته الا ذات الذات التي هي مصدر القيم ومصدر الاحكام ومصدر كل علاقة .