انشغل الشارع المصري بكافة فئاته خلال الفترة الأخيرة بالفساد في العديد من المؤسسات الحكومية المصرية، مثل: المصارف، والبورصة، وبعض شركات قطاع الأعمال العام، وفي الصحافة والجامعات، وفي ذلك اختلفت المسميات لما يحدث في هذه المؤسسات بين كونه "فسادًا" أو "إهدارًا للمال العام" أو "سلبيات مصاحبة لعملية التطوير"، وهو ما جعل المواطن المصري العادي في حيرة من أمره، ويتطلع لمعرفة حقيقة الأمر ودور الأجهزة الرقابية في هذا المجال.

ويعتبر الجهاز الإداري المصري من أقدم الأجهزة الإدارية في العالم العربي إن لم يكن في العالم أجمع، وقد مر هذا الجهاز بالعديد من مراحل التطور ارتبطت في الأساس بالمذهب الاقتصادي والسياسي الذي اعتنقته الحكومة في مصر؛ بداية من النظام الاشتراكي وسيطرة القطاع العام، وانتهاء بإعمال آليات السوق والحرية الاقتصادية واتساع دور القطاع الخاص.
ولأن الفساد موجود أينما وجد بنو البشر، فإن الفساد كان موجودًا في الجهاز الإداري المصري طوال تاريخه، شأنه في ذلك شأن الجهاز الإداري في كل دول العالم، ولكن الجديد في مصر هو اتساع دائرة هذا الفساد لِيَلْتهم جزءاً كبيرًا من كعكة الاقتصاد القومي، بعد أن كان يأكل على استحياء في الماضي.
حرية - إطار تشريعي = فساد###
ويرى البعض أن حجم الفساد في الاقتصاد المصري لم يتزايد في السنوات الأخيرة، وإنما الذي تزايد هو معدل الحديث عن الفساد ومحاولات كشف الفساد في ظل مناخ الحرية الراهن، فقد كان هناك فساد في ظل القطاع العام، وكذلك أصبح متواجدًا في ظل القطاع الخاص، ولكن المؤكد أن حجم الفساد تزايد مع تزايد حجم النشاط الاقتصادي، وتزايد عدد المشروعات، وتزايد حجم الأموال التي تتعامل فيها هذه المشروعات في نفس الوقت الذي لم تتمكن الحكومة من تطوير الإطار التشريعي؛ لكي تلاحق هذه التطورات في حجم المشروعات، وفي حجم الأموال التي تتعامل فيها، أو لتكوّن تشريعات أكثر إحكامًا وضبطًا للحرية الاقتصادية التي دبت في النشاط الاقتصادي المصري.
ولأن الفساد تطور؛ فقد تغيرت أيضا طريقة تعامل الحكومات المصرية المتعاقبة مع قضايا الفساد؛ حيث ظلت بعض الحكومات تفضّل عدم التحدث صراحة في قضايا الفساد؛ انطلاقًا من أن الحديث في هذه الموضوعات وإثارتها في الوسائل الإعلامية يؤثران على مناخ الاستثمار، ويؤثران على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى الاقتصاد المصري. ولكن بعد أن تأكد أن ذلك لم يجذب رؤوس الأموال إلى الاقتصاد المصري بدأت الحكومات تسمح بالحديث والنشر في قضايا الفساد؛ بغرض إشاعة مناخ من الشفافية، وخلق اتجاه عام نحو كشف هذه القضايا والقضاء عليها.
وقد جاء ذلك مصاحبًا أيضًا لتطور حجم الفساد، بعد أن كانت الحكومات تغض الطرف أو تتساهل بشأن حدوث سرقة أو إهدار لجزء بسيط من المال العام في سبيل إضافة مشروع جديد إلى الاقتصاد القومي، وهو ما يعني كون المشروع هو الأساس والفساد هو العرضي. وفي ظل الظروف الراهنة أصبح الفساد هو الأساس والمشروع هو العرضي، ومن ثم لم يعد هناك ما يدعو الحكومة إلى التساهل مع قضايا الفساد.
الجهاز الموازي.. بوابة الفساد الجهنمية!
لا يمكن إنكار أن الجهاز الإداري المصري كان -وما زال- يعاني من العديد من المشاكل؛ حيث يوجد تعقد وبيروقراطية في الإجراءات، وانخفاض في كفاءة ومهارات وقدرات العاملين بالجهاز الحكومي والقطاع العام، خاصة فيما يخص قدراتهم على الابتكار والتجديد.
وقد ساهمت هذه المشاكل بدور كبير في انخفاض الإنتاجية وتدهور معدلات الأداء في القطاع العام؛ لذلك كان لا بد من تطوير هذا الجهاز على كافة مستوياته العليا والدنيا، ومن هنا كان طرح فكرة التطوير الإداري في مصر.
وبدلاً من أن تقوم الجهات الحكومية والوزارات بإعادة تدريب وتأهيل العاملين بها، وإكسابهم مهارات جديدة، ورفع معدلات الأداء والإنتاجية لهم، وتزويدهم بالإمكانيات التي تساعدهم على أداء وظائفهم- كما هو متعارف عليه في جميع دول العالم- قامت بعض هذه الجهات بتبني فكرة "الجهاز الإداري الموازي والجراج الكبير".
وتنطلق هذه الفكرة من أن العاملين القدامى والحاليين بالجهاز الحكومي عناصر غير مرغوب فيها؛ لأنها معوقة لمسيرة التطوير، وغير قادرة على القيام بدورها بكفاءة؛ ولذلك يجب استبعادها تمامًا من مجال العمل، أو اتخاذ القرارات، أو رسم السياسات.
ولأن القائمين على اتخاذ القرار في هذه الوزارات، خاصة هؤلاء الذين حصلوا على الدكتوراه من أمريكا أو بريطانيا وتأثروا بالفكر الرأسمالي على طريقة هذه الدول -يدركون صعوبة التخلص من كل هؤلاء الموظفين في الجهاز الحكومي، فقد جاءوا بهذه الفكرة التي يصفونها "بالنوع المفتخر من الأفكار"، وهي تنقسم إلى قسمين، هما:
الجزء الأول: الجهاز الإداري الموازي: حيث يتم تعيين أفراد جدد، وتشكيل كيان تنظيمي يحل محل الكيان التنظيمي الرسمي في هذه الوزارات، وخاصة في مكاتب الوزراء والمكاتب الأمامية، ويعمل هذا الجهاز بالتوازي مع الجهاز الأساسي غير المرغوب فيه.
الجزء الثاني: وهو الجراج الكبير: حيث يتم التغلب على المشاكل التي يمكن أن تحدث بسبب الجهاز الموازي من جانب العاملين الأساسيين عن طريق وضع هؤلاء العاملين في دائرة مغلقة معزولة عن باقي التنظيم الإداري، يطلق عليها "الجراج الكبير"، وتسند إليهم بعض الأعمال التافهة والتقليدية التي يمكن أن توصف بأنها أعمال تسهيلات، ولا يتم تغذية هذا الجراج بموظفين جدد؛ حتى تنقرض هذه النوعية بمرور الوقت.
ورغم أن هذه الفكرة تسبب العديد من المشاكل، مثل: الازدواجية، وعدم المبالاة، وعدم الانتماء، والحقد وكراهية العمل، فإنها كانت بوابة الفساد وإهدار المال العام كمثال لما حدث في البورصة المصرية.
ويدخل الفساد من خلال هذه البوابة عن طريق:
تعيين العديد من أفراد الجهاز الموازي من أصحاب المحسوبية والواسطة وأبناء أصحاب المناصب الهامة في الدولة، وبذلك تقل أهمية المهارة أو الكفاءة أو السن أو سنوات الخبرة، وهو ما يعد تعارضًا مع القوانين المعمول بها في مجال التعيين في الجهاز الحكومي.
حصول أفراد الجهاز الإداري الموازي على أجور ومرتبات مرتفعة جدًا تفوق ما يحصل عليه وكلاء الوزارة في الجهاز القديم، رغم أن هؤلاء الأفراد من حديثي التخرج ومحدودي الخبرة. هذا إلى جانب حصولهم على كافة التسهيلات والتجهيزات ابتداءً من مكان العمل المناسب، وانتهاءً بالدورات التدريبية والسفريات إلى الخارج، التي لا تحكمها قواعد. وهذا المثال بصورته الصارخة التي عكسها استجواب البورصة في مجلس الشعب المصري ليس موجودًا في البورصة فقط، ولكنه موجود في بعض الوزارات الأخرى بصورة أكثر عمقًا وأكثر فسادًا.
قيام أفراد الجهاز الإداري الموازي بازدراء أفراد الجهاز الأساسي، ومعاملتهم على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية، وإلقاء عبء الخطأ في أي عمل مشترك عليهم، وتوقيع العقاب عليهم دون الرجوع للقوانين الإدارية في ذلك، وهذه هي المرة الأولى في الأجهزة الإدارية في العالم التي يوقع فيها موظف من خارج التنظيم الإداري جزاءً على موظف أساسي في الهيكل التنظيمي، ولكن هذا أصبح واردًا طالما تم إلغاء القوانين الحاكمة للعمل في مثل هذه الوزارات.
تصرّف أفراد الجهاز الإداري الموازي، وخاصة متخذي القرار، وكأن المؤسسات التي يعملون بها هي إقطاعيات توارثوها عن أجدادهم، ويطلقون العنان لطموحاتهم وتطلعاتهم، ويتخذون كثيرًا من القرارات التي يجانبها الصواب، وخاصة في إنفاق ميزانيات هذه المؤسسات التي تموّل من ميزانية الدولة ومن أموال الضرائب التي يدفعها الشعب المصري.
وفي الغالب يتم تمرير هذه القرارات غير السليمة للأسباب الآتية:
- الضالعون في معرفة القواعد التي تحكم العمل الحكومي، واتخاذ مثل هذه القرارات في الجهاز الأساسي من وكلاء وزارة وأصحاب الخبرة، تم تجنيبهم وإدخالهم "الجراج الكبير".
- المحيطون بمتخذي القرار من أفراد الجهاز الموازي ليس لديهم خبرة بهذه القواعد.
- انتماء أفراد هذا الجهاز إلى مكان العمل، وحرصهم على المصلحة العامة، يكون مشكوكًا فيه؛ لإيمانهم بأن وجودهم وبقاءهم في هذا المكان مرتبطان ببقاء متخذ القرار الذي أتى بهم إلى هذه المناصب.
- يتم إهدار المال العام من جانب أفراد الجهاز الإداري الموازي؛ لأنهم يدركون أن المسئولية الحقيقية عن التعاملات ذات الجانب المالي هي مسئولية أفراد الجهاز الأساسي الموجود في الجراج، وذلك ثابت من واقع الأوراق والمستندات الخاصة بالمناقصات والمشتريات وصرف الحوافز والمرتبات وغيرها من التعاملات المالية.
الصحافة والفساد
تعتبر مهمة كشف الفساد من أهم وظائف الصحافة، وتقوم الصحافة بهذا الدور ببراعة في أي دولة من دول العالم بما فيها مصر، وقد تحدثت جميع الصحف على اختلاف مشاربها وانتماءاتها عن الفساد بلهجة واحدة، لا فرق في ذلك بين الصحف الحكومية أو الصحف الحزبية أو الصحف الخاصة.
ورغم أن دور الصحافة ووضعها في مصر رائد وفعال لا يمكن إنكاره، فإنه لا يخلو من شيء عجيب؛ فإذا قرأ المواطن الصحف القومية شعر بأن مصر ليست مجرد دولة عادية كمعظم الدول، ولكنها دولة رائدة وعصرية وحكوماتها حكومات مثالية طوال العصور.. وتخرج بعد قراءة هذه الصحف بأنه "ليس في الإمكان أبدع مما كان".
على الجانب الآخر، إذا قرأت الصحف المعارضة أو المستقلة تشعر أن الفساد متغلغل في كل شيء! وأن الأساس في الاقتصاد هو الفساد والاستثناء هو الانضباط، وهذا الوضع مستمر منذ سنوات ماضية، وهذا أوقع معظم المصريين في تناقض خطير مع أنفسهم؛ فهم لا يعرفون من يقول الصدق ومن يكذب عليهم، وإذا كانت الصحف المعارضة غير صادقة فيما تقوله؛ فلماذا تتركها الحكومة دون محاسبة على ما تنشره من أخبار كاذبة عن الفساد والمفسدين؟
والأخطر هو ما نشره الكاتب الصحفي "فهمي هويدي" عن علاقة الفساد ببعض الصحفيين، ووجود عدد كبير من العاملين في مجال الصحافة، يتقاضون مبالغ شهرية من بعض رجال الأعمال أو من بعض الجهات الحكومية؛ حتى يجعلوا من بعض الأفراد مادة لأخبارهم لتحقيق مصالح لهم.
وفي إطار قيام الصحافة بهذا الدور عملت على تلميع بعض الشخصيات في الحكومة أو في مجال الأعمال؛ فجعلت من بعض الأفراد محدودي الخبرة خبراء في مجال الاقتصاد؛ فهذا خبير في أسواق المال، وذاك مستشار اقتصادي، وتلك مؤهلة لتكون وزيرة في المستقبل، وهؤلاء خبراء في عمل البورصات وعمليات المقاصة.
الفساد ونظرية الأواني المستطرقة
ويرى باحثون أن نظرية الأواني المستطرقة تنطبق على ظاهرة الفساد في العديد من دول العالم، ومنها مصر؛ حيث انتقلت هذه الظاهرة في معظم المؤسسات المصرية؛ حكومية، وغير حكومية. ولم يعد الفساد قاصرًا على مؤسسات الإنتاج أو الإدارة، ولكنها انتقلت إلى المؤسسات التعليمية التي يتمثل هدفها في الأساس في بث القيم والالتزام بين أفراد المجتمع، وخاصة الشباب الذي يمثل العنصر الأساسي في عملية التطوير؛ فلم تسلم الجامعات من هذه الظاهرة، فهناك سرقات مالية وإهدار للمال العام في المناقصات الخاصة بالإنشاءات، وهناك سرقات عملية من عمداء وأساتذة بعض هذه الجامعات، وتعيين بعض الأفراد من أبناء الأساتذة في الجامعة دون وجه حق، وما حدث في قضية طب القصر العيني مثال صارخ على ذلك.
ولا شك أن هذا الانتشار السريع للفساد جاء بسبب التأخر وعدم الصرامة في محاسبة مرتكبي الفساد. إن عدم الجدية في التعامل مع قضايا الفساد تغذّي الفساد بطريق غير مباشر؛ ولذلك فإن الأمر يحتاج إلى تفعيل دور الأجهزة الرقابية، مثل: الجهاز المركزي للمحاسبات، ومجلس الشعب، وغيرها من الأجهزة الرقابية؛ لتتحول عملية الرقابة فيها من عملية شكلية إلى عملية محكمة تكشف عن الحقائق، وتضع نهاية معروفة ومنطقية لما يُنشر عن قضايا الفساد؛ حتى لا يكون الحديث عن الفساد في مصر من باب امتصاص غضب المواطن، مع بقاء الحال على ما هو عليه، وحتى لا يكون التطوير والتحديث بوابة الفساد في مصر.
ولا شك أن تقديم أكثر من مسئول مصري مؤخرًا للمحاكم بتهمة الفساد- وعلى رأسهم وزير مالية سابق، ومحافظ سابق، وعدد من رجال الأعمال- خطوة هامة لمحاربة هذا الفساد، رغم أن هناك رؤوسًا كثيرة طليقة، ولكن حبّات المسبحة كثيرة، وفرط عقدها يستتبع كرّ حبات المسبحة واحدة تلو الأخرى.