لم تعد العولمة كلمة غريبة على قاموس حياتنا.. فكل ما نستخدمه من أجهزة، وما نستهلكه من سلع وأطعمة، وما نتعامل معه من محلات وبنوك ومؤسسات يؤكد أننا نعيش عصر العولمة.. بل إن ما نشاهده على شاشات التليفزيون، وما نقرأه على مواقع شبكة الإنترنت، وما نسمعه من مفردات تدخل بيوتنا بسرعة الصاروخ وتصبح جزءاً من خطابنا اليومي أصبح دليلاً دامغاً على أن العولمة تقتحم حياتنا بدون استئذان،وتؤثر فينا، حتى ولو لم نكن راغبين في ذلك.
أصبحت العولمة بإيجابياتها وسلبياتها حقيقة واقعة.. ولم يعد في إمكان أحد على ظهر هذا الكوكب أن يفلت من تأثيرها، وإذا كنا في زحمة الحياة لا نكاد نرى غير الوجه الباسم للعولمة، المتمثل في الـ " سي إن إن" و" الإنترنت" والفضائيات الكثيرة والمحمول الجوال والكوكاكولا وأطعمة ماكدونالدز وكنتاكي وملاهي ديزني وأفلام هوليود التي تغزو العالم على مدار 24 ساعة إلا أن هناك وجهاً آخر للعولمة أشد خطورة.. توقف عنده كاتبان ألمانيان هما:هانس بيتر مارتين وهارالد شومان.. أضاءا تفاصيله، وكشفا الغطاء عنه..فإذا هو وجه عبوس مخيف، له أنياب سامة.
هذا الوجه المدمر للعولمة رصده المؤلفان في كتابهما " فخ العولمة" الذي أصدرا طبعته الأولى
باللغة الألمانية عام 1996 وترجمه إلى العربية د.عدنان عباس علي، وصدر عن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية.
يقع الكتاب في 389 صفحة من القطع المتوسط، وكتب تحت عنوانه الكبير"فخ العولمة" عنوان تفسيري غريب يقول: " الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية".. ومصدر الغرابة هنا أن العولمة ارتبطت في أذهاننا حسب الخطاب العولمي بالليبرالية والديمقراطية والرفاهية..لكن المؤلفين يصادمان هذا الارتباط، ويؤكدان أن العولمة تمثل اعتداءاً صارخاً على الديمقراطية والرفاهية، وبسبب هذه الصدمة.. ولخطورة المسلك الذي سلكاه.. فقد لقي الكتاب نجاحاً منقطع النظير.. وطُبع ست مرات في عام صدوره بألمانيا.. وتُرجم إلى معظم لغات العالم.

(مفاهيم وحقائق)
لقد طرح المؤلفان مجموعة من المفاهيم والحقائق التي تستحق التأمل والتفكير لفهم قضية العولمة من منظور يختلف عن المنظور الزائف والسطحي الذي غالباً ما تطرحه علينا وسائل الإعلام.. ومن هذه المفاهيم ما يأتي:
• ارتباط العولمة بالسياسات الليبرالية الحديثة يرسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق للرأسمالية المتوحشة التي سادت في القرنين السابع عشر والثامن عشر.. حيث يتم الآن اقتلاع ما حققته الطبقة العاملة والوسطى من مكتسبات.. وبالتالي أخذت تظهر على السطح مشكلات البطالة وانخفاض الأجور وتدهور مستويات المعيشة وتقلص الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة وإطلاق آليات السوق وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي.. وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين.
• مع توحش الرأسمالية الجديدة سيكون هناك 20% فقط من السكان يمكنهم العمل والحصول على الدخل والعيش في رغد وسلام.. أما النسبة الباقية ـ 80% ـ فتمثل السكان الفائضين عن الحاجة.. الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير.
• تمخضت العولمة عن ظاهرة " أممية رأس المال".. حيث تتبارى الدول في تقديم تنازلات ضريبية سخية للمستثمرين.. وفي ذات الوقت إلغاء بعض المكاسب التي كانت متوفرة للعمال والطبقة الوسطى.. وتحويل الكثير من الخدمات التي كانت تقوم بها الحكومات إلى القطاع الخاص.. وإضفاء الطابع التجاري عليها.. فأهمية رأس المال لا تهتم بشىء إلا الربح.
• سيطرة الدول الكبرى على حركة التجارة الدولية من خلال الاتفاقيات المجحفة مثل
"الجات".. والتشريعات المنحازة مثل قوانين حقوق الملكية الفكرية سوف تتعمق أكثر وأكثر.. حيث أنها تصب في مصلحة الشركات الدولية.. وتزيد من معاناة الشعوب الفقيرة والضعيفة.. خصوصاً في مجالات مثل البذور الزراعية والدواء.
• مع نمو العولمة وتمكنها يزداد تركز الثروة.. وتتسع الفروق بين البشر والدول اتساعاً لا مثيل له.. حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الأعظم من الدخل الوطني والثروة القومية في حين تعيش الأغلبية على الهامش.. أما على مستوى الدول فإن السمة البارزة ستكون انهيار الصناعات الناشئة وزيادة معدلات التضخم وعجز الميزانيات.. وتحكم البورصات وأسواق المال والنقد في مصائر الحكومات.. وأبرز مثال على ذلك انهيار اقتصاديات النمور الآسيوية.. حيث أصيب اقتصاد دولة واحدة مثل ماليزيا بالشلل بسبب المضاربات في البورصة.
• ارتبطت العولمة بتحرير الأسواق المالية والنقدية.. وبذلك تحول العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون في العملات والأوراق المالية مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمين والمعاشات.

( حضارة جديدة )
أما فيما يتعلق بالتأثير الاجتماعي والثقافي للعولمة فقد أشار الكتاب إلى اجتماع عُقد في نهاية سبتمبر 1995 بفندق" فيرمونت" في سان فرانسيسكو وحضره حوالي 500 من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد ليفكروا بعمق، وفي حلقات عمل مصغرة، في اكتشاف معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين.. هذه الطريق التي ستفضي إلى "حضارة جديدة" وكان من أبرز الوجوه المشاركة جورج بوش الأب وجورج شولتز وجورباتشوف وتاتشر.. إلى جانب أصحاب الشركات العملاقة وخبراء الكمبيوتر وأصحاب المليارات.
وقد اصبح هذا الاجتماع ـ فيما بعد ـ هو العلامة الفاصلة بين الحاضر والمستقبل.. خاصة بعدما أعلن جورج جيج مدير شركة الكمبيوتر الأمريكية " ميكروسيستمز" أن لديه 16 ألف عامل.. ولكنه لن يكون في حاجة إلا إلى ستة عاملين أو ربما ثمانية فقط.. والباقون سيتم الاستغناء عنهم.. وأنه في إمكان كل فرد أن يعمل لديه المدة التي تناسبه في المكان الذي يريده.. فلم تعد هناك حاجة إلى تأشيرات للسفر.. أو لوائح حكومية وموافقات.. فالتعاقد مع العاملين يتم من خلال الكمبيوتر.. والعمال يطردون بواسطة الكمبيوتر أيضا.
بهذه القصة رصد الكاتبان التحولات الكبرى المدمرة التي شهدها العالم خلال السنوات القليلة الماضية والتي سيشهدها خلال السنوات القادمة باسم "العولمة".
ومع تركز السلطة والثروة بهذا الشكل ستكون هناك ـ حتماً ـ تأثيرات اجتماعية وسياسية وأمنية سلبية على الجميع.. حيث ستودي السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تفرضها العولمة إلى ديكتاتورية السوق.. وسوف تعلو صيحات ذات طابع غير ديمقراطي ـ كما يؤكد الكاتبان ـ مثل القول بإن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات الفقراء أصبحت عبئاً لا يُطاق.. أو الادعاء بأن شيئاً من "اللامساواة" بات أمراً لا مناص منه.. أو القول بإن "على كل فرد أن يتحمل قدراً من التضحية".
( الغزو الثقافي )
وإذا كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد نجحا في الإمساك بزمام السياسات الاقتصادية للدول.. وحلت القواعد الصارمة التي فرضاها تحت مسمى " النصائح" محل السلطات الوطنية الأكثر دراية بالاحتياجات الخاصة لمجتمعاتها.. فإن الأقمار الصناعية وشبكات البث الفضائي وشبكة الإنترنت قد نجحت هى الأخرى في إزاحة القيم الاجتماعية والروحية للمجتمعات.. وتهديد الخصوصيات الثقافية والدينية للشعوب.. وهيمنة أنماط ثقافية أخرى تفرض نفسها على الجميع باعتبارها ثقافة دولية.
ويشهد العالم كله الآن سيادة قيم هوليوود وبيوت الأزياء ومهرجانات ملكات الجمال.. وفرض قرارات مؤتمرات السكان فرضاً لحمل الجميع على قبول زواج الشواذ والإجهاض وحماية حقوق "المثليين" والاعتراف بالعلاقات الجنسية خارج إطار مؤسسة الزواج وتدمير الأسرة.. وتشجيع العلاقات الجنسية "الآمنة" بين الشباب.. والتدخل باسم "العولمة" وحقوق الإنسان من أجل تغيير الركائز الثقافية والدينية والثوابت الاجتماعية لخلق مجتمعات هشة تفقد توازنها أمام ثقافة القطب الواحد.. حتى تذوب فيها.
وكان طبيعياً أن يؤدي هذا التهديد إلى ظهور جماعات متشددة.. دينياً أو قومياً.. تحاول الدفاع عن خصوصياتها أمام طوفان الإغراق والهيمنة.. وتفرض أنماطاً من الالتزام الصارم بثقافاتها وتعاليم دينها كنوع من الدفاع عن بقائها على قيد الحياة .. حتى ولو أدى ذلك إلى الصدام مع الحاضر أو مع الآخر القوي والمهيمن.. ومن هنا نشأت فكرة صدام الحضارات.. وهى فكرة جهنمية تبرر للقوي أن يلتهم الضعيف ما دام الصدام أمراً شرعياً ومقبولاً تفرضه الحتمية التاريخية.
وبسبب البطالة انتشرت ظاهرة التربص الاجتماعي داخل المجتمع الواحد.. فالمواطنون الأشد فقراً تحولوا إلى الجريمة والعنف.. وصاروا يهددون مواطنيهم الأشد ثراءاً .. ولتجنب هذا التهديد ينفق الأمريكيون ـ مثلاً ـ على حراسهم المسلحين " البودي جاردز" ضعف ما تنفقه الدولة على جهاز الشرطة.. أضف إلى ذلك ظهور حركات تطرف قومي كما في ألمانيا، أو تطرف ضد المهاجرين الغرباء الذين "قد" يقتسمون فرص العمل.
إن "العولمة" كما يقدمها لنا المؤلفان الألمانيان هانس بيتر مارتين وهارالد شومان ليست مشروعاً يخدم مصالح كل الشعوب.. وإنما هى مشروع موجه لفرض هيمنة القطب الواحد على مقدرات الشعوب الأخرى.. وقد تطور مفهوم فرض الهيمنة بالوسائل الاقتصادية والغزو الثقافي إلى الغزو العسكري الفعلي واحتلال الأراضي لسلب ثروات الشعوب المستضعفة كما حدث في أفغانستان والعراق.
وسوف يظل الفقر الذي يطبق على دول الجنوب نتيجة الأوضاع الاحتكارية للعولمة مصدر تهديد للدول الغنية والفقيرة على السواء.. ليس هذا فحسب.. وإنما ستظل المجتمعات الغنية تعاني في داخلها كثيراً بسبب تركز الثروة في أيدي أصحاب المليارات وانتشار البطالة وتدني
الخدمات وارتفاع الأسعار وانهيار قيم التكافل.
وهكذا ستظل العولمة وبالاً على الجميع.. حتى يتم وضع توزيع المكاسب على طاولة المباحثات بين فئات المجتمع .. وأيضاً بين الدول.
ويتنبأ المؤلفان بأن نموذج "حضارة العولمة" الذي ابتكره الغرب لم يعد صالحاً لبناء المستقبل..أى لبناء مجتمع قادر على النمو والانسجام وتحقيق التوزيع العادل للدخل والثروة.. فما يحدث الآن في ظل "حضارة التنميط" الغربية يقود إلى التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي.. وهذا فساد لن يُكتب له الاستمرار.