يُعَد الدكتور فؤاد متخصصاً لامعاً في طب العيون، وهو يعمل في عيادة طبية مرموقة. وانطلاقاً من رغبته في فتح عيادة خاصة به، فقد قرر توظيف شخص لإدارة الشؤون التجارية للعيادة. وبعد مراجعة ما يقارب المئتي سيرة ذاتية وإجراء ما يلزم من التحقق من خلفية الأشخاص المتقدمين للوظيفة، رسى اختيار الدكتور فؤاد على مالك. وما جذب فؤاد لمالك هو تمتُعه بدرجة ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ذائعة الصيت، إضافة إلى تمكنه من إحراز قصب السبق على منافسيه في جميع النقاط التي كان يبحث عنها فؤاد في مدير عيادته القادم.






ولم تمض عدة أسابيع حتى أدرك الدكتور فؤاد الخطأ الفادح الذي ارتكبه حين عيّن مالك مديراً لعيادته. وبالرغم من أدائه المتميز خلال مقابلة التوظيف، إلا أنه قلب العيادة رأساً على عقب خلال شهره الأول من العمل. فمالك لا يتواصل مع الموظفين إلا عبر بريده الإلكتروني أو من خلال جداول الأعمال المسندة إلى كلٍ منهم. وإذا حضر اجتماعاً فلا يكاد يرفع رأسه عن هاتفه الذكي، عدا عن تذمره من سؤاله عن معنى أحد المصطلحات المالية أو التجارية التي يُكثر استعمالها.


“لقد بهرني مالك بقدراته ومعرفته في المجال المالي خلال مقابلة التوظيف، فقد كان بالغ الثقة بنفسه كما أنه جاء من جامعة عريقة”، يخبرنا الدكتور فؤاد بعد فوات الأوان، ثم يضيف متحسراً: “لقد رأيت جانباً واحداً في مالك، وغفلت تماماً عن الجانب الآخر الذي بِتّ أراه كل يوم في عيادتي”.


أما عن الزمن الذي احتاجه الدكتور فؤاد لتصحيح خطئه، فقد قضى عامًا كاملاً قبل أن يستطيع التخلص من موظفه الرديء. والأسوء من ذلك أنه صار يشك في قدرته في الحكم على الناس. والواقع أنّ معظم القادة الذين تحدثنا إليهم اعترفوا أنهم قاموا بخطأ من هذا النوع خلال مسيرتهم الوظيفية، وأنّ ذلك كلفهم الكثير من الوقت والمال والتكدير الذهني.


قد تمثل الانطباعات الأولى أفخاخاً خطرة تودي بك إلى قرار توظيف بالغ السوء. فما هو السبيل الأمثل لتجاوز الانطباعات السطحية والغوص في أعماق التفاصيل ذات المدلول في شخصية المرشح خلال الدقائق الثلاثين من المقابلة؟


مع تراكم أوراق المئات من السير الذاتية واستطالة طابور المرشحين ليصل إلى العشرات، نجد أنفسنا أحياناً مندفعين نحو القيام بتحليلٍ سريع لما نستقبله بهدف الوصول إلى لائحة بأفضل الأسماء المرشحة للمنصب الشاغر. غير أن هذا الأسلوب المعتمد على التخمينات والانطباعات المبدئية لن يحقق مبتغانا بسبب الطريقة التي نميل فيها إلى تخيُّل المرشحين. وهذا ما حصل بالضبط مع الدكتور فؤاد حين بهرته مؤهلات مالك المذكورة في سيرته الذاتية وأداؤه عند المقابلة، وانحرف تركيزه عن تتبع الصفات ذات الصلة والتي سيستعملها المرشح بشكل يومي حال توظيفه. لقد فشل الدكتور فؤاد في عمل تقييم حقيقي يستوثق فيه من قدرات مالك على قيادة وتحفيز الموظفين في العيادة.


يكمن مفتاح الحل في القدرة على التفريق بين الإشارات الحقيقية والزائفة للصفات المرغوبة، حيث تمثل جاذبية الشكل الخارجي مثالاً بارزًا لما قد تبثه من انطباعات وآراء عند الاقتصار عليها. فعادة الناس أن يعطوا الأشخاص ذوي المظهر اللائق تقديرًا زائدًا، الأمر الذي قد يجنح بمدير المقابلة إلى تكوين أفكار إيجابية حول مهارات لا دخل لها بشكل المرشح الخارجي.


وللعثور على أفضل المرشحين، عليك بتخطي تلك الإشارات الزائفة التي لا علاقة لها بمضمون العمل. أمعن النظر في الأمارات التي تخبرك عن أداء الشخص الجالس أمامك. وبدلاً من “تحكيم الحدس” قم باستخدام أدوات التحليل الحديثة للوصول إلى أفضل أنواع المرشحين. استخرج ما في أدراجك من بيانات عن أولئك الذين نجحوا أو فشلوا في أداء هذا الدور (أو الأدوار المماثلة إن كان المنصب جديدًا) وحدد صفات كل واحد منهم بأثر رجعي قياسًا على ما أظهر من أداء. حاول العثور على المتغيرات المستقلة (معدل الدرجات، الأنشطة اللامنهجية، أجوبة مقابلة التوظيف) التي تساعد في التنبؤ بالنجاح أو الفشل. فإذا جعلت للبيانات دورًا في رسم صورة مرشحك الناجح، فلا شك بأنك ستمتلك نظرة ثاقبة تستطيع بها تحييد أي مؤثر زائف أو جانبي، كما ستصبح أكثر فاعلية حين تتعامل مع ما تراكم لديك من سير ذاتية وتقابل المتقدمين للمنصب الجديد.


وإلى جانب التعلم من تجارب التوظيف السابقة، اجعل التوظيف للمستقبل نُصب عينيك. فالغالب أن نتخيل صورة الموظف المناسب قياسًا على ما خبرناه في الماضي من تجارب ومَن تعاملنا معه من أشخاص ناجحين شغلوا هذا المنصب أو ما يماثله. وفي محاولة لتجنب هذا المطب في التوظيف، قام أحد المدراء التنفيذيين بتأليف سيناريو يعبر عن حال الشركة في الوقت الحاضر وفي المستقبل، ثم طلب من مجموعة المرشحين التعبير عن الكيفية التي سيواجهون بها المواقف المعروضة عليهم في السيناريو المذكور. ومن خلال تحصيل الإجابات كتابة قبل إجراء المقابلات الشخصية، أمكن التعتيم على هوية المتنافسين للمنصب وتركيز الجهد في تحليل أسلوب التصرف والتفكير الذي أبداه كل منهم بصرف النظر عن جنسه أو عرقه أو عمره. وقد ساهم هذا الأسلوب في انتخاب الأشخاص الأنسب لاستكمال عملية التوظيف معهم في الجولة التالية.


كما يجدر بنا التنبه إلى تحييد الإشارات الزائفة التي تأتينا عبر الكلمة المسموعة. فقد تتولد لدينا انطباعات أولية خاطئة بسبب تقديرنا الزائد لما يسميه الأستاذان جيفري بفيفر و روبرت ساتون “الكلام المُنمّق” (smart talk)، حيث يحذران مما يبدو عليه محترفو هذا النوع من الكلام من ناحية “الثقة، والوضوح، والفصاحة في التعبير، وامتلاك الكثير من المعلومات والأفكار الجيدة”، ويلفتان النظر إلى أنّ حديثهم في العادة يكون تعبيرًا عن نقص يعانونه في الناحية العملية. ويشير الطبيب النفسي مارك سنايدر إلى جانب آخر في أصحاب الكلام المنمّق حين يصفهم بامتلاك “أدوات مراقبة على ذواتهم عالية الحساسية” تجعلهم أشبه ما يكونون بالحرباء في تلونها، فتراهم يتقلبون في تعابيرهم ومواقفهم بعناية فائقة لتناسب الأوضاع المختلفة. وحين نقع في شباك هؤلاء الأشخاص، فإننا نختار أكثرهم لباقة في الكلام والذين قد لا يكونون بالضرورة أصحاب معرفة وإنصاف. والأسوء من ذلك أنّ الشخص الذي يُسمعك ما تحب سماعه خلال المقابلة قد يكون ذا وجهين في المكتب. ولتجنب الوقوع في هذا المطب، أنصت إلى الرسائل الخافية خلال مقابلة التوظيف عبر اتباع النصائح التالية:


1. ركّز على التصرفات بدلاً من الصفات.


تحفل أيّ سيرةٍ ذاتية أو رسالة مرفقة بصفات مثل “يتمتع بروح الفريق”، و”نشيط”، و”صاحب ذهنية تحليلية”، و”مبدع”. فكل مرشح حريص على أن يبدو الأكثر تأهلاً للمنصب الشاغر. لاحظ أسلوب المرشح حين يصف نفسه بأنه “يتمتع بروح الفريق”، هل يذكر أو يمتدح إسهام غيره حين يتحدث عن إنجازاته؟ اطرح عليه سؤالاً مثل: “اذكر ثلاثة أمور فعلتها خلال الأشهر الستة الماضية وتفخر بها جداً”، ولا تكتف بما يسرده من إنجازات ولكن راقب عن كثب كيف يقوم بذلك: ماذا فعل بالتحديد، وكيف تناول الموضوع، وهل سلط الضوء على نفسه أو على فريقه بأجمعه؟ حاول قراءة ما بين السطور واستشفاف اعترافه بفضل زملائه أو مرؤوسيه أو أي شخص آخر. وأفضل من ذلك أن تقوم بمقابلة سلوكية على النحو التالي: إذا كنت تبحث عن مهارات العرض والتقديم أو مهارات البحث والتحليل، فاطلب من مرشحك إلقاء عرض تقديمي أو تقديم بحث تحليلي. فليس أسهل من سرد الصفات الرائعة الخادعة، أما التصرفات العملية فهي أكثر دقة وموضوعية وتوفر مناخًا حقيقيًا للتقييم الصحيح.


2. أنصت إلى المتعلمين من أخطائهم.


“أخبرني عن فشل مررت به”. نعم، قد يكون هذا سؤالاً تقليديًا في مقابلة التوظيف لكنه يميط اللثام عن الكثير من شخصية المرشح الجالس أمامك إذا أحسنت تحليل إجابته. ما الذي كان وراء فشله؟ هل يعزو فشله إلى عدم اختصاصه بالمشكلة، أو حظه السيء، أو صعوبة المهمة أو غيرها من الأعذار؟ جميع ما سبق يشير إلى الفشل مع إخفاق واضح في جعل التعلم والاعتبار جزءًا مما حصل. أنصت إلى المرشح الذي يحدد العوامل التي يمكن تغييرها والتحكم بها مستقبلًا، فهو وحده القادر على التعلم وأخذ الدروس مما يمر به من مشكلات.


3. تابع مهارات إدارة النزاعات.


يشير فريد فيدلر وزملاؤه إلى أهمية سؤال آخر: “أخبرني عن ماهية أقل شخص تفضل التعامل معه كزميل في العمل”. فإذا كنت تبحث عن شخص لملء محل شاغر يتطلب إجادة التعامل مع الأفراد، فراقب الإجابة التي تحصل عليها هل تختصر هذا الزميل في صفة من كلمة واحدة (مثلاً “صعب”، أو “عنيد”) أو تعطي صورة أكثر تفصيلاً للحالة (مثلاً “لم نتفق حول الطريقة التي ننجز بها المهمة لأن كل واحد منا تدرب بطريقة تختلف عن الآخر”). فطبيعة الصفات السرعة والقطع مما لا يسمح بفسحة لاستجلاء الأساليب الأخرى للتعامل مع الطرف الآخر. أما التفسير المفصل فيعطي المجال للتفاوض مع الطرف الآخر بشكل منتج.


4. راقب التلميحات غير اللفظية.


وأخيراً، حاول أن تنظر إلى ما هو أبعد مما يتلفظ به المرشح: كيف يعبر عن عواطفه ويقدم نفسه؟ يستذكر الدكتور فؤاد خبراته مع مالك الذي كان مظهره ينضح بالثقة في حين كانت لغة جسده تفضح شعوره بالقوة والتعالي، والتمركز حول ذاته، وقلة اهتمامه بغيره. وحتى لو حاول المرشح إظهار أفضل ما عنده من سلوك، تبقى هناك بعض الإشارات غير اللفظية التي لا تعكس الثقة بقدر ما تعكس قلة الاحترام، والتشامخ، والتقليل من شأن الآخرين: التواصل بالعين عند التحدث وتجاهل ذلك عند سماع الغير، واختراق المجال الشخصي للغير، والتبسم الذي يخفي وراء سخرية بالآخرين.


ينجح الأشخاص الذين يديرون مقابلات التوظيف في تجنب الوقوع في شرك الانطباعات الأولى أو الحدس المجرد حين يدركون العوامل التي تلعب في دائرة اللاوعي وقت المقابلة. وبوسعك استخدام الطرق التي فصلناها آنفًا لتسمع وترى بحدة أكبر وإن كانت الفسحة المتاحة لك للاختيار والمقابلة محدودة، وبهذا تصل إلى تقييم أفضل للمرشحين وتعرف الشخص الأصلح للمنصب الشاغر.