بدأت الأزمة المالية في الولايات المتحدة بتضخُّم وهمي في أسعار المساكن وقروض عقارية محفوفة بالمخاطر(بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، سوء التاريخ الائتماني والأوضاع المالية السلبية المرتبطة بالمتقدمين للرهن العقاري). برزت الرهون العقارية كاستثماراً جذاباً بينما ارتفعت أسعار المساكن، وتَحَوَّل الكثير مِنْ الرهون العقارية إلى دين آخر في شكل سندات مالية بضمان الأصول الأصلية، وأقبلت المصارف والمؤسسات المالية الأخرى، وكذلك المستثمرين، بشغف على شراء وتداول الأوراق المالية في بحثِ لا ينتهيِ عن استثمارات ذات عائد مرتفع. غير أن حملة هذه السندات المالية وَجدتْ أن قيمتها قد انخفضت بشكل حاد. وجاء هذا التدنى ليعزّز نفسه، في شكل استعداد مُتناقِص للإقراض وتسبب حَبْس الرَّهْن العقاري في مزيد مِنْ التخفيضات في الأسعار. أضرّت الخسائر الناجمة عن هذه السندات بقدرة المؤسسات المالية على تمويل المشاريع التجارية، مما أدى إلى آثار انكماشية ضخمة على الاقتصاد الحقيقي. وهكذا انفجرت فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة.
الأسباب
مما لا شك فيه، سيُناقِش المؤرخون الإقتصاديون لسنواتِ قادمة أسبابِ الأزمةِ الماليةِ العالميةِ. كان الاقتصاد الكليّ هو العامل السَبَبيّ الرئيسي، ولكن التنظيم الملائم لَرُبَّمَا ساعد في تجنُّب أو التخفيف مِنْ حدة الأزمة. انخفاض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، اليابان، وغيرهم، سياسات سعر الصرف فى الصين، نمو الثروة النفطية وغيرها مِنْ الموارد في صناديق الثروة السيادية، كلها عوامل ساهمت في زيادة السيولة، والتي بدورها ساهمت في نشوء فقاعة الأصول لأنّ مُعظم هذه السيولة الفائضةِ صَبّتْ في الإسكان الأمريكي. كان هناك قدراً كبيرً مِنْ المالِ الرخيصِ، وكان لا بد مِنْ استثماره. ليس ذلك فحسب، بل لأن كان هناك الكثير مِنْ المالِ الرخيصِ، سعي المستثمرون باستمرار إلى زيادة العائداتِ. وأولئك الذين تعهّدوا بعائدات أعلى تمكَّنوا مِنْ جذب مريدين كثَّر وفرض رسوم كبيرة.
خلال الفترة التي سبقت الأزمة، كان لقطاع الإسكان في الولايات المتحدة خصائص فقاعة كلاسيكية. بدءاً مِنْ أواخر عام 2003، إزداد بسرعة إصدار الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، ووفقاً للمتطلبات المُحدَّدة مِنْ قِبل وكالات التصنيف مثل موديز وستاندرد اند بورز، تلقت عادةً هذه السندات أعلى التصنيفات الائتمانية. تَنافستْ وكالات التصنيف مع بعضها البعض على التجارة المربحة، وغالباً ما إعتمدتْ على التجربةِ التاريخيةِ، وليس على نماذج متطورة التي شملت إمكانيةَ حدوث فقاعة أصول، لتحديد الجدارة الائتمانية لهذه القروض. وبذلك تَغيّر نموذج الربح للعديد مِنْ المؤسساتِ الماليةِ مِنْ فَرَضِيَّة الفرق بين تكاليف الاقتراض والإقراض (سعر الفائدة) إلى وضع مَبْنِيٌّ على أساس التداول ورسوم الخدمات المهنية. جلب هذا التغيير في إدارة العمل التجاري معه تغييرات في مَنْظومة الحوافز بتقديم مكافآت للمديرين التنفيذيين الذين حققوا هذه الرسوم والأرباح التجارية.
تعرضت إدارة العديد مِنْ المؤسسات المالية لضغط شديد مِنْ خلال النموذج المَبْنِيّ على أساس التداول ورسوم الخدمات المهنية، الدافع لتَرويج الأعمال التجارية الأكثر ربحاً، الضغط التنافسي الناجم عن أنشطة محفوفة بالمخاطر مِنْ قِبَل شركات أخرى، وعدم القدرة على وضع نموذج مُقْنِع ذو مخاطر طويلة الأجل. في ظل هذه الظروف، لم يتمكن المساهمين، مجالس الإدارة، والإدارة العليا مِنْ تقييم وتقليل المخاطر التي تحملتها مؤسساتهم. في شهادته أمام الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول 2008، صرّحَ ألان غرينسبان، الرئيس السابق للمصرف الاحتياطى الفيدرالى الامريكى، قائلاً "البعض منا الذين وضعوا نُصْبَ أعْيُنِهم المصلحة الذاتية لمؤسسات الإقراض لحماية حقوق المساهمين- وأنا على وجه الخصوص- هم الآن في حالة مِنْ الذهول وعدم التصديق". هذه إدانة صريحة لآليات إدارة الشركات الأمريكية.
العلاج
أولاً، ينبغي أَنْ تَكُون إدارة الاقتصاد الكلي مؤهلة للتَعرُّف على فقاعاتِ الأصولِ وقادرة على حشد الإرادة السياسية للرَدّ عليها. ثانياً، يجب أَنْ ننتبه إلى أنّ الإصلاحات التنظيمية غالبا ما تكون ذات دوافِع مُسايِرة للاتجاهات الدورية: مُشدِّدة على الظواهر الخطرة. ثالثاً، يجب أَنْ يكون التنظيم المالي مفهوماً كاستجابة مُحدَّدة لعدم توافق نظام الحوافز الإستثنائي فيما يتعلق بالمؤسسات المالية. ويجب أَنْ نعلم أَنْ القواعد الحاكمة للشركات قد لا تكون وحدها كافية لكبح جماح إدارة قصيرة النظر. يجب علينا أيضاً أَنْ نعترف بأنّ المساهمين في المؤسسات المالية قد لا يكون أنفسهم لديهم حوافز كافية للتأكد مِنْ أن المؤسسات المالية تَتجنّب المخاطر الزائدة: البقية منا قد يستوعبوا، مِنْ خلال التأمين على الودائع وضمانات الحكومة، العناصر الهامة مِنْ المخاطرة. وغالبا ما يتطلب هذا الخطر المعنوي استجابة تنظيمية.
الإستجابات التنْظيمية الضرورية
القانون التنْظيمي المحلي غالباً ما يكون ضرورياً عندما لا تتحمل الشركات التجارية أو أولئك الذين يتولون إدارتها مَغَبَّة أعمالهم. بالاضافة إلى ذلك، يُصبِح التنْظيم الدولي مطلوباً حينما لا تتحمل الدول عواقِب إجراءاتهم التنْظيمية. المُؤثِرات الخارجية العرضيّة قد تحدث مِنْ خلال العَدْوى: على سبيل المثال، تحتفظ المؤسسات المالية بشبكة علاقات دولية كثيفة بين المصارف، وفشل بنك واحد قد يضُرّ بالآخرين. المؤثرات الخارجية العرضيّة قد تحدث أيضاً مِنْ خلال المنافسة التَنْظِيمِيّة: مثلا، عندما تُقَلِّل دولة مِنْ معاييرها القياسية, فإنها قد تزيد على المدى القصير القدرة التنافسية لمؤسساتها المالية، ولكنها تفرض ضرراً تنافسياً على مؤسسات مالية خارجية. وأخيراً، ركود اقتصادى أمريكى له تداعيات في جميع أنحاء العالم مِنْ خلال آلية التجارة والاستثمار.
ما هو نَوْع الاستجابة التنْظيمية الدولية المطلوبة الآن؟ يتعيّن على الدول أن تتصرف بقدر أكبر مِنْ المسؤولية بشأن تنظيم قدرة مؤسساتها المالية على الوفاء بجميع الديون مِنْ أجل الحد مِنْ مخاطر العدوى. وقَدْ يكون مِنْ المناسب أنْ تتفق الدول على صعيد هذه المسؤولية.
ولكن ذلك لَنْ يَكُونَ كافياً. مَسْأَلَة القواعد الحاكمة للشركات التي تُحفّز الشركات على تَحَمُّل مخاطر مُفْرِطة لابد مِنْ معالجتها، إما عن طريق التدخل الحكومي أو مِنْ خلال التنظيم الذاتي مِنْ قِبَل قطاع الخدماتِ الماليةِ. سوف تكون هناك حاجة إلى استجابة تنظيمية دولية لضمان أن البلدان لا تملك حوافز للحد مِنْ التنْظيم مِنْ أجل تعزيز القدرة التنافسية للشركات الخاصة بهم. قواعد بازل لتنظيم رأس المال جاءت جزئياً بدافع مِنْ هذا القلق، ولكن هناك المزيد مِنْ العمل الذي يتعين القيام به.
وفي النهاية، سوف تكون هناك حاجة لمزيد مِنْ الرصانة والاعتدال في إدارة الاقتصاد الكلي، والمزيد مِنْ الإنتباه لمخاوفِ الدولِ الأخرى فيما يتعلق بإدارة الاقتصاد الكلي الوطني، لتجنب أوضاع تؤدي إلى فقاعات أصول أو غيرها مِنْ الأزمات على مستوى الاقتصاد الكلي.