الفصل الثالث
قنوات انتقال الحضارة العربية الإسلامية
إلى أوربا والعالم
دور الأندلس وصقلية:
إذا أضحى من البديهيات الشائعة بيان الأثر الحضاري العام للعرب والمسلمين في أوربا،
فقد يكون من الصعب فصل تأثير الأندلس وحدها، فالوشائج أكثر تعقيدًا واتصا ً لا من أن تفصل،
لكن تبقى الأندلس أهم المعابر التي تدفقت منها علوم المسلمين نحو أوربا؛ ذلك لأنها بمثابة البنت
الكبرى للحضارة الإسلامية، وقد شكلت المركز المتقدم لها على الأرض الأوربية ذاتها، وحينما
أفل نجم المسلمين بالأندلس،لم يستطع الملوك الإسبان المسيحيون الوقوف أمام تلك الحضارة،
فأخذوا يغترفون منها ويأخذون بمظاهرها. ولذلك كان للأندلس دور عظيم في نقل الحضارة
الإسلامية إلى أوربا، وبوجه خاص ما يتعلق بالعلوم العقلية والتطبيقية كالفلسفة والطب والفلك
والرياضيات....
وعرب الأندلس وحدهم، هم الذين صانوا في القرن العاشر من » : يقول غوستاف لوبون
الميلاد، وذلك في تلك الزاوية الصغيرة من الغرب، العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان،
حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن بلاد يمكن الدرس فيها غير الأندلس
العربية، وذلك خلا الشرق الإسلامي طبعًا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى
القليلون لطلب العلوم في الحقيقة، ونذكر منهم جربرت الذي صار بابا في سنة ٩٩٩ م باسم
سلفستر الثاني، والذي أراد أن ينشر في أوربة ما تعلمه فعد الناس عمله من الخوارق واتهموه
.« بأنه باع روحه إلى الشيطان
وقد تعددت الوسائط والقنوات التي تم من خلالها نقل الثقافة العربية والإسلامية من الأندلس
إلى أوربا. وكان من أهمها: المستعربون واليهود والمدجنون، إضافة إلى الوفود والبعثات،
وحركة الترجمة، وفيما يلي عرض موجز لهذه الوسائل والقنوات:
أ- المستعربون:
وهم نصارى الإسبان الذين كانوا يعاشرون المسلمين ويتكلمون العربية مع احتفاظهم بدينهم،
وكان العرب يسمونهم بعجم الذمة، أما من كان لهم عهد منهم فقد سموا بالمعاهدين.
وقد كان المستعربون يمارسون في الأندلس أشغا ً لا علمية وعملية مختلفة، ربما أ  هلت
بعضهم إلى أن يصبحوا من ذوي النفوذ، وكان السواد الأعظم منهم يقيم في قرطبة وإشبيلية،
وأكثرهم في طليطلة، إذ كانت عاصمة القوط القديمة والحاضرة الدينية لشبه الجزيرة الإيبيرية،
كما أنهم درجوا على أن يعيشوا في أحياء خاصة بهم في المدن، وإن كان ذلك لم يمنعهم من
مخالطة السكان.
والمستعربون بحكم معرفتهم للغتين العربية واللاتينية كانوا أداة اتصال بين شطري إسبانيا،
و منذ الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية لم ينقطعوا عن الهجرة إلى الأراضي المسيحية،
- ١١٣٤ م) والموحدين ( ٥٢٠ - ٥٢٠ ه - ١٠٩١ - وقد كثر ذلك في عهد المرابطين ( ٤٨٤
١٢٢٣ م)، فهاجر سكان بلنسبة منها إلى قتشالة سنة ١١٠٢ م - ٤٩٦ ه، - ٦٢٠ ه- ١١٣٤
وخرجت طائفة كبيرة منهم من غرناطة تبلغ عشرة آلاف مع جيس ألفونس الأول ملك أرغون
إبان حملته سنة ١١٢٥ م - ٥١٩ ه التي اجتاح فيها بلاد الإسلام حتى أدرك قرطبة وإشبيلية،
وخرجت طائفة أخرى من إشبيلية إلى قشتالة سنة ١١٤٦ م - ٥٤١ ه، وكان من شأن هذه
الهجرات وأمثالها انتشار الثقافة الإسلامية والعربية بين أهل الشمال من المسيحيين.
وقد أ  هلت معرفة المستعربين باللغتين العربية واللاتينية أن يقوموا بدور المترجمين والسفراء
في هذا الصدد أن الأسقف « جنثالث بالنثيا » بين حكام الأندلس وبين نصارى الشمال. ويذكر
كان سفيرًا لعبد الرحمن « ربيع بن زيد الأسقف » أو رسيسموند الذي يسميه العرب « ريكيموندو »
إمبراطور ألمانيا. ولا شك في أن « هوتو » ٩٦١ م) لدى - ٣٥٠ ه - ٩١٢ - الناصر ( ٣٠٠
هذه السفارات كانت إحدى القنوات التي عبرت من خلالها الثقافة العربية والإسلامية إلى إسبانيا
النصرانية.
تفضيل الأزمان » : وهذا الأسقف ربيع بين زيد القرطبي، صّنف كتابًا في الفلك بعنوان
ذكر فيه من منازل القمر وما يتعلق بذلك ما » : قال عنه ابن سعيد الأندلسي ،« ومصالح الأبدان
ويبدو لنا أن هذا الكتاب كتب باللغة العربية، لأن ابن سعيد ذكره في ،« يستحسن مقصده وتقريبه
سياق سرده للكتب التي صنفها أهل الأندلس في شتى العلوم، ويعتقد جنثالث بالنثيا أنه ُترجم إلى
اللاتينية، ويظن أن الذي ترجمه هو جيرارد الكريموني الذي كان له دور كبير في ترجمة كثير
من الكتب العربية إلى اللغة اللاتينية.
« ملحمة السيد » ويوجد كتاب هام لأحد المستعربين يدل على وجود هذا التأثير وهو كتاب
الملقب بالقنبيطور (أو قميطور) (أو الكنبيطور)، ومعناه يساوي كلمة: المبارز العربية، واسمه
ويذهب الدكتور الطاهر مكي في دراسته لهذه الملحمة .« رودريجو دياث دي بيبار » الحقيقي
إلى أنها تأثرت بالثقافة العربية لا في حدود الألفاظ والتعابير اللغوية وحدها، وإنما أيضًا في
النظم والتقاليد الإسلامية، كتقسيم الغنائم وفقًا للشريعة الإسلامية، وطريقة القتال ودفع الدية في
حالات القتل الخطأ، وغير ذلك من مظاهر الحضارة الإسلامية، إضافة إلى ما في بعض قصص
وغيرها من « ألف ليلة وليلة » هذه الملحمة مما هو من أصل عربي أكيد، كما في قصص
الحكايات الشعبية.
وقد كان للمستعربين إسهام في نقل علوم الرياضيات إلى إسبانيا النصرانية، فالأعداد الهندية
التي وضع قواعدها محمد بن موسى الخوارزمي البغدادي (ت ٢٣٦ ه)، وصلت إلى الأندلس
ت ٨٥٩ م)، كما تبين من ) « إيولوخيو القرطبي » في القرن الثالث الهجري وعرفها القديس
عام ٢٧١ ه - ٨٨٤ م، وهي محفوظة اليوم في (Oviedo) مخطوطات مختلفة وجدت في أوبيط
وهذا الباحث يرى أن إسهام .(Juan Vernet) مكتبة الأوسكوريال كما يقول جوان فيرنيه
المسلمين العلمي انتقل إلى الغرب خلال فترتين محددتين، الأولى منهما في النصف الثاني من
القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي، وترجع إلى الترجمات التي اضطلع بها المستعربون
في قطالونية، وفي مدينة برشلونة. (Ripoll) في الأديرة، مثل دير ريبول
هذا وقد اهتم الباحث الإسباني خوسيه ماريا مياس بييكروسا بدراسة اهتمام المستعربين في
الأندلس بالعلم، وأوضح أن الثقافة اللاتينية كانت حتى القرن الخامس الهجري - الحادي عشر
الميلادي بعيدة عن النشاط العلمي في الأندلس، ولم يكن لأصحابها علم واسع بالحساب أو
الرياضة كالعرب، وما كانوا يعرفونه في هذا المجال لا يعدو إلا أن يكون جهودًا أولية بجانب ما
ظهر عند مسلمي الأندلس في ذلك الوقت، ولذلك فليس من الغريب أن يحمل مستعربو الأندلس
هذا العلم إلى ممالك أرغونة وليون وكونتية برشلونة.
ب - اليهود:
أما اليهود فقد كان نشاطهم مؤثرا وكبيرًا في نقل التأثيرات الحضارية بين الأندلس الإسلامية
وإسبانيا النصرانية في جميع مجالات الحياة، سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية، وذلك
لأنهم كانوا يجيدون - بالإضافة إلى اللغة العبرية - اللغتين العربية واللاتينية. وكان منهم التجار
والحرفيون والمترجمون، وشاركوا في مناصب الدولة فكان منهم الوزراء والكّتاب والسفراء،
ونبغ عدد كبير منهم في الطب والفلسفة والفلك والرياضيات والموسيقى.
وقد نزل جماعة من اليهود ببلاط وليم النورماندي في إنجلترا (عام ١٠٦٦ م) فاحتفى
بوجودهم، وكان لهم إسهام بارز في إنشاء مدرسة أكسفورد، حيث س ّ خروا علومهم ومعارفهم
التي اقتبسوها من مسلمي الأندلس في تنظيم المناهج والدروس العلمية في تلك المدرسة، وفي
الثقافة العربية ونهل من علوم العرب التي هدته إلى أهمية « روجر بيكون » هذه المدرسة تلقى
المنهج التجريبي في العلوم.
أما عن أبرز مترجمي اليهود في إسبانيا فيأتي في مقدمتهم - في القرن الثاني عشر
الميلادي - السادس الهجري - إبراهام برحيا هانسي، والذي ظهر في برشلونة، وأسهمت
ترجماته وتآليفه في نقل التراث العلمي العربي إلى أوربا. ونبغ منهم أيضًا في ميدان الترجمة
إبراهيم ابن عزرا، الذي  ولد في طليطلة ( ١٩٧ م)، و ترجم شرح أحمد بن المثنى بن عبد
الكريم على زيج الخوارزمي البغدادي (ت ٢٣٦ ه)، وأّلف رسالة في الحساب يعرض فيها
كيفية العمل بالأرقام العربية والصفر.
وبرز منهم في القرن الثالث عشر الميلادي - السابع الهجري يعقوب بن أبا ماري، وكان
( أول من ترجم كتب ابن رشد (ت ٥٩٥ ه) إلى العبرية. وموسى بن طبون، الذي ترجم ( ٣٠
كتابًا من العربية إلى العبرية في مرسيليا ( ١٢٨٣ م)، من أهمها: كتاب الأصول في الهندسة
لأوقليدس، والقانون وأرجوزة في الحميات لابن سينا (ت ٤٢٨ ه)، والترياق للرازي (ت
٣٢٠ ه)، وثلاثة مؤلفات لابن ميمون (ت ٦٠٠ ه)، والشروح الصغرى على كتب أرسطو
لابن رشد (ت ٥٩٥ ه)، وزاد المسافر لابن الجزار (ت ٣٦٩ ه)، والعمل بالكرة ذات الكرسي
لقسطا بن لوقا (ت ق ٤ه)، وكتاب الزرقالي (ت ٤٨٠ ه) في العمل بالصفيحة، وكتاب ابن
الهيثم (ت ٤٣٠ ه) في هيئة العالم، وكتاب ابن الصفار (ت ق ٥ ه) في العمل بالإسطرلاب،
وغير ذلك من الكتب.
ومن مشاهير المترجمين اليهود: موسى الأربوبي، وليفي بن جرسون ( ١٣٤٤ م)، ويهوذا بن
سلمان الحريزي، وهذا الأخير  ولد بالأندلس، ثم ارتحل إلى شمالها، حيث توفر على دراسة
الثقافة العربية، ثم نبغ في ميدان الترجمة، ونشط في ترجمة كثير من الكتب العربية إلى العبرية،
فكان يتجول في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا، فترجم مقامات الحريري (ت ٥١٥ ه) من العربية
إلى العبرية، وأدب الفلاسفة لإسحق بن حنين (ت ٢٩٨ ه) ودلالة الحائرين لموسى بن ميمون
(ت ٦٠٠ ه).
وقد أدى اليهود دورهم في نقل التأثيرات الحضارية بين مسلمي الأندلس ونصارى شمال
إسبانيا وجنوب فرنسا، وكانوا حلقة من حلقات الاتصال بين الجانبين.
ج - المدجنون :
ولا يمكن تصور التأثير الإسلامي في إسبانيا النصرانية إلا بمعرفة الدور الذي قامت به
الجماعات الإسلامية في البيئة المسيحية، فقد مّثلث صورة حية للإسلام بنظمه وتقاليده وثقافته.
وقد أُطلق على تلك الجماعات التي كانت تعيش في حماية الدولة المسيحية نتيجة لحروب
الاسترداد المستمرة اسم: المدجنين، وهم المسلمون الذين أقاموا في الأراضي المستردة.
49
ثانيًا - صقلية وجنوب إيطاليا:
١١ م، وعندما استولى النورمان عليها - حكم العرب صقلية قرابة ثلاثة قرون من القرن ٩
١١٥٤ م) ملك صقلية معجبًا بالحضارة - تأثروا بالحضارة العربية، فكان روجر الثاني ( ١١٣٠
العربية، وقد ألف له الإدريسي كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، كما صنع له كرة
أرضية من الفضة، وفي عهد ابنه روجر نظمت حركة الترجمة عن العربية وقد ضم بلاطه
عددًا من المترجمين لكتب الطب والفلك ومنهم جيرار الكريمون الذي ترجم المجسطي من
العربية إلى اللاتينية، وقد ترك العرب في صقلية قصورًا ومساجد ومصانع للورق والنسيج
الحريري، واتخذ النورمان من كل ذلك قدوة لصناعاتهم. أما أول رائد لحركة الترجمة في
جنوب إيطاليا فقد كان تاجرًا تونسي الأصل، اهتم بالطب وزار سوريا والعراق والهند ثم أبحر
إلى جنوب إيطاليا حام ً لا معه شحنة من المخطوطات، ودخل سلك الرهبنة وأطلق على نفسه اسم
قسطنطين الأفريقي عام ١٠٨٧ م، ثم اعتكف في دير قرب بالرمو وانكب على ترجمة الكتب إلى
اللاتينية، وكان عمله هذا أساسًا لمدرسة ساليرنو في الطب والتي اتجهت إلى دراسة الطب
المغربي.
لقد ظهرت أيد أخذت على عاتقها التمثل بالشكل العربي وإناطة أمر الإشراف على قضايا
الصحة العمومية في أوروبة بجماعة مفتوحة الصدر لرغبات المرضى، ومتحررة من المعتقدات
الخاطئة كلها.
وكانت صقلية مسرحًا لأول مقابلة حاسمة في هذا المعنى بين ما حققه العرب في هذا
الميدان وبين الغرب، فبعد مائتين وخمسين سنة من السيطرة العربية على تلك الجزيرة أصبح
أمر اعتناء الدولة بالصحة العامة حقًا مكتسبًا لدى جماهير الشعب. ولما جاء النورمانديون،
وعلى رأسهم ملكهم روجر الثاني، صادق على هذا الحق، وأصدر قانونًا في عام ١١٤٠ م يقضي
بامتحان الأطباء، قبل إعطائهم الترخيص، تمامًا كما فعل من قبله بزمان طويل الخليفة المقتدر
.« حتى لا تصبح سلامة رعاينا في خطر بسبب جهل في المعالجة » ، بالله في بغداد
وفي عام ١٢٣١ و ١٢٤٠ م أكد الإمبراطور فردريك الثاني على تنظيم العرب لسلكي
الأطباء والصيادلة بقوانينه التي أصدرها، وقد جاءت فيها إعادة حرفية لتعليمات الملك روجر
عن امتحان الأطباء على أيدي أساتذة ساليرنو، كما فيها، كذلك، تأكيد على مدة الدراسة البالغة
ثماني سنوات، وعلى ضرورة مناقشة الأطروحة بحضرته شخصيًا، وقد ف  رق أيضًا بين مهنتي
الطبيب والصيدلي، وكما كان عند العرب، كذلك كان هناك تفتيش على الصيادلة وتحضير
الأدوية....
لقد كانت هذه الإجراءات، بالنسبة إلى بقية البلدان الأوروبية، شيئًا غير مقبول، لأن الكنيسة
قد رأت في ذلك تهديدًا مباشرًا لمصالحها، وكيف لا ترى هذا، وقد أصبح حل هذا الموضوع
وربطه منوطًا بالدولة في شخص رئيسها، فالأطباء والصيادلة يقسمون اليمين أمام الإمبراطور
ولا يعملون إلا بترخيص منه، تمامًا كما تعمل البيمارستانات والصيدليات بإشرافه. ولم ير البابا
غريغوريوس التاسع بدًا من إصدار تحذير علني صريح للإمبراطور يحذره فيه: أن لا يشتط في
أعماله، فيعتدي على حقوق الكنيسة.
ومع ذلك فقد صارت قوانين فردريك الثاني، فيما بعد، هي القوانين المعمول بها في البلاد
الأوروبية، وكانت بمثابة الخطوة الأولى نحو العصر الحديث بعد ليل العصور الوسطى المدلهم.
وهكذا نجد أن رأس الجسر الذي انتقل بالطب وصناعة الصيدلة من العصور الوسطى إلى
العصور الحديث، كان من صنع العرب في القرنين الثامن والتاسع الميلادي، ذلك، أن البلاد
الأوروبية الكائنة في شمال جبال الألب لم تعرف الصيدليات بمفهومها العربي والحديث إلا بعد
التي كانت تتردد بين حين وآخر في المخطوطات (Apotheea) وقت طويل، وما كلمة أبوتيكا
القديمة، إلا مرادفًا لدكان حوى كل شيء، ولم تدرج هذه الكلمة بمعناها الحقيقي إلا فيما بعد.
وبعد احتلال جزيرة صقلية ظهرت حاجة النورمانديين لأسطول يحميها كما كانت الحال أيام
العرب، وكان من الطبيعي أن تكون بالرمو المدينة البحرية والعاصمة، هي مركز الأسطول،
وأن يختار أميرها أميرًا أي أدميرا ً لا، وفي حكم روجر الثاني كان منصب الأدميرال هو أعلى
مناصب الدولة، وكان أول من تولى هذا المنصب ليس قائدًا من قواد السفن النورماندية القدامي،
بل رج ً لا عربيًا هو عبد الرحمن النصراني الذي تسمى باسم إغريقي كاثوليكي هو
كريستودولوس، والذي قاد الأسطول والمشاة أيام حكم والد روجر، فأضاف روجر الثاني إلى
مهامه وظيفة كبير القضاة.
وارتفعت مكانة الأدميرال الثاني في مملكه النورمانيين، وكان هو الآخر عربيًا يدعى جورج
الأنطاكي الذي أوتي موهبة في الإدارة والشؤون العالية جعلته في صدر شبابه وزيرًا، وكان
الوزير الفتى الذي يهوى المغامرة ويجيد أكثر من حرفه قد عرض خدماته على بلاط
النورمانديين بعد وفاة سيده خشية من نيات الحاكم الجديد، ورغبة منه في الهرب من وجهه،
ولقد وجد روجر الثاني في جورج ذاك الرجل المغامر الذي تحتاج إليه دولته. ولقد لاقى جورج
في بالرمو نجاحًا مماث ً لا للنجاح الذي لاقاه وهو فتى مغامر في صدر شبابه، فعهد إليه عبد
الرحمن النصراني، في أول الأمر، شؤون الإدارة، ولكن موهبته السياسية والمالية التي ظهرت
جلية في بعثته الموفقة إلى سلطات مصر، زادت إعجاب روجر به، فعهد إليه بقادة مجموعة من
سفن الأسطول، ولم يلبث جورج أن تولى رئاسة الأسطول كله متخطيًا كل أقرانه، وقد لاقت
البحرية على يد جورج الذي لم يلبث أن أصبح أمير أمراء البحر، عدة إصلاحات وتنظيمات
توخى فيها النظام العربي المنبع آنذاك مما جعلها سلاحًا قويًا استطاع أن يغزو به شمالي إفريقية
ويحتل أهم موانئها التي عمل فيها في صدر شبابه.
إن هذا العربي الماهر، الذي قدم لدولة النورمانديين هذه الخدمات الجليلة، صار من أقرب
المقربين إلى الملك، فطوال أربعين عامًا خدمها بإخلاص احتضنه الملك أكثر من أي واحد آخر
من رجال بلاطه، وذلك لنزاهته وشخصيته الممتازة وحسن تقديره للمسؤولية. فنراه يتحدث عنه
وعندما وافاه أجله بعد ذلك ،« بالشخصية الأولى في المملكة كلها » مث ً لا في عام ١١٣٢ م ويسميه
لن يجد ملك صقلية » : العام بعشرين سنة لم يتمالك الناس، حتى من كانوا يعادونه، من أن يقولوا
.« من يسد الفراغ الذي تركه موت ذلك الرجل العظيم
ألا تحمل مثل تلك الصداقة التي ربطت ملك صقلية برجال ممتازين من العرب، ولمسه
لمقدرتهم الفذة وثقافتهم الواسعة وتقديره لرجولتهم وشهامتهم، على أن يحب العرب عامة
ويجلهم؟ لقد حدث هذا بالفعل فكان العرب دائمي التردد على الملك، يناقشهم ويستفيد من علمهم
ويتخذ من علمائهم وشعرائهم جلساء له ويشجعهم على ترجمة الكتب العربية والإغريقية
المعربة، بل وينضم إلى جانب العرب حين تحدث منازعات بينهم وبين المسيحيين. وقد كتب
.« وأكرم المسلمين، وق  ربهم ومنع عنهم الفرنج، فأحبوه » : عنه المؤرخ العربي ابن الأثير قائ ً لا
لقد أحبه العرب من قلوبهم، فعند وفاة أكبر أولاده، أظهر العرب حزنهم الشديد عليه ورثاه
شعراؤهم، بل إن سيدات الأسر العربية لبسن السواد وتركن شعورهن حزنًا على وفاته، والتففن
حول القصر ناحبات، وسارت خادماتهن في الشوارع ترتلن مقطوعات الرثا. لقد رسم العرب
لروجر صورة خالدة، إن هذه اللوحة تنطق بحبهم له كمؤسس للدولة ومشرع ومحب للعلوم
والرياضيات والجغرافية وعاشق للفنون.
والفضل يرجع للعرب في جعلهم من روجر الثاني أغنى ملك في أوروبة يوم كان أصغر
ملوكها، لقد وفقوا في ذلك بقدرتهم الفائقة على فلاحة الأرض ومهارتهم المتوارثة ونظامهم
المالي الضرائبي الدقيق الذي أخذه عنهم، كما اتبع نظامهم الإداري والقانوني، وتدفقت على
دولته الخيرات من شمالي إفريقية التي ضمها إلى أملاكه أمير أمراء البحر جورج في حملة
موفقة خاطفة، والتي تركها روجر بتسامحه المعروف تحت إدارة سكانها المحليين، فالفضل كل
ملك » : الفضل يعود لذلك العربي الشجاع الذي و  سع رقعة أملاكه ونفوذه، وجعله يزهو باسم
.« صقلية وإيطاليا وشمالي إفريقية
وبسقوط بالرمو في عام ١٠٧٢ م على أيدي النورمان الذين أنهوا سلطان المسلمين واكتملت
سيطرتهم على صقلية، ثم حكموا بعد ذلك ومن تلاهم من الهوهنستوفيين صقلية وجنوب إيطاليا
حتى عام ١٢٥٠ م. وفي عام ١٢٢٤ م أسس الأمير الهوهنستوفني جامعة نابولي، وجلب إلى
مدرسة قصره في صقلية علماء من المسلمين واليهود والمسيحيين ليتكفلوا بترجمة المؤلفات
العربية إلى اللاتينية (في صقلية أيضًا ظهرت لأول مرة في ذلك الوقت مدرسة الشعراء
الإيطاليين)، وفي عام ١٢٢٧ م ضم إلى بلاطه ميخائيل الاسكتلندي باعتباره من أشهر العلماء
المعروفين آنذاك.
وكانت مدرسة ساليرنو الشهيرة في إيطاليا الجنوبية مركزًا للدراسات الطبية على منوال
كبريات المدارس العربية المعاصرة، فقد كان مغاربة صقلية قد أنشؤوا جامعة في بالرمو،
وكانت المدينة تتباهى بأطبائها الكبار الذين كانوا يتمتعون بشهرة عالمية واسعة.
ففي القرن الحادي عشر الميلادي، كان مديرها الرئيس، قسطنطين الأفريقي، التونسي
الأصل، قد غادر إفريقية بعد أربع سنوات من الدراسة، ثم كرس نفسه كليًا لكي ينقل إلى
اللاتينية كتبًا طبية، في ساليرنو أو ً لا، ثم في الرهبنة البنديكتية في مونت كاسان، حيث توفي سنة
١٠٨٧ . وكان قسطنطين الإفريقي قد استخلص من كل العلماء المشاهير كل ما كان من شأنه أن
.« مصلح الأدبيات الطبية في الغرب » يفيد طبيًا في مزاولة مهنته، وبذلك يستحق أن يلقب
ثالثًا- دور فرنسا:
كان الطب العربي يتغلغل في فرنسا، فمنذ القرون الوسطى استقبلت مدينة مونبلييه، الواقعة
بروعتها على الدروب المؤدية من إسبانيا إلى إيطاليا ووادي الرون، استقبلت الأثر العربي
وتمثلته بسرعة فائقة، ومنذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي أخذت مونبلييه تحتك بالعالم
العلمي العربي من جهة إسبانيا، عبر الأطباء اليهود، ومن جهة إيطاليا عبر مدرسة ساليرنو التي
كانت تتبادل معها الطلاب والأساتذة.
كان سالومون السلارني وناثان بن زكريا يدرسان في كلية مونبلييه في منتصف القرن
الثاني عشر الميلادي، وفي القرن الثالث عشر الميلادي أسس البابا هونوريوس الثالث جامعة
مونبلييه رسميًا، وجعلها مرجعية علمية على كل الديار المسيحية، لكن النفوذ العربي - اليهودي
،(Le Bel) طبيب فيليب لوبيل (Armengaud) تواصل أثره لأمد طويل، ومثاله أن أرمنغو
ابن رشد بعدما تعلم العربية في مونبلييه، وفي « شروحات » ابن سينا و « قانون » الذي ترجم
العصر نفسه، تعلم آرنو دي فيلنيف في مدرسة ساليرنو، وبرز كلساني مميز، فراح يدرس في
باريس ثم في مونبلييه حيث ذاعت شهرته في أوربا، واستدعاه على التوالي ملك آرغون والبابا
إليهما. والحقيقة أن الترجمات العربية لم تكن أقل أثرًا وجدوى من أثر المدرسة المباشر. وفي
المنسوب إلى « كتاب النبات » مرسيليا، كان غرون دي بلزانس وأبراهام قد أسهما في ترجمة
غاليان، لكنهما نقلاه عن العربية، وفي وقت لاحق، قام سيمون الجنوي، بترجمة كتاب عن
الأدوية البسيطة. وأخيرًا، عندما أنشأ الملك هنري الثالث سنة ١٥٧٧ م كرسيًا للعربية في المعهد
الملكي، كانت غاية ذلك أو ً لا تشجيع تقدم الفن الطبي في فرنسا، في وقت كانت أوربا النهضة قد
انكبت على دراسة الأطباء العرب، أكثر بكثير من دراسة أبقراط وغاليان.
رابعًا - دور الحروب الصليبية:
كان القرن الثاني عشر الميلادي هو الأهم في نقل مظاهر وعناصر الحركة العلمية من
إلى أوروبا، لأن هذا القرن شهد مرحلة الحروب الصليبية، فخلال هذه الحروب « دار الإسلام »
حصلت عملية تماس إجباري، على مستوى واسع، بين المجتمع العربي الإسلامي من جهة،
وحشود من الأوربيين الغزاة من جهة ثانية، وقد حصل هذا التماس في بلاد الشام بالذات حيث
أنشأ الصليبيون إمارات أوروبية مستقلة في كل من الرها، وأنطاكية، وطرابلس الشام، ومملكة
مسيحية في القدس، وبالرغم من حالة العداء التي كانت تفرض العديد من المعارك والمناوشات
الحربية، فقد قامت علاقات واقعية بين الطرفين، وخاصة في أوقات المهادنة، على المستوى
الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي، وقد كان ما أخذه الصليبيون عنا في هذه المرحلة أكثر
بكثير مما أخذناه عنهم.
وكان من جملة ما أخذوه نظامنا العلمي والتعليمي، وخاصة فيما يتعلق بمهنة الطب، وكيفية
تدريسها، وإجازة الأطباء، وطرق العلاج، والمؤسسات العلاجية (البيمارستانات).
هناك » : ويقول مؤرخ الطب المعروف الدكتور لوسيان لوكليرك في رصد هذه الظاهرة
تفكيران عصفا بأوروبا في القرن الثاني عشر: الأول ديني متعصب دفع الأوروبيين للقيام
بالحروب الصليبية، والثاني متعطش للعلم دفعهم للتفتيش عن منابعه لدى العرب المسلمين،
.« وهذان التياران سارا بالتوازي إلى أقاصي العالم الإسلامي
ونحن، من جهتنا، إذا كنا نحترم هذا القول وصحته وحسن نية قائله، فإننا نرى أن هذين
التيارين لم يسيرا بالتوازي - كما يقول لوكليرك - وإنما تبع أحدهما الآخر، أو بالأحرى خلق
أحدهما الآخر، حيث إن الحملات الصليبية الأولى فتحت عيون العالم الأوروبي على كنوز
الحضارة الإسلامية، وخلقت لديه نهمًا علميًا للحصول على مثيل لها أو تقليدها، وليس هذا الأمر
ظاهرة فريدة في التاريخ إذ إنه في جميع الحروب التي يتصارع فيها شعبان مختلفان في درجة
الحضارة، فإن الشعب الأقل حضارة يأخذ من الشعب الأكثر حضارة منه، وسواء أكان هذا
الأخير منتصرًا أو مهزومًا.
وهكذا يمكننا القول إنه إذا كان القرن الحادي عشر الميلادي قد شهد انتقال بعض مظاهر
الحركة العلمية العربية إلى أوروبا عبر بوابتي الأندلس وجنوبي إيطاليا، فإن القرن الثاني عشر
الميلادي، الذي حصلت فيه الحملات الصليبية الأولى وإنشاء الممالك والإمارات الصليبية، شهد
عملية انتقال مشابهة عن طريق ثغور بلاد الشام المحتلة (أنطاكية، طرابلس، بيروت، صور،
عكا، عسقلان...).
أما ما يذهب إليه عدد من الباحثين إلى أن الحروب الصليبية كانت ضعيفة الأثر في
الاتصال الفكري بين العالمين الشرقي العربي والغربي الأوربي، وأن الأوروبيين لم يفيدوا كثيرًا
من التقائهم بالعرب أثناء هذه الحروب، فلعل ذلك يرجع إلى أن نقل العلوم من أمة إلى أخرى لا
يتم إلا أن يكون بين الأمم تقارب في مستوى الثقافة ونوعها، ولم يكن عند الصليبيين قدر كاف
من الحضارة تسمح لهم باستيعاب العلوم العربية. ويضاف إلى ذلك عامل آخر، وهو أن
الصليبيين قصدوا الأراضي المقدسة للحرب لا لطلب العلم، وامتازت حياتهم في سوريا بما
تتصف به حياة الجنود عادة من خشونة، فلا هم لهم إلا تحصين مواقعهم والدفاع عن كيانهم
والإبقاء على معاقلهم التي أقاموها في الشام وسط محيط إسلامي واسع، ولم تخف وطأة الحرب
بينهم وبين المسلمين إلا بجلائهم نهائيًا عن سوريا سنة ١٢٩١ م، وإذا حدث أن توقفت الحرب
بين الفريقين فترات قليلة من الزمن فإنها كانت تتوقف لتستأنف بعد قليل، وهكذا لم تتح
للصليبيين في الشرق حياة الاستقرار الضرورية لمباشرة النشاط الفكري والحضاري، ولم تتح
لهم فرصة الاتصال السلمي بالعرب كما أتيحت لإخوانهم الأوربيين في صقلية والأندلس.
لكن ينبغي أن نشير إلى أن الصليبيين وإن كانت استفادتهم من علوم العرب والمسلمين أقل
مما يجب، لأن الجيوش الصليبية جاهلة ولم تكن تبالي بالمعارف كما يقول غوستاف لوبون،
فإنهم اقتبسوا من الحضارة الإسلامية في ميدان العمران والصناعة والنظم الاجتماعية والسياسية
أكثر منها في ميدان الفكر والفن، واقتبسوا الشورى وتحرير العبيد وحقوق المرأة والعلاقات
الدولية وأمثالها.
وقد غّذت الحملات الصليبية النشاط الاقتصادي والتجاري في أنحاء منطقة البحر الأبيض
المتوسط. وإن أهم فائدة رجع بها الصليبيون إلى بلدانهم بعد هزائمهم العسكرية، كانت أن أطلعوا
على أوج حضارة العرب المسلمين في العلوم والفنون والعمارة، فاقتبسوا الكثير من أساليب
الحياة المعروفة كأساليب بناء القلاع والحصون، وقد شيدت القصور في فرنسا في القرن الرابع
عشر الميلادي على ذلك الطراز، كما أخذوا عنهم صناعة الورق واستخدام البوصلة
والإسطرلاب وآلات الرصد وأشياء أخرى عفى عليها الزمان وانتحلها كثير من علماء الغرب،
وما لبث الزمن أن كشف حقيقة أصحاب تلك الكتب والآلات والمخترعات، وتم إعادة الحق إلى
أصحابه على أيدي مواطني هؤلاء القوم، مما يدلنا على أن هؤلاء الغربيين ما زال فيهم من لم
تنتزعه العنصرية لتجعله يدور في فلكها، بل حملته الأمانة العلمية أن ينسب الفضل إلى صاحب
الفضل، مما أدى بهؤلاء العلماء أن يعترفوا بأن مجمل الحضارة الغربية إنما قامت على أكتاف
الحضارة العربية وليس في ذلك ما يعيب.
وكان للحروب الصليبية دور هام في تطور بناء الحصون وطرق الدفاع في ألمانية
وبورجندية وفي بناء قصور الإنجليز وتحصينات الفرنسيين، وكان أبرز تلك الطرق الدفاعية في
الحصون الممرات المسقوفة التي تقلل من خطر أي هجوم، والمزاغل البارزة التي تمكن من
الحركة الجانبية مثلها مثل أبراج السور. وتلقف الغرب بسرور بالغ اختراعًا عربيًا آخر من
عصر الجاهلية وهو بناء نوع من الشرفات يمكن من خلال ثقوب منتظمة في قعره صب الزيت
أو القطران المغلي على أجساد الجنود المحاصرين للقلعة.
وأخذ فرسان الحروب الصليبية عن الشرق عادته في تغطية الأبراج بخوذ من الصخور،
ونشاهد ذلك في حصن لآرنا في بلجيكا، وحصن رودل في ألمانية. وحماسة فرسان الحروب
الصليبية في فورمز لكل ما هو شرقي، دفعتهم لتغطية أبراج كنيسة القديس بولس بتلك الخوذ
الحجرية وُنحت في داخلها رسمًا لسفينة الحروب الصليبية. وعلى الرغم من عدم إمكان رؤية
جمال تلك الخوذ لشموخها عاليًا وسط سماء دائمة التلبد بالغيوم، فإنهم لم يكفوا عن تقليدها في
بقية أنحاء ألمانية.
وفي الموضوع نفسه اتخذت أبراج كنائس عصر النهضة في إيطاليا شكلها عن المآذن
الإسلامية، كما استطاع أورن مهندس المباني الإنجليزي أن يقتبس عنها أشكال الأبراج والقباب
الشهيرة التي بناها. كما اتخذ عصر النهضة أشكال القواقع للزخرفة كما كان شائعًا في المساجد
والمآذن.
ولقد نقل الأوروبيون عنا أيضًا، في هذه المرحلة، كثيرًا من العلوم والمؤسسات العلمية
والأنظمة التعليمية، وذلك عبر عمليات التماس التي كانت تحدث بشكل شبه يومي بين الطرفين،
وهذا التماس مكن عددًا كبيرًا من الأوروبيين من تعلم اللغة العربية وإجادتها، وهذا ما أ  هل
هؤلاء للبدء بحركة ترجمة متنامية من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية أو ً لا، ثم إلى غيرها من
اللغات - وخاصة الألمانية والإيطالية والفرنسية - بعد ذلك.
وعلى سبيل المثال يمكننا القول إن ك ً لا من أنطاكية وطرابلس الشام، قد عرفا، خلال فترة
الحكم الصليبي لهما، حركة ترجمة نشيطة من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، وكان أهم
الكامل في » المترجمين في المدينة الأولى إيتيين الأنطاكي، الذي ترجم في عام ١١٢٧ م كتاب
Regalis لعلي بن العباس الأهوازي، وذلك تحت عنوان « الكتاب الملكي » أي « الصناعة
الذي ،Philippe De Tripoli : أما في طرابلس فقد ظهر فيها فيليب الطرابلسي .disposito
لأرسطو إلى اللغة اللاتينية، ولكن ليس عن «Secret Secretorum سر الأسرار » ترجم كتاب
كتاب السياسة في تدبير » : لغته الأصلية وهي اليونانية، وإنما عن ترجمة عربية له تحمل عنوان
وبهذا يمكن التأكيد على صحة الرأي القائل بأنه لولا الترجمات العربية لما تمكن ،« الرئاسة
العلماء والفلاسفة الأوروبيون في القرن الوسطى - وعلى رأسهم القديس توماس الأكويني - من
الاطلاع على كتب الفلسفة اليونانية، وخاصة كتب أرسطو.

سابعًا- ترجمة الكتب العربية:
شهد القرن الحادي عشر الميلادي في أوروبا انتعاشًا في الحياة الثقافية، ومع نمو حركة
التجارة والتصنيع بدأت أيضًا الطبقة المتوسطة المقيمة في المدن في الظهور، وأبدت اهتمامًا
متزايدًا بالقضايا العلمانية والمادية.
كما أن النمو الاقتصادي المواكب لظهور طبقة متوسطة أكثر غنى قد أثرى موارد الكنيسة
الكاثوليكية الرومانية، ونشأ عن ازدياد الموارد المالية تحت مركزية السلطة الملكية إنشاء شبكات
نقل واتصالات أفضل واقتصاد أكثر إنتاجية، وقد استخدمت هذه الوسائل، مع غيرها، لتحسين
التعليم.
كانت الكنيسة هي الراعية الوحيدة للمعرفة والتعليم في أوروبا القروسطية، وكان هدف
المدارس الكاتدرائية محدودًا في إعداد الكهنة والقسيسين، ومستوى تعليم العلوم في هذه المدارس
كان منخفضاً لا يتجاوز العمليات الحسابية الأساسية، وفروض إقليدس (من دون براهين)،
ومعارف فلكية معظمها من فولكلور القبائل الجرمانية، وهندسة أولية، وكيمياء قائمة أساسًا على
التعدين وصباغة الملابس، ومع ذلك، فإن هذه المدارس الكاتدرائية هي التي قامت عليها
الجامعات، ودخلت المعرفة الإسلامية إلى الغرب من خلال تلك المدارس والجامعات.
كان القرن الثاني عشر الميلادي وأوائل القرن الثالث عشر أعظم فترة انتشر خلالها العلم
الإسلامي في الغرب. وقد أعطت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر
الميلادي الدفع الضروري لنمو العلم الأوروبي، سواء كانت تلك الترجمات من أعمال إغريقية
أو إسلامية. إلا أنه قبل القرن الثاني عشر الميلادي كان هناك بعض الحالات المنفردة لانتشار
المعرفة الإسلامية في أوروبا، أشهرها يتعلق باثنين هما جربرت الأوريلاكي - الذي عرف فيما
بعد باسم البابا سلفستر الثاني - وقسطنطين الأفريقي. أما جربرت الذي توفي عام ١٠٠٣ م بعد
أن قضى فترة قصيرة في البابوية؛ فقد درس لسنوات عدة في إسبانيا المسيحية وأصبح ملمًا
بالتراث العربي الذي ربما قرأه عن طريق الترجمات اللاتينية للمخطوطات العربية. ويبدو أنه
تابع بدايات انتشار المعرفة بالإسطرلاب إلى أوروبا، إلى جانب اهتمامه بالرياضيات. وكان
أو لوبيتوس وزملاؤه في دير ريبول في قطلونية قد نشروا في نهاية القرن العاشر « لوبيه »
وبداية القرن الحادي عشر الميلاديين مؤلفات لاتينية عن آلة الأسطرلاب، مستوحاة بكل تأكيد
من مصادر عربية.
حصل جربرت على هذه المؤلفات أثناء زيارته للدير في عام ٩٦٧ م، وربما حمل معه نسخًا
منها إلى فرنسا، كانت هذه المؤلفات أولية وتحتوي على أخطاء عديدة، فض ً لا عن أنها لم تعرض
إلا لأبسط المسائل، وكانت مليئة بكلمات عربية غير مفهومة المعنى، وأحيانًا بعبارات مشوهة لا
تؤدي المعنى، ولم تظهر أعمال أوروبية ذات قيمة حقيقية عن الإسطرلاب حتى القرن الثاني
عشر الميلادي.
وأما قسطنطين الأفريقي، الذي توفي عام ١٠٨٧ م، فإنه سافر إلى بلاد كثيرة في شمال
أفريقيا والشرق الأوسط، حيث أطلع على خبرات علماء المسلمين، لكنه، لسبب ما، أصبح
شخصًا غير مقبول في بلده تونس، ولجأ إلى ساليرنو في إيطاليا، وترجم مؤلفات حنين وابنه
اسحق لكنه نسبها إلى نفسه من دون أن يشير إلى مصادره، وكانت ترجماته محل نقد لاذع
بسبب تصرفه الزائد في تفسير المخطوطات، وقام ستيفن الأنطاكي بتصويبها حوالي
عام ١١٢٧ م. وكان ستيفن ينتمي إلى نوع جديد من المترجمين الذين اعتزوا بأمانتهم في دقة نقل
النصوص العربية إلى اللاتينية وتسجيل المصادر الحقيقية عند الضرورة.
والواقع أن العديد من الترجمات مرت أو ً لا بمرحلة الترجمة من العربية إلى العبرية قبل أن
تنتقل إلى اللاتينية، تمامًا مثلما كانت الترجمات التي تمت قبل ذلك بقرون في بغداد تمر أحيانًا
من الإغريقية إلى العربية عبر السريانية كلغة وسيطة.
وفي حقيقة الأمر، أصبحت الكتب العربية واسعة الانتشار في أوروبا في أواخر العصور
،« أفيسنا » الوسطى لدرجة أن العديد من الأسماء العربية اصطبغت باللاتينية، فأصبح ابن سينا
وغيرهم كثير جدًا. وكان ،« الباتينيس » والبتاني ،« الهازن » وابن الهيثم ،« أفيروس » وابن رشد
الذي كتبه في العقد الأول من القرن الرابع عشر الميلادي، قد وضع « الجحيم » دانتي، في عمله
ابن سينا وابن رشد بين الوثنيين الفضلاء.
وكان أيضًا من بين أشهر هؤلاء المترجمين الأبطال جيرارد من كريمونا، وإسكتلندي يعمل
في صقلية هو ميشيل سكوتوس، وقد قدموا هم ومعاصروهم وأتباعهم ترجمات للأعمال
الإغريقية الكبرى لإقليدس وهيبوقراط وحتى بطليموس وجالينوس وآخرين، وكانت هذه الأعمال
قد  روجعت و ُ شرحت بواسطة مفكرين مسلمين من أمثال الرازي والبتاني وابن سينا
والخوارزمي.
كان جيرارد بالذات غزير الإنتاج، فتمكن من ترجمة أكثر من مائة مرجع، وكانت تراجمه
شاملة، احتوت على الطب والعلم الطبيعي، والأرصاد الجوية، والجيولوجيا، والرياضيات،
والفيزياء. وألهم هذا التراث الذي أثراه المسلمون جيرارد و الباحثين الأوروبيين لتثوير نظرتهم
إلى العالم المحيط بهم.
وقد حظيت العلوم الفيزيائية والطب بعناية خاصة، حيث كانت أول فيض الترجمات، الأمر
الذي عكس التأكيد المتجدد على الاحتياجات العملية، وقد تم ترجمة المراجع العلمية لأرسطو
بالكامل قبل أن تترجم بعض أكثر أعماله الفلسفية إيجازًا.
تضمنت أعمال الترجمة على هذا المستوى الكبير العديد من المضايقات والأخطار وقلة
الإمكانات. وقد مّثلت اللغة العربية لمترجمي العصور الوسطى (الذين كانت معرفتهم باللغة
الإغريقية الأصلية عمومًا في أدنى مستوى) عقبة حقيقة، حيث كانت اللغة العربية حافلة
بتركيبات لغوية غريبة ومصطلحات تستعصي على الترجمة، لذا كان لابد أن تنقل حرفيًا كما
هي.
كان انتقاء وتحديد الأعمال المطلوب ترجمتها يمثل صعوبة بالغة، حيث لم تكن الكثير من
المخطوطات العربية عبارة عن أعمال مترجمة فقط، بل كانت لمؤلفين مختلفين غير معروفين،
وكان من الصعب في بعض الأحيان التفرقة بين الأعمال ذات الأصل الإغريقي والتعقيبات التي
توالت عليها من آخرين، وبالإضافة إلى ذلك، فقد وجد الكثير من المترجمين أن اللغة العربية
أسهل في التعامل من اللغة الإغريقية الكلاسيكية، مما أدى إلى تجاوز أو حتى إهمال عدد من
الأعمال الإغريقية الأصلية كليًا.
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهت الترجمة، وأحيانًا الاختيار الغريب للأعمال التي
تترجم، فإن الغالبية العظمة من المراجع القديمة أصبحت متاحة للقراء الأوروبيين باللغة اللاتينية
مع حلول القرن الرابع عشر الميلادي، وسرعان ما جعلت وسائل النشر هذه الثروة متاحة على
نطاق غير مسبوق، بعد أن قام يوهان جوتنبرج في سنة ١٤٤٥ م بطباعة أول كتاب بحروف
متحركة.
وبعد أن أصبح العالم الغربي مدعمًا بروح إنسانية جديدة ومسلحًا بتراث كلاسيكي غير
مسبوق؛ فإنه ر ّ كز اهتمامه بأموره الداخلية، وسرعان ما فقد الكثير من اهتمامه بالإسلام وتناسى
ما قدمه المسلمون من إنجازات ومساهمات في ثقافته، ومع نهاية العصور الوسطى بدأت تسود
علاقة جديدة بين الغرب والإسلام كانت تفتقر إلى الثقة.
ويختم هوارد تيرنر: كان التأثير الثقافي للحضارة الإسلامية باديًا على كل شيء في العالم
المسيحي الغربي بدءًا من العمارة وحتى البحث في علم الحيوان. وقد يبدو أن تأثير العلوم
الإسلامية أقل من تأثير الفنون الإسلامية، لكن لم يكن من الممكن لأي من المناهج العلمية التي
تحولت إلى الغرب في نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة أن تتطور كما حدث لها
دون الإيضاح والابتكار وقوة الدفع التي حظيت بها من إنجازات العلماء المسلمين.
ثامنًا- نشوء الجامعات الأوربية وعوامل ذلك:
انتهت في القرن الثالث عشر الميلادي الحروب الصليبية، وذلك بخروج آخر جندي أوروبي
من مدينة عكا سنة ١٢٩١ م، ولكن هذه الحروب لم تنته إلا بعد أن أصبح الغرب على درجة من
التراكم الثقافي والعلمي وضعته على أبواب نهضة علمية وثقافية شاملة. ولا حاجة للتذكير بأن
الجانب الأكبر من عناصر هذا التراكم الثقافي والعلمي قد جاءه من الشرق، من البوابات الثلاث:
بلاد الأندلس وجنوبي إيطاليا في القرن الحادي عشر الميلادي، وبلاد الشام في الفترة الأولى من
الحروب الصليبية.
وليس من قبيل الصدفة أن نرى أعرق الجامعات الأوروبية تنشأ في هذا القرن بالذات،
سواء أكان ذلك في فرنسا، أو إيطاليا، أو ألمانيا... .
وظهور هذه الجامعات أمر مهم، لأن حركة التطور العلمي اعتبارًا من تاريخ ظهورها،
أصبحت بتأثير العوامل الداخلية ولم تعد بحاجة لعوامل خارجية تأتيها من بلاد الشام أو من
الأندلس، وإن بقيت هناك حاجة لاستكمال بعض الجوانب فإن هذه الجامعات كفيلة بتأمين ذلك.
وانطلاقًا من هذا الأمر يبدو لنا أنه لا بد من الكلام عن بعض هذه الجامعات ودورها في
استكمال العلوم والمعارف الطبية العربية.
ونبدأ بجامعة مونبلييه: تقع مدينة مونبلييه في جنوب فرنسا، على الطريق الواصل بين بلاد
الأندلس وإيطاليا من جهة، وعلى مفرق الطرق المتجه نحو الشمال، نحو العاصمة باريس، من
جهة ثانية، وقد أ  هلها موقعها هذا لتكون أولى الجامعات التي تنشأ في فرنسا.
ولم يمر وقت طويل على هذه الجامعة حتى استقطبت العديد من الطلاب الفرنسيين
والأجانب، حتى بلغ عدد طلابها حوالي عشرين ألفًا.
وقد حوت هذه الجامعة كلية الطب التي تأثرت بشكل عميق بمؤلفات الطب العربي
وأساتذته، فمؤلفات الطب العربي المترجمة إلى اللغة اللاتينية كانت تأتيها من (مدرسة طليطلة)
في الأندلس، وأساتذة الطب الذين تعلموا الطب العربي ومارسوه كانوا يفدون إليها من (مدرسة
ساليرنو) الإيطالية، ويغذونها بعلمهم وبأبحائهم، وكذلك عن طريق الأطباء الفرنسيين العائدين
من مرافقة الجيوش في الحروب الصليبية.
وقد أعطى كل هذا أكله فساعد على تقدم هذه الجامعة علميًا بشكل جعل أبرز العلماء
والأطباء يتنافسون للتدريس فيها، ومن هؤلاء على سبيل الذكر:
- بطرس الإسباني: هو راهب إسباني كان طبيبًا ثم أصبح أستاذًا في هذه الجامعة، وبعد
وكان يجيد العربية قراءة وكتابة. ،« سيلفستر الثاني » ذلك صار أحد البابوات، باسم
- هنري ده موندفيل: الذي كان أستاذًا للجراحة في هذه الجامعة، وقد أّلف كتابًا بعنوان
اقتبس كثيرًا من مواده عن العرب. « التشريح والجراحة »
- أرنوده فيلانوفا: وهو طبيب متسعرب، عاش بين ١٢٣٥ م و ١٣١ م، وقد درس الطب في
مدرسة ساليرنو ود  رسه في جامعة مونبلييه، وقد م ّ كنته إجادته للعربية من أن يترجم الفصل
من كتاب ابن زهر « الغذاء » لابن سينا، وبحث « القانون » الأخير الخاص بالقلب من كتاب
الأندلسي، وقد جاءت كل آرائه في الأمراض مقتبسة عن المؤلفين العرب.
- ولم يقتصر الأمر في ترجمة المؤلفات الطبية على أساتذة الجامعة فقط، من أمثال أرنوده
شيم » فيلانوفا، وإنما امتد إلى المترجمين المحترفين أيضًا، وأهمهم اليهود الأندلسيين، مثل
الذي كان يوقع « فرج بن سالم » أو سام توب - الذي كان يعمل في مرسيليا، و - « توف
والذي ترجم طائفة من أمهات الكتب الطبية ،Serragius وأحيانًا Ferraguth باللاتينية باسم
لابن جزلة، الذي ترجمه تحت عنوان: « تقويم الأبدان » العربية إلى اللاتينية، ولعل أهمها كتاب
وذلك في عام ١٢٧٠ م. «Tacuimi aegritudinum»
وما حدث في جامعة مونبلييه حدث ما يماثله في بقية الجامعات الأوروبية، مثل جامعتي
ليون وباريس في فرنسا، وجامعتي لايبزيغ وتوبنجن في ألمانيا، وجامعة أوكسفورد في بريطانيا.
وفي بعض الحالات قام خريجون من جامعة مونبلييه بنقل المعارف الطبية العربية إلى
الجامعات الأخرى التي يعملون بها، وهذا ما حدث مث ً لا في جامعة أوكسفورد، إذ إن الطبيب
والذي درس في جامعة مونبلييه بين ١٢٨٥ م و ١٣٠٧ م، ،« برنارد الاسكتلندي » : المعروف باسم
زنبقة » : عمم الطب العربي في بريطانيا، وذلك عبر الكتاب الذي أّلفه بعد عودته إليها بعنوان
١٢٨٠ م - ) (John of Gadsden) وكذلك فعل من بعده الطبيب جون أوف جادسدن .« الطب
١٣٦١ م)، حيث درس الطب أو ً لا في جامعة مونبلييه، ثم عاد بعدها إلى بريطانيا حيث عمل
الطبية التابعة لجامعة أوكسفورد، وقد أّلف فيها كتابًا لتدريس الطب « ميرتون » أستاذًا في كلية
وقد استند في أغلب معطياته على الطبين ،«Rosa Anglica ، الوردة الإنجليزية » تحت عنوان
العربي واليوناني.
في طليطلة، ونسخ خلال فترة « هيرمان » وفي القرن الرابع عشر استقر عالم ألماني اسمه
إقامته عددًا كبيرًا من المخطوطات الطبية العربية، ثم نقلها إلى ألمانيا. وخلال هذا القرن برزت
جامعات أوروبية جديدة مثل (جامعة لوفان) في بلجيكا، و(جامعة بال) في سويسرة. وقد هيمن
على هذا القرن وجه طبيب فرنسي مارس الجراحة على الطريقة العربية فأصبح أمهر جراح في
أوروبا، ألا وهو: جي ده شولياك الذي عاش بين سنتي ١٣٠٠ م و ١٣٦٧ م.
وقد عمل هذا الج  راح كأستاذ في جامعة مونبلييه، ثم في جامعة ليون، وكطبيب خاص
لبابوات مدينة أفينيون، وقد أّلف في هذه المدينة الأخيرة كتابًا هامًا في الجراحة يحمل عنوان:
باللغة اللاتينية طبعًا، وقد أحدث هذا الكتاب، فور صدوره عام ١٣٤٣ م، « التشريح الكبير »
اهتمامًا كبيرًا، ومصداقية واسعة، بشكل جعل منه المرجع الأساسي لتدريس الجراحة في أغلب
الجامعات الأوروبية طيلة ثلاثون قرون تقريبًا. وقد اعترف هذا الطبيب الجراح، في كتابه هذا،
بفضل الأطباء العرب، إلى درجة أنه كرر اسم أبي القاسم (الزهراوي) فيه أكثر من مائتي مرة،
وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على المدى الذي وصل إليه علم الزهراوي في التقدم والانتشار.
و تعددت في القرن الخامس عشر الجامعات الأوروبية وتعمقت، وبدأت تعتمد على مؤلفات
جهازها التعليمي الخاص بها، ولكن هذا لم يمنع من متابعة الاعتماد على أمهات المراجع الطبية
العربية، وهكذا ظل كتاب ابن سينا المادة الأساسية للدراسة الطبية في جامعات لايبزيغ وتوبنجن
في القرن الخامس عشر الميلادي، وجامعات فيينا وفرانكفورت في القرن السادس عشر
الميلادي. بل إن بعض الكتب العربية امتد الاعتماد عليها في جامعات أوروبية أخرى - مثل
جامعة لوفان البلجيكية - حتى عام ١٦١٧ م.
وعمومًا يمكن القول إن المراجع الطبية العربية بقيت هي المعول عليها أساسًا في كثير من
الجامعات الأوروبية حتى السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر الميلادي، وقد كانت في
موقع متفوق على المراجع اليونانية واللاتينية.
وقد حدث في هذا القرن (القرن الخامس عشر الميلادي) أمر هام آخر كان ذا علاقة هامة
في نشر الثقافة العلمية، من طبية وغيرها، في أوروبا، وهو اختراع الطباعة في عام ١٤٤٨ م،
حيث لم يعد هناك حاجة للنسخ اليدوي للمخطوطات وإنما أصبح من الممكن طبعها بمئات، بل
آلاف، النسخ وتعميمها على طالبيها لقراءتها والاستفادة منها.
وبهذا الشكل تم نشر عدد كبير من المؤلفات الطبية العربية باللغة اللاتينية، إما عن طريق
ترجمتها وطبعها معًا، وإما عن طريق طبع الترجمات السابقة لها.
والمثال على الحالة الأولى ما قام به الطبيب الإيطالي فاللا، عندما ترجم ونشر رسالة
الرازي عن الجدري والحصبة في مدينة البندقية عام ١٤٩٢ م، وكذلك ما فعله طبيب إيطالي
في مدينة البندقية عام ،« شرح تشريح القانون » آخر، وهو آلباجوس حيث ترجم ونشر كتاب
١٥٤٧ م.
والمثال على الحالة الثانية قيام ناشر إيطالي، في مدينة البندقية أيضًا، في عام ١٥٥٢ م،
لابن زهر، وهي ترجمة كان قد قام بها الراهب « التيسير » بنشر مخطوطة ترجمة كتاب
باتافينوس في الأندلس عام ١٢٨٠ م.
الفصل الرابع
فضل العرب والمسلمين على أوربا والعالم
أو ً لا - التأثير العربي الإسلامي في الفنون والعمارة:
- العمارة الإسلامية بأنواعها:
شيد المعماريون المسلمون أنوا  عا عديدة من العمائر، وخّلفوا لنا كثي  را من الأبنية الدينية
والعلمية كالمساجد والمدارس والكتاتيب والزوايا، ومن العمائر المدنية كالقصور والبيوت والخانات
والوكالات والحمامات والبيمارستانات ( المستشفيات ) والأسبلة والقناطر، ومن العمائر العسكرية
كالقلاع والحصون والأسوار والأبواب والأربطة. وكان لكل نوع منها تصميمه الخاصبه والملائم
لوظيفته، كما اختلف طراز كل نوع وفًقا لإقليم إنشائه .
وقد استمدت الأصول المعمارية الإسلامية مقوماتها الأولى من العقيدة الإسلامية إلى جانب
إفادتها من التقاليد الفنية القديمة التي كانت سائدة حينذاك في الفنون العربية والساسانية والهيلينستية
والبيزنطية، غير أنها ظلت تحتفظ بالروح العربية الإسلامية، وابتكرت لنفسها عناصر معمارية
وفنية خاصة لها كالمآذن والعقود الحذوية والعقود المف  صصة والمقرنصات بأنواعها، وغيرها
الكثير.
ومن أهم أنواع العمائر الإسلامية: المساجد، التي ُتعد من أهم المباني التي تمتاز بها العمارة
الإسلامية. وكان تخطيط المساجد الأولى بسي ً طا؛ يتكون من مساحة مربعة محاطة بسور، وبها ظلة
سقفها يتركز على  ع  مد مصنوعة، أو مأخوذة من جذوع النخل أو من  ع  مد منقولة من عمائر قديمة (
٣١ )، ولم تلبث المساجد أن أصبح لها نظام معماري واضح يتكون من صحن أوسط تحيط به أربع
.( ظلات ( أروقة ) أكبرها ظلة القبلة التي تشتمل على المحراب والمنبر ( ٣٢
ومن أنواع العمائر الإسلامية: المدارس، والتي ظهرت في أواخر القرن الخامس الهجري،
الحادي عشر الميلادي، على يد السلاجقة، وكان الغرض منها نشر المذاهب ال  سّنية. و يتكون
التخطيط المعماري لتلك المدارس من صحن وأربعة إيوانات أكبرها إيوان القبلة، وكان كل إيوان
يخ  صص لتدريس مذهب من المذاهب أو أكثر، وغالبا مًا يلحق بتلك المدارس مبنى لسكن الطلاب
.( وسبيل للشرب وحوضلسقاية الدواب وميضأة وغيرها من الملاحق( ٣٣
في المدينة المنورة ومسجد الكوفة ( ١٤ ه ) ومسجد _ ٣١ - ومن أهم أمثلة تلك المساجد مسجد الرسول
البصرة ( ١٧ ه،) ومسجد عمرو بن العاصفي الفسطاط ( ٢٠ ه ) ومسجد القيروان في تونس ( ٥٠ ه).
في العصر الأموي، ومسجد المنصور في بغداد ( ١٥٤ ه)، _ ٣٢ - ومن أمثلة هذا النوع مسجد الرسول
والمساجد العباسية في العراق ومصر.
٣٣ - ومن أشهر المدارس الإسلامية: المدارس النظامية في نيسابور والعراق والمدرسة المستنصرية في بغداد
والمدرسة الصالحية في مصر ومدرسة قايتباي في الحجاز والمدرسة البوعنانية في المغرب والمدرسة الأشرفية
في اليمن وغيرها الكثير.
ومن أنواع العمائر الإسلامية: الأربطة، وهي المنشآت التي كانت تجمع بين الوظيفة الدينية
.( والعسكرية، حيث كان يقيم فيها المحاربون استعدا دا للجهاد أو للتعبد ( ٣٤
ومن أنواع العمائر الإسلامية: الأسبلة، وهي من المنشآت المائية التي وصلت منها نماذج
جميلة وطرز عديدة وبخاصة من العصر المملوكي والعثماني، وكانت هذه الأسبلة ُتستخدم لسقاية
.( المارة في الطرق العامة( ٣٥
ومن أنواع العمائر الإسلامية: البيمارستانات ( المستشفيات )، فبعد أن اعتنى الإسلام بصحة
الأبدان، وحث على الاستشفاء ومعالجة الأمراض، كان من أثر ذلك اهتمام السلاطين ببناء
البيمارستانات وتوفير ما يحتاج إليه من أطباء وأدوية وأدوات طبية( ٣٦ ). وغير ذلك من العمائر
الإسلامية.
وقليلون أولئك الذين تصدوا للفنون في العالم الإسلامي، يدرسونها ويحللون مدارسها
ومذاهبها، ويستنبطون أسسها ومميزاتها، ويتذوقون جمالها، ويكتبون عن ذلك كله، كتابة علمية
فنية تتناسب والإبداع الفني عند المسلمين الذي بلغ الذروة من حيث المضمون والموضوع
والتنوع والطابع والوحدة مع تعدد الأساليب والأذواق.
إن جلّ الكتاب المسلمين أغفلوا هذا الجانب من حضارتهم، في وقت لم يهملوا ناحية من
نواحي البحث إلا وأشبعوها درسًا، وأوسعوها تمحيصًا. ويعود السبب في هذا الإهمال غلبة فكرة
الرسم والنحت وصنع التماثيل على الفنون، ولتخ  وف الكثير منهم التعرض لهذه المواضيع التي
يتجادل العلماء في جوازها أو تحريمها، وما أرادوا أن يعرفوا إن الرسم والنحت وصنع التماثيل،
ليست هي الفنون كلها، وباب الفن واسع تدخل فيه فنون العمران، والفنون التشكيلية، والتطبيقية،
والصناعية، وهي كلها أمور لا تخالف الدين من قريب أو بعيد، بل هي من مستلزمات الدين،
كبناء المساجد، وتزيينها، واتخاذ الأثاث والرياش لها، ومن مستلزمات القوة المادية، التي أمر
بها الدين، كبناء القلاع والحصون، والربط، والمدارس، والتكايا وما إليها. وهي كلها جديرة
بالبحث من ناحيتها العمرانية الهندسية وفن إقامتها.
٣٤ - ومن أشهر أمثلتها في العمارة الإسلامية رباط المنستير في تونس الذي شيده هرثمة في سنة ١٨٠ ه،
ورباط سوسة في تونس أيضًا الذي شيده زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب سنة ٢٠٦ ه، ورباط الأغوات في
المدينة المنورة الذي ُ شيد في عام ٧٠٦ ه.
٣٥ - ومن أقدم هذه الأسبلة في العالم الإسلامي سبيل الناصر محمد بن قلاوون بالقاهرة، وكان يلحق بأعلى السبيل
مكتب لتعليم الأيتام.
٣٦ - ومن أشهر البيمارستانات في العالم الإسلامي بيمارستان السلطان قلاوون بالقاهرة، والبيمارستان النوري في
دمشق، والبيمارستان الموحدي بمراكش.
والخط __________العربي، وحده، وما أوجده الخطاطون المسلمون فيه من أساليب وأنواع وزخرفة؛
بحر واسع من بحور الفن، يحتاج إلى مجلدات ُتكتب عنه، ومتخصصين متفرغين لدراسته، وإن
التزيينات المقتبسة من النبات والأشكال الهندسية، البعيدة عن رسم كل ذي روح، ملأت دنيا
المسلمين، في دينهم ودنياهم، فازدانت بها المساجد، واستخدمت في القصور والأضرحة
والحمامات ودور السكن العامة، والأسواق والخانات والقلاع. والمخطوطات، حتى ُنسخ القرآن
الكريم،  زينت بالرسوم الجميلة البديعة من هذا النوع، حتى غدا هذا الطراز من الرسم والتزيين
صفة عربية - إسلامية س  ماها الغربيون أرابسك ( الأرقثة )؛ أي الفنون الزخرفية العربية،
و  سميت الرسوم الناعمة الهادئة اللطيفة ذات الألوان الشفافة الجميلة التي ملأت المخطوطات
الإسلامية وأوضحت النصوص برسوم تفسيرية في الكتب العلمية كالطب والكيمياء وعلم الصنعة
( الميكانيك ) أو برسوم تمثيلية في الكتب الأدبية كمقامات الحريري وكليلة ودمنة مث ً لا،  سميت
هذه الرسوم بالمنمنمات. ويلاحظ أن رسوم المخلوقات ذات الروح استخدمت منذ العصر
الإسلامي الأول في غير أماكن العبادة، تشهد على ذلك بقايا قصور خلفاء بني أمية وحماماتهم
في الشام والأردن.
ولعل المستشرقين هم أول من عني بتراث المسلمين الفني، وكان الباعث لهم على البحث،
ملاحظتهم أثر الفن الإسلامي في الفن المسيحي الأوربي، حين تلمسوا آثار الخطوط العربية في
التزيينات الأوربية، ثم انتبهوا إلى أثر فن بناء المساجد والمآذن في بعض الكنائس وأبراجها، فما
كادوا يتتبعون أصول هذه الاقتباسات حتى بهرتهم فنون كثيرة أخذوها عن الأندلس والمغرب
وصقلية، كما هي، أو معدلة، ووجدوا أ  ن الفن العربي الإسلامي، كان شأنه شأن العلوم والفلسفة
التي أخذها الغرب عن العرب والمسلمين في العصور الوسطى، للتفاوت الذي كان بين
حضارتين: حضارة الإسلام المزدهرة، وحضارة أوروبا المتجمدة التي لم يأنفوا من تسميتها
بحضارة العصور المظلمة.
ومن متابعة البحث اكتشف المستشرقون عالمًا فنيًا غنيًا، اعترفوا أنه أوسع الفنون العالمية
انتشارًا، وأطولها عمرًا، وأكثرها تنوعًا وغزارة مع احتفاظه بوحدته المميزة، فصّنفوه إلى جانب
أخواته من فنون الأمم العريقة: الفن الصيني، والفن الفرعوني، والفن اليوناني، في مرتبة تسمو
على سائر الفنون الأوربية والآسيوية الأخرى.
وترجم المسلمون ما كتبه الغربيون، وهزتهم عبارات الإعجاب والوصف، ولفتت نظرهم
إلى جمال الفن الإسلامي وتنوعه، وغنى مواضيعه، ومدى انتشاره أفقيًا وعموديًا، فهو يضم
فنون إمبراطورية واسعة امتدت من الصين وتركستان شرقًا إلى إسبانيا وأقصى جبل أطلس
غربًا، وضمت شعوبًا كثيرة، كانت لها حضارات، وكانت لها فنون، تأثرت بروح الإسلام،
وبالذوق العربي، فطورت هذه الحضارة، وهذه الفنون، بما لا يخالف هذا الذوق ولا تلك الروح.
فللعرب، لا ريب، تأثير في فنون أوربة، ولا سيما في فن عمارتها، فلقد اقتبست أوربة
الأقواس القوطية ( ٣٧ ) من العرب، والعرب قد استعملوها في مصر وصقلية وإيطالية منذ القرن
العاشر من الميلاد.
إن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، وإن » : وقد أق  ر غوستاف لوبون قائ ً لا
لعروق الغرب احتياجات وأذواقًا تختلف عن احتياجات الشرق وأذواقه، وأن بيئات الغرب مباينة
لبيئات الشرق، وإن الفنون وليدة احتياجات أحد الأدوار ومشاعره، فكان ما نراه من اختلاف
فنون الغرب عن فنون الشرق بحكم الضرورة.
وإنني، على ما قررت من عدم المشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي بعد أن تكون،
لا أنكر أهمية الفروع التي اقتبسها الغربيون من الشرقيين، ولم أنفرد بهذا الاعتراف، بل اعترف
بذلك أكثر المؤلفين حجة، واسمع ما قاله باتيسيه:
لا يجوز الشك في أن البنائين الفرنسيين اقتبسوا من الفن الشرقي كثيرًا من العناصر »
المعمارية المهمة والزخارف في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر من الميلاد... ألم نجد
في كتدرائية بوى، التي هي من أقدس البنايات النصرانية، بابًا مستورًا بالكتابات العربية؟ أولم
.« ؟ تقم في أربونة وغيرها حصون متوجة وفق الذوق العربي
وذكر مسيو لونورمان، الذي هو حجة في هذه الموضوعات مثل باتيسيه، أن تأثير العرب
واضح في كثير من الكنائس الفرنسية، ككنيسة مدينة ماغلون ( ١١٧٨ م ) التي كانت ذات
صلات بالشرق، وكنيسة كانده ( مين ولوار ) وكنيسة غاماش ( سوم )، إلخ.
أرى » : وألمح مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوربيون من العرب في فن العمارة، وقال
من غير مبالغة فيما لأمة من التأثير في أمة، وذلك خلافًا لما يثار عليه اليوم أن الصليبيين الذين
شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات وشرف المآذن والأفاريز أدخلوا إلى فرنسة
المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيرًا في العمارات المدنية
.« والحربية في القرون الوسطى
ولم يكن مسيو بريس الأفيني المتخصص في فن العمارة العربي على غير هذا الرأي، فقد
إن النصارى أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب بكثرة حتى أواخر » : قال
.« القرن السادس عشر من الميلاد
٣٧ - أي الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين.
و الفن الرومانسيكي( ٣٨ ) هو من الفنون العربية، والاسم منسوب - مثل اللغة الرومانسيكية
- إلى الرومان، إما لاقتباساته من الفن الروماني وإما للدور الذي قامت به إيطاليا فيما  سمي
بالفن الرومانسيكي المبكر، ابتداء من مطلع القرن العاشر الميلادي، أو نسبة إلى فن مدينة روما
نفسها الذي ازدهر في القرن الثاني عشر الميلادي.
وأهم مميزات الطراز الرومانسيكي رغم ما فيه من الاقتباسات والتركيب، هي:
١- التخطيط البازيايكي ( الملكي أو القيصري )، الممثل في: البهو الواسع والرواقين
الجانبيين.
٢- تنوع الواجهات وشكل البوابات التي تستخدم فيها العقود على أعمدة صغيرة.
٣- أما عن عناصر الزخرفة، فهي متنوعة، ما بين: أشكال هندسية، وأغاريز منكسرة
وحلزونية، وصرر أو واردات ذوات أوراق تترواح ما بين: ورقات أربعة وثمانية. وفي تلك
العناصر الزخرفية تظهر المؤثرات المتنوعة من: غالية، ورمانية، وبيزنطية. والمؤثرات
الإسلامية تظهر فيها بشكل أوضح.
والحقيقة أنه على عكس ما كان يظن من أن عناصر الزخرفة في الفن الإسلامي، من:
المقرنص، والمورق، والموشح ( الأرابسك )، والمتشابك إلى جانب الزخرفة الهندسية
والزهرية، والنقوش الخطية الكوفية، هي وحدها التي كان لها أثرها على الفن المسيحي، ثبت أنه
كان لعناصر العمارة في الفن الإسلامي، هي الأخرى، أثرها في كنائس الطراز الرومانسيكي -
وكذلك القوطي - في غرب أوروبا، وخاصة على طريق الحج إلى شنت ياقب ( سان جان دي
كومبو ستل ) في شمال غرب إسبانيا. ففي بناء الكنائس والأديرة ( الكلونية خاصة ) على طول
هذا الطريق استخدمت العناصر الإسلامية من: العقود المتجاوزة ( نعل الفرس )، والمدببة، كما
ظهرت في القباب أنواع الجوفات الصدفية والمقرنصات المخروطية، وإن كان بعض هذه
العناصر استخدم لأغراض زخرفية، مثل: العقود الصغيرة على الأعمدة الرقيقة، التي تزين
الأبواب والشبابيك، وخاصة المزدوجة والثلاثية الحنايا والمفصصة.
وإذا كان فضل الكشف عن المؤثرات العربية في الفنون المسيحية في أوروبا الغربية يرجع
إلى الرواد الأوائل من الباحثين في الفنون الأوربية أو الإسلامية، مثل: أميل مال، وهوارد بيتلر،
وكرسويل وجوميز مورينو، وهوتكير، وكوتشمان، ولامبير، ومارسيه، وهنرى مارتان، وغيرهم
- بصرف النظر عن مواقفهم التفصيلية - فقد كان للدكتور أحمد فكري - من الباحثين
٣٨ - وهو الفن المسيحي الذي يؤرخ له من نهاية القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر الميلاديين، قبل أن
يتطور إلى الفن القوطي.
المصريين - فضل السبق في مواكبة هذا الركب من الخالدين، إذ كان رائد علماء العرب في
تأصيل الحضارة العربية الإسلامية، وإثبات فضلها على الحضارة الأوروبية في العصر الوسيط
في مجال العمارة والفنون التشكيلية.
ونعطي مثا ً لا على ذلك زخرفة الكتابة العربية، فإن آخر المؤثرات الإسلامية في الفن
المسيحي التي يختم بها الدكتور فكري بحثه في فن البوى( ٣٩ )، هي زخرفة الكتابة العربية. فعلى
الرغم من أن الحروف العربية الأولى كانت أقل العناصر ملائمة للزخرفة بسبب عدم انتظام
حرفوها، فقد نجحت عبقرية الفنان المسلم في إخضاعها لحاجاته، بعد أن أعطاها توازنًا حقيقيًا،
فصارت مجا ً لا لابتكاراته العبقرية. فبعد أن أطال سناماتها، وملأ فراغاتها، وأطال الأجزاء
السفلية المثقلة فيها، طورها بالانثناءات و لالتواءات، وتعانق الخطوط وتلاقي الحروف. وبذلك
أخذت الحروف العربية قوة عظيمة فأصبحت صورًا وأشكا ً لا، وتركز فيها فن زخرفي أغنى
الزخرفة الإسلامية عن فن الأيقونات.
ولقد بهرت الكتابة الزخرفية العربية الفنانين المسيحيين في أوروبا، فنقشوها على تيجان
،( الأعمدة، وعضادات الأبواب وعتباتها، وفي عقود البوابات المقوسة المعروفة بالتامبان( ٤٠
وفي المذابح، وفي صناديق العاج الصغيرة، والنسيج المصنوع في دار الطراز، والمخطوطات
وخاصة مخطوطات رؤيا القديس يوحنا التي انتشرت في القرن العاشر الميلادي، والتي يظن أن
النقش الكوفي عرف عن طريقها في أوروبا.
بمتحف أثينا ) ُتذكر بالنحت Theseion وُتذكر في إيطاليا ( بخاصة فرخامة ثيزيون
الإسلامي المزين بالزخرفة الكوفية التي ظهرت أيضًا في بلاد اليونان في القرن الحادي عشر
الميلادي في بعض الكنائس بالقرب من طيبة وأثينا، كما ظهرت في كنيسة سان خرالامبو في
كالمانا. و كان تحوير الحروف العربية إلى عناصر زخرفية ظاهرة شائعة في الكنائس التي
اقتبسته حتى في إسبانيا المسيحية القريبة من بلاد الأندلس الإسلامية.
منقوشة بخط كوفي « الملك لله » : أما في البوى البعيدة فيوجد في باب الكاتدرائية عبارة
إنه توجد علاقة :« الملك لله » - زخرفي صحيح. وحق للدكتور فكري أن يستخلص من هذه ال
وثيقة بين فن البوى الرومانسيكي والفن الإسلامي، وهو إذ يرى أن النموذج الأصلي لها أُخذ من
مدينة الزهراء، يقرر أيضًا أن كاتب النقش الإسلامي الصحيح لم يكن غريبًا عن أرض الإسلام،
وإن العلاقة كانت مباشرة بين الأندلس وبين إقليم البوى في وسط فرنسا.
٣٩ - البوى إقليم في وسط فرنسا.
٤٠ - تجويف الأذن.
ولا يغرب عن البال أن الأوربيين كانوا يستخدمون في القرون الوسطى كثيرًا من بّنائي
الأجانب في إقامة مبانيهم، وأنهم كانوا يوحون إليهم بمثل ما كان يوحي به العرب إلى بنائي
البيزنطيين، وأن هؤلاء المعماريين كانوا يجيئون من كل مكان، وأن شارلمان كان يأتي بالكثير
لدولور؛ جاء فيها: « تاريخ باريس » منهم من الشرق، وقد نقل مسيو فياردو عبارة من كتاب
إن مهندسين معماريين من العرب اسُتخدموا في إنشاء كنيسة نوتردام الباريسية.
ويتجلى في إسبانية، على الخصوص، تأثير العرب المعماري العظيم الذي غفل عن ذكره
العلماء المشار إليهم، و نشأ عن تمازج فنون العرب والنصارى طراز خاص يعرف بالطراز
المدجن الذي ازدهر في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد على الخصوص،
وما أبراج كثير من كنائس طليطلة إلا مقتبسة من المآذن، وليست المباني التي شادها النصارى
في الولايات المستقلة في العهد الإسلامي إلا عربية أكثر منها نصرانية، وذلك كقصر شقوبية
الشهير الذي نشرت له عدة صور، فتدل إحدى هذه الصور التي التقطناها ( الكلام لغوستاف
لوبون ) من رسم قديم على حاله قبل حريق سنة ١٨٦٢ م، وتدل الصور الأخرى الفوتوغرافية
الأصل على حاله في الوقت الحاضر، ولا نجهل أن قصر شقوبية هذا أُقيم في القرن الحادي
عشر من الميلاد، ومما يزيد قصر شقوبية قيمة إمكان عده مثا ً لا للقصور العربية المحصنة التي
أقيمت في بلاد إسبانية ثم عفا رسمها تقريبًا في الوقت الحاضر.
ويلمح لوبون: ويلوح لي أن آثارًا كثيرة عدها بعض المؤلفين من المباني القائمة على
الطراز القوطي الخالص - كبرج بليم الذي أنشئ بالقرب من أشبونة - ذات مسحة عربية
بشكلها العام وأبراجها المطنفة وشرفها وبجزيئات أخرى فيها.
و قد انتقل الأثر العربي الإسلامي في فن المعمار من إسبانية إلى فرنسة، ومن فرنسة انتقل
وانتشر في سائر بلاد أوربة، وبدأ هذا الأثر خصوصًا بعد أن استعاد الإسبان طليطلة سنة
١٠٨٥ م، واستمر ينمو ويزداد كلما تقدم الإسبان جنوبًا حتى أواخر القرن الخامس عشر للميلاد.
وما زالت بعض المدن الإسبانية، ولا سيما إشبيلية، حافلة بذكريات العرب، ولا تزال بيوتها
تبنى على الطراز الإسلامي، وهي لا تختلف عن نماذجها إلا بفقر زخارفها، ولا يزال الرقص
والموسيقا فيها على الطريقة العربية، ويشاهد الدم الشرقي فيها بسهولة.
ويختم لوبون: أجل، يمكن أن تباد أمة وأن تحرق كتبها وأن تهدم آثارها، ولكن تأثيرها
يكون أقوى من القلز( ٤١ ) غالبًا، ولا يستطيع الإنسان محوه، ولا تكاد العصور تقدر عليه.
٤١ - القلز هو النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد.
ثانيًا - فضل المسلمين في الطب:
لقد كانت كتب المسلمين في الطب المرجع الوحيد للدراسة الجامعية في أوربا أكثر من
خمسة قرون، وظلت علوم الطب خاصة المصدر الوحيد للدراسة، خلال ثمانية قرون، حتى
استمرت جامعة مونبلييه تأخذ بآراء ابن سينا في قانونه إلى أواخر القرن الماضي.
لقد  وجد بين المنصفين من يّقدر فضل العرب على الإنسانية في مختلف العلوم، ومنهم
كان الأطباء العرب في القرن العاشر الميلادي، » : العلامة الفرنسي جول لابوم الذي يقول
« يعملون تشريح الجثث في قاعات مدرجة ُ خصصت لذلك في جامعة صقلية
وتقول الدكتورة شوارتزهيت وزيرة صحة جمهورية ألمانيا الاتحادية في افتتاح المؤتمر
إ  ن الغرب لن ينسى أبدًا أنه مدين لعلماء المسلمين بدراسة الطب، » : الدولي للبلهارسيا بالقاهرة
وإن مؤلفات الزهراوي وابن سينا والرازي كانت هي الكتب الوحيدة التي تدرس في جامعة
.« بالرمو بصقلية التي كانت تضم أشهر مدرسة للطب في العالم الغربي
وقد أصدرت جمعية الصداقة العربية الهولندية كتابًا بمناسبة مرور عشر سنوات على
» للكاتب الانجليزي ،« العرب في نظر الغرب » تأسيسها، تتحدث عن جزء منه بعنوان
المعروف بدفاعه عن العرب. جاء فيه فقرة ُتص  ور أحاسيسه عندما يقف أمام ميدان « تشايلدرز
البنوك التي تحيط بالميدان تستعمل الصكوك » : الطرف الأغر بلندن ويتأمل ما حوله ويقول فيها
في معاملاتها، وهي صكوك كان المسلمون العرب أول من استعملها في التجارة، ثم انتقلت إلى
أوروبا فأصبحت ( الشيكات ). وهذه البنوك تستعمل الأرقام، كما يستعملها كل أوربي، وهي
أرقام عربية، وما زالت إلى اليوم تعرف بهذا الاسم.
ولقد بلغ العرب في فرع طب العيون شأوًا عظيمًا تفوقوا فيه على اليونان، وساعدهم في هذا
الذي يعد علمًا عربيًا دون أية مبالغة، وأول ( Optik ) اكتشافاتهم الناجحة في علم البصريات
كتاب في هذا الموضوع كان كتاب اسحق بن حنين ( العشر مقالات عن العين )، وقد بقي مع
مؤلفات إسلامية أخرى، المرجع الأول لطب العيون في أوروبة حتى القرن الثامن عشر
الميلادي. وقد قدمت مصر للغرب أدوية مستخرجة من نباتات مصرية للاستعمال ضد أوجاع
الرأس وغشاوة العدسة.
وأدخلوا ،( Orthopadie ) كذلك فإ  ن العرب برعوا في معالجة تشويهات المفاصل والعظام
طريقة جديدة لمعالجة خلع الكتف، ما تزال تدعى بالطريقة العربية حتى أيامنا هذه، وقد زاد ابن
سينا على المداواة بالحمامات الباردة أو الساخنة الموروثة عن القدماء، علاجًا يقضي بجمع
الاثنين في وقت واحد يفصلهما تراوح زمني بسيط، كما أنه أوجد الحقنة الشرجية (
وأما فضل استعمال خيط الشعر في العمليات .( Eisbeutel ) وكيس الثلج ( Klostierspritze
الجراحية، في القرون الوسطى، فيرجع إلى الرازي.
وللعرب على علم الطب فضل آخر كبير في غاية الأهمية، ونعني به استخدام المرقد (
المخدر ) العام في العلميات الجراحية، وكم كان التخدير العربي فريدًا في نوعه، صادقًا في
مفعوله، رحيمًا بمن يتناوله؛ وهو يختلف كل الاختلاف عن المشروبات المسكرة التي كان الهنود
واليونان والرومان يجبرون مرضاهم على تناولها كلما أرادوا تخفيف آلامهم، وليس لرفع آلام
العمليات عنهم. وينسب هذا الكشف العلمي مرة أخرى إلى طبيب إيطالي أو ً لا وإلى بعض
الإسكندريين ثانيًا، في حين أن الحقيقة تقول والتاريخ يشهد أن فن استعمال الإسفنجة المخدرة فن
عربي بحت لم يعرف من قبلهم، وكانت توضح هذه الإسفنجة المخدرة في عصير من الحشيش
والأفيون والزؤآن وست الحسن ( هيوسيامين )، ثم تجفف في الشمس، ولدى الاستعمال ترطب
ثانية وتوضع على أنف المريض، فتمتص الأنسجة المخاطية المواد المخدرة، ويركض المريض
إلى نوم عميق يحرره من أوجاع العملية الجراحية.
وقد دخل هذا الكشف العلمي الرائع إلى أوروبة بطرق كثيرة مختلفة، وظل معمو ً لا به حتى
القرن الثامن عشر الميلادي، حين كشف عن التخدير بواسطة الاستنشاق عام ١٨٤٤ م، فاختفى
الأول وغمره النسيان.
وهناك اختراع عربي آخر قد شاطر التخدير العام المصير نفسه، هو علم التعقيم، الذي جاء
من العرب إلى شمالي إيطاليا ليع  مر مدة ستة قرون، اختفى بعدها وضاع له كل أثر. فعلى
أنقاض النظرية اليونانية القائلة بالعناصر الأربعة السائلة، قامت فكرة تقول بأن تقيح الجروحات
ما هو إلا عملية طبيعية مرغوب فيها جدًا، يسعى الطبيب إلى دعمها إن لم يعمل على إحداثها
بنفسه، وذلك لعملية التطهير التي يقوم بها في الجسم.
ونحن نفهم أن كل الأطباء وكل من تعاطى هذه الصناعة قد سّلم بكل ما قاله أبوقراط وتبعه
مدة تنيف على الألف سنة دون أي جدل أو نقاش، إلى أن جاء ابن سينا وعارضه في هذا
بنظريته عن الجروح الخالصة من القيح.
وكان نجاح ابن سينا هائ ً لا يكاد يكون معجزة لا تصدق، فكم من جروحات مزمنة كانت
تستغرق الأسابيع الطوال بل الأشهر الكاملة قبل أن تشفى، تصحبها آلام حادة مبرحة، قد شفاها
ابن سينا في لمح البصر. والسر في ذلك يرجع إلى أنه قد تخلى عن نظرية القيح القديمة وعمل
ما بوسعه لتجنب أي عامل كيماوي أو مادي من شأنه أن يبعث التقيح، مستعم ً لا اللزوقات
الساخنة مع الخمرة المعتقة القوية، وهذا كشف علمي هائل.
وهذه صورة عن آلية عمل أطباء أوربا في العصور الوسطى تظهر كم للمسلمين من فضل
قدم طبيب إفرنجي وقال لذلك الشاب – وقد ظهر في رجله دمل – قال له: أيهما »: على الغرب
أحب إليك تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين، قال: أعيش برجل واحدة، فقال الطبيب:
أحضروا لي فارسًا قويًا وفأسًا قاطعة، فحضر الفارس والفأس، فح ّ ط ساقه على قرمة ( قطعة
خشب ) وقال للفارس: اضرب رجله ضربة واحدة، اقطعها بضربة، فضربه ضربة فما انقطعت
.« رجله، فضربه الثانية فسال مخ الساق ومات الرجل في ساعته
- فضل كتب المسلمين الطبية على الغرب:
اليونانية رجوعًا عن الأساتذة العرب، « المدرسية » لم يكن الرجوع التدريجي عن الفلسفة
بل إنه ظهر بوضوح للعيان إلى أي مدى سبق العرب معلميهم اليونانيين. فمن بين الأطباء
المشهورين في القرن الخامس عشر الميلادي كان الاعتبار الأول يرجع إلى الأطباء المتأثرين
بالعرب الذين كان ابن سينا والرازي وابن زهر والأهوازي و الزهراوي يعنون لهم كل شيء،
فأخذوا عنهم تطبيقاتهم العملية على أسرة المرضى. وقد قام أحدهم بمحاولة إحصاء التأثير
العربي واليوناني على طبقة المثقفين آنذاك، والتعبير عنه بشكل أرقام كأي إحصاء عادي، فانتقى
كتابًا للنبيل فراري دوغرادو الأستاذ في بافيا من أعمال إيطالية، وكان قد جمعه بفضل ملاحظته
الخاصة، فطالعه محصيًا فيه أسماء العلماء العرب واليونانيين بدقة، ووصل إلى النتائج التالية:
ذكر فراري ابن سينا ما ينيف على ثلاثة آلاف مرة، والرازي وجالينوس ألف مرة، وأبوقراط
مئة وأربعين مرة!.
مما لا ريب فيه أن كتاب ( القانون ) لابن سينا، كان من الكتب الأولى التي اعتمد عليها
الغرب في سعيه وراء العلم في بدء نهضته، فقد ظهر هذا الكتاب في ميلانو في شهر فبراير من
عام ١٤٧٣ م. وبعد مرور سنتين طبع للمرة الثانية، وظهرت في الوقت نفسه تعليقات وشروح
بل إن ،« بروح ابن سينا » « Anima Avieennas » خاصة بابن سينا بقلم إيطالي حمل لقب
طبعة ثالثة للقانون قد ظهرت قبل أن تطبع أولى مخطوطات جالينوس. وتبع القانون الطبعات
إيساغوجي » لابن رشد، و « الكليات » للرازي، و « الحاوي » و « المنصوري » الأولى لكتب
أو كامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس الأهوازي. « الملكي » لحنين بن اسحق، والكتاب «
مقابل طبعة واحدة « القانون » وحتى عام ١٥٠٠ م، كانت هناك ست عشرة طبعة من
لكتاب جالينوس في جزأين اثنين. وفي القرن الذي تلاه زاد عدد طبعات القانون فبلغت العشرين،
وظلت الطبعة تتلو الأخرى حتى النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي.
وحدث بعد ذلك أن د  ب في الطب الغربي فجأة، في القرن السادس عشر الميلادي، شعور
غريب بالخجل من تقليده للطب العربي، وقد بقي قرونًا طويلة من الزمن نسخة ممسوخة عنه.
وكانت معظم المخطوطات الأوروبية الطبية في أول عصر الترجمة وحتى القرن السابع عشر
الميلادي تقليدًا للعرب ونق ً لا عنهم. وكانت أول حركة مسرحية معبرة عن هذا العداء السافر
الجديد هي واقعة إحراق كتب ابن سينا وجالينوس علنًا في ساحة السوق في مدينة بازل
السويسرية، فهذه الواقعة، التي قام بها المدعو باراسلزوس هي رمز للتفكير المستقل الجديد.
وبالطبع لم يعن هذا اختفاء التراث العربي من رؤوس العلماء ورفوف المكاتب وجيوب
الأطباء، بل ظل محافظًا على مكانته يسرق منه السارقون ما شاء لهم الله أن يسرقوا، فميخائيل
سرفيتوس مث ً لا نسب لنفسه اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، هذا الاكتشاف العربي، دون أن
يرجعه إلى أصله الحقيقي، بل على العكس من ذلك فقد راح يهاجم نظرية العرب في الشراب (
المستندة على نظرية العناصر الأربعة اليونانية. وفي عام ١٥٤٥ م كتب سيلفيوس ( Sirupe
أستاذه في علم التشريح، تعليقًا خاصًا بالرازي. وها هو أندرياس فيزاليوس يتعلم اللغة العربية
ويبذل ،« بأبي علم التشريح وأبي الطب الغربي على الإطلاق » وهو الألماني الأصل الملقب
الجهد الكبير في ترجمة ثانية لمؤلف المنصوري للرازي وإخراجه في لغة لاتينية صحيحة، وها
هو كتاب الحاوي الضخم والكثير التكاليف ينشر خمس مرات في الحقبة الواقعة ما بين ١٤٨٦ م
و ١٥٤٢ م، ما عدا الأقسام العديدة منه التي ُنشرت مرات ومرات على حدة. وها هي رسالته في
الجدري والحصبة تطبع في الحقبة ما بين ١٤٩٨ م و ١٨٦٦ م ما ينيف عن الأربعين مرة، وهي
التي نالت الإعجاب ألف سنة، ولا تزال كذلك حتى أيامنا هذه.
ثالثًا- فضل المسلمين في الصيدلة:
عن العرب أيضًا أخذنا طريقة الأقراباذين التي يقوم الصيدلي على أساسها » : تقول هونكه
بتحضير الأدوية. هذا وقد غمر البلاد الغربية دفق من العقاقير العربية عن طريق البندقية
وصقلية، وتدفقت معها كذلك كتب كثيرة في علم الأدوية والأقراباذين بواسطة رجال من أمثال
قسطنطين الإفريقي، وصلت حتى بلاد الراين حيث سطع تأثيرها في الآفاق، فقّلدها المقلدون
.« وأفاد منها المبتكرون
وبعد موت قسطنطين الإفريقي بوقت قصير وضع عميد كلية الطب في ( سالرنو ) كتابًا
أصبح فيما بعد أساسًا لعمل أجيال وأجيال من ، Offizinell على الطريقة العربية سماه
Cirea : الصيادلة، مع كتاب آخر وضعه عالم سالرني ( نسبة إلى سالرنو ) تحت عنوان
.Instans
لقد احتلت الأسماء العربية مقامًا علميًا كبيرًا في تلك العصور، ولجأ بعض الأطباء من
شمالي إيطالية إلى وضع كتبهم ناسبينها إلى أسماء عربية، وذلك بغية رفع شأن هذه الكتب
وإعلاء كلمتها، وهكذا فقد نسب أحدهم كتابًا وضعه في علم الأقراباذين إلى عربي زعموا إنه
Grabadin كان تلميذًا لابن سينا في بغداد، وس  موه ماسويه الصغير: أو في اللاتينية
.Meseues
لقد عاصر التأثير العربي في ميدان علم العقاقير في أوروبة فترة ما قبل النهضة والنهضة
نفسها، وتعداها حتى وصل إلى القرن التاسع عشر الميلادي، ففي عام ١٧٥٨ م صدرت أجزاء
من كتاب: الجامع في الأدوية المفردة لابن البيطار، وفي عام ١٨٣٠ م استعملت مصادر عربية
في تصنيف الأقراباذين الأوروبي، وفي عام ١٨٣٢ م صدرت في طبعة جديدة مخطوطة قديمة
فارسية بقلم الأرمني مختار.
وهنا ينقطع الخيط، ولكن التأثير العربي ظل وإن اختفى شك ً لا، فتغلغل في أعماق الحياة
الأوروبية، ورآه من يرغب في رؤيته، وأغفله من حجب بصره.
وتنتهي زيغريد هونكه إلى القول: إ  ن كل مستشفى، مع ما فيه من ترتيبات ومختبر، وكل
صيدلية ومستودع أدوية في أيامنا هذه، إنما هي في حقيقة الأمر، نصب تذكارية للعبقرية
العربية.
كما إ  ن كل حبة من حبوب الدواء... إنما هي كذلك، تذكار صغير ظاهر، يذكرنا باثنين من
أعظم أطباء العرب ومعلمي بلاد الغرب.
رابعًا - فضل المسلمين في الرياضيات:
إن الخوارزمي كان أول من برز في علمي الرياضيات والفلك، وقد  عرف عند الأوروبيين
مشتقة من أحد مؤلفاته، وكان أول من استعمل ( Algebra وكلمة ( الجبر ،Algorismus باسم
في الحساب الأرقام العربية.
قبل أن يعرفه الغرب بثلاثة - Eipher Zero عرف العرب الصفر - ومنه اشتقت كلمتا
قرون. يقول الخوارزمي في كتابه ( مفاتيح العلوم ) بضرورة استعمال دائرة هي المسماة
بالصفر. إن هذه المفردات - الجبر، الصفر، لوغارتم - بقيت شاهدًا على الدور الذي قام به
العرب في تأسيس علم الحساب ونشره.
فلكي نتعرف على الصفر العربي، لا بد من أن نتعرف على التعمية، فالتعمية لغ ً ة : الخفاء
والالتباس،: تحويل نص واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة يستطيع من
يعرفها أن يفهم النص.
وبمعنى آخر: هو علم دراسة الكتابة المع  ماة ( السرية ) حيث تستخدم طريقة سرية للكتابة
من أجل تحويل نص صريح إلى نص معمى، وتدعى عملية تحويل النص الصريح إلى نص
التعمية بعملية التعمية، بينما تدعى العملية العكسية الهادفة إلى تحويل النص المعمى إلى نص
صريح بعملية الإظهار، ويتم التحكم بكلتا العمليتين ( أي التعمية والإظهار ) بواسطة مفاتيح
التعمية.
وتحدثنا المستشرقة الألمانية المنصفة زيغريد هونكه عن قصة الصفر والتشفير، فتشير إلى
أن العالم الإيطالي ( ليوناردو فيبوناسي ) نقل من العرب إلى الغرب طريقة كتابة الأرقام من
اليمين إلى اليسار، وكذلك نقل عنهم كلمة الصفر، ثم تحولت من إيطالية كلمة رونالدو هذه إلى (
وتشير هونكه إلى أن الشعب الأوروبي آنذاك كان يجهل كتابة الأرقام وقراءتها، فاتخذ من
كلمة الصفر رمزًا لتلك الأرقام الغريبة على فهمه، والتي سمع عنها دون أن يدرك مدلولها،
أوطرق استخدامها، وأصبحت تلك الأرقام التسعة ومنها الصفر يطلق عليها الأصفار (
.( ZIPHERN
فكانت تلك التسمية سببًا ومدعاة للبس، فلم يكن من اليسير التعرف على ما يعنيه المتكلم من
أي الشكل الذي ليس برقم تمييزًا ( NULLA PIGURA ) كلمة أصفار، ولذلك  سمي الصفر
له عن بقية الأرقام التي تعارف الناس على تسميتها بالأصفار.
وما يهمنا هنا أن كلمة التشفير نفسها التي تتخذها أوروبة والعالم اليوم للدلالة على الكتابة
السرية، هي كلمة عربية أيضًا جاءت من كلمة الصفر، فيكون المسلمون قد أوفدوا إلى العالم
الاسم والعلم معًا.
وهذا يعني أ  ن المسلمين ابتكروا مفهوم الصفر الذي س  هل العمليات الحسابية تسهي ً لا لا حدود
له، وقد استعملوه لأول مرة عام ٨٧٣ م - ١٤٦٨ ه، في حين لم يستعمله الهنود سوى عام
٨٧٩ م - ١٤٧٤ ه، وظلت أوروبا طيلة ٢٥٠ سنة تتردد باستخدامه على الرغم من فوائده
الجمة، __________واستمرت كذلك حتى القرن الثاني عشر في استعمالها الأعداد الرومانية البالية، وحاولت
بكل جهدها أن تبتعد عن استخدام الأرقام العربية بصفرها حتى فرضت هذه نفسها لتفوقها الكبير
على الأرقام الأخرى، فما وسع أوروبا إلا أن تستوردها أخيرًا من المسلمين عبر البلدان
الأوروبية الإسلامية مثل الأندلس وصقلية.
ويذكر صاعد بن أحمد الطليطلي في كتابه ( طبقات الأمم ) الرياضي الأندلسي الكبير أبا
كان إمام » : القاسم مسلمة المجريطي ( ت ١٠٠٧ م ) - نسبة إلى مجريط أي مدريد - فيقول
وكان يلقب بالحاسب. ،« الرياضيين في الأندلس في وقته، وأعلم ممن كان قبله بعلم الأفلاك
واشتهر جابر بن أفلح بما قدمه في ميدان علم المثلثات، وهو علم حقق فيه العرب تقدمًا
كبيرًا، وكان الإنجليزي روبرت أوف تشتر أول من استعمل في القرن الثاني عشر الميلادي
.Sine المصطلح العربي ( جيب ) في علم المثلثات، مترجمًا إلى
Albataginus وتركزت أعمال علماء الفلك حول الزيج - الجداول الفلكية - وأعد البتاني
في حدود سنة ٩٠٠ م جداول دقيقة فيه، وقد استعملت ملاحظاته عن الخسوف والكسوف
لأغراض المقارنة.
ومن أعمال الخوارزمي ذات الأثر الكبير أيضًا جداوله الفلكية: زيج السند هند، الذي ترجمه
أديلارد الباثي إلى اللاتينية. وهناك أيضًا ترجمة جيرار الكريموني لجداول الدوال المثلثية التي
استنتجها من مؤلفات الخوارزمي ومؤلفات علماء آخرين بالعربية، وقد عرفت في أوروبا باسم:
جداول طليطلة لجيرار. وقد توافرت في تلك الفترة ترجمات أخرى عديدة لدوال مثلثية،
والجداول المصاحبة لها، مستمدة من المؤلفات العربية، وحتى ذلك الحين لم يكن علم حساب
المثلثات معروفًا في أوروبا.
خامسًا- فضل المسلمين في الفلك:
ظل لبطليموس في علم الفلك الأثر الدائم الذي انتشر في أوروبا من خلال ترجمة جيرار
لكتاب: المجسطي. وظهرت أجزاء أخرى في الفلك الإسلامي أثناء القرن الثاني عشر الميلادي
بفضل ترجمات يوحنا الإشبيلي وأفلاطون التيفولي. وفي القرن التالي، في عام ١٢٧٧ م، دعم
ألفونس العاشر ملك قشتالة نشر كتاب المعرفة الضخم، بهدف إتاحة المعرفة الإسلامية باللغة
القشتالية، وهي تحتوي على ترجمات مباشرة وصياغات جديدة لأعمال عربية في علم الفلك،
بالإضافة إلى قسم خاص بالتوقيت.
و اتخذت خطوات تجريبية في نهاية القرن العاشر الميلادي لنقل المعرفة بالإسطرلاب إلى
أوروبا. ومن بين الأعمال الفلكية العديدة، ظهرت ترجمة هرمان الدلماثي لكتاب بطليموس:
تسطيح الكرة، أو نظرية الإسقاط المج  سم. كما ترجم يوحنا الإشبيلي إلى اللاتينية كتابًا عن
الإسطرلاب للعلم ما شاء الله ( أواخر القرن الثامن الميلادي ). وقد حّفزت هذه الترجمات
اللاتينية لمؤلفات عربية عن تركيب الإسطرلاب واستخداماته المؤلفين الأوروبيين على تصنيف
عدد من الأعمال الأصيلة شملت كتابًا عن تركيب الإسطرلاب واستخداماته لريمون المارسيلي،
١١٤٦ م - قبل عام ١١٤١ م، وكتابًا عن تركيب الإسطرلاب لأديلارد الباثي في الفترة ١١٤٢
تقريبًا، وكتابًا عن استخدامات الإسطرلاب لروبرت الشستري، في عام ١١٤٧ م، ومؤلفًا عن
١١٦١ م تقريبًا. هذه المؤلفات - استخدامات الإسطرلاب لأبراهام بن عزرا في الفترة ١١٥٨
أفضل كثيرًا من تلك التي سبقتها في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وأصبحت
المصطلحات اللاتينية ذاتها هي المستخدمة في المفردات الفنية التعريضية للإسطرلاب منذ ذلك
الحين فصاعدًا. أما مؤلفات القرن الثاني عشر الميلادي فقد كشفت في مناقشاتها لاستخدامات آلة
الإسطرلاب عن دراية بمصادره ومشكلاته في تسلسل منطقي ومعالجة متدرجة بانتظام مع تزايد
الصعوبات. وبالنسبة للإنشاءات الهندسية على ظهر الإسطرلاب فقد كانت معروفة في أوروبا
في القرن العاشر الميلادي، لكن ريمون المارسيلي وصفها أو ً لا بوضوح، ثم أُتيحت للاستخدام
العام في القرن الثالث عشر الميلادي.
وهناك ثلاثة أعمال إسلامية على الأقل لوصف الربعيات، بدأت جميعها في إسبانيا، وهي
لابن السمح والزرقالي وأبو الصلت. وينسب أول مؤلف أوروبي إلى كامبانوس النوفاري في
إيطاليا عام ١٢٦٤ م، ثم أعقبه أعمال أخرى في إنجلترا وفرنسا خلال القرنين الرابع عشر
والخامس عشر الميلاديين.
وبالرغم من عدم إمكانية » : وهذا الفضل الإسلامي في علم الفلك دفع دونالد هيل للقول
استثناء إبداع أوروبي مستقل، إلا أن التفسير الأرجح لأصول الربعيات الأوروبية يعزى إلى
.« النقل عن المسلمين
لقد أّثر العرب على بلاد الغرب في علمي التنجيم والهيئة تأثيرًا كبيرًا، في وقت كانت فيه
معارف آباء الكنيسة والرهبان محصورة بالثقافة القديمة، فوقفوا لجهلهم مكتوفي الأيدي أمام هذه
العلوم المثيرة للدهشة بد ً لا من التدقيق فيها، قصد رفضها أو قبولها، بطريقة منطقية علمية
صرفة.
وقد ارتقى علم الفلك والتنجيم الغربي إلى ذروة سامقة لا مثيل لها، طاولت القبة الزرقاء،
وما كان ليتم هذا أو ذاك، لولا الجهود الجبارة والبذل والتحقيق التي قدمها » ، عظمة وجبروتًا
.« العرب في هذين الحقلين
ويتعلق بالفلك الإسطرلاب وهو من آلات علم الفلك، والإسطرلاب كلمةٌ يونانية مؤلفة من
قسمين: إسطر: وهو النجم، ولا بون: وهو المرآة، وأطلقت كلمة إسطرلاب على عدة آلات فلكية
تنحصر في ثلاثة أنواع رئيسة تمثل مسقط الكرة السماوية على سطح مستو، أو مسقطها على
خط مستقيم، أو الكرة بذاتها من دون مسقط. و  سمي الإسطرلاب أيضًا بميزان الشمس، ويعرف
بوساطته كثير من الأمور النجومية كارتفاع الشمس ومعرفة الطالع.
ويتألف الإسطرلاب من قرص معدني مقسم إلى درجات، ويدور على هذا القرص عداد ذو
ثقبين في طرفيه، ويعلق من حلقة تعليقاً عموديًا، ثم يوجه العداد نحو الشمس، وحين تمر أشعة
الشمس من ذينك الثقبين يقرأ ارتفاع الكوكب من الحد الذي وقف العداد عليه.
و آلة الإسطرلاب آلة دقيقة ُتص  ور عليها حركة النجوم في السماء حول القطب السماوي،
وُتستخدم هذه الآلة لحل مشكلات فلكية عديدة، كما تستخدم في الملاحة وفي مجالات المساحة،
وُتستخدم - إضافة إلى ذلك - في تحديد الوقت بدقة لي ً لا ونهارًا، وقد اهتم بها المسلمون اهتما  ما
كبي  را، واستخدموها في تحديد مواقيت الصلاة، كما استخدموها في تحديد مواعيد فصول السنة.
ووجه الإسطرلاب يحتوي على خريطة القبة السماوية،كما يحتوي على أداة تشير إلى الجزء
المنظور من القبة السماوية في وقت معين، وقد  رسمت القبة المنظورة على وجه الإسطرلاب
المسطح بطريقة حسابية دقيقة، وهي الطريقة ذاتها التي استخدمت في رسم خريطة العالم ( الكرة
الأرضية ) على مساحة مسطحة، وهذه الطريقة تسمح بتح  ول الدوائر من أشكال كروية إلى أشكال
مسطحة دون أي تغيير للقيمة الحقيقية للزاوية التي ُترسم بين خطين على الشكل الكروي، وعلى
هذا، فإن خط الأفق، وخطوط المدارات، وخط الاستواء، والخطوط السماوية تظل في شكل دوائر،
أو في شكل أجزاء من دوائر.
وينسب اختراع الإسطرلاب إلى الإغريق ويذكر أن الذي اخترعه هو العالم الفلكي هيباركوس،
في القرن الثاني قبل الميلاد، وقام بشرح الأسس العلمية الأساسية للإسطرلاب عالم الفلك
الإسكندراني بطليموس، وقد ترجم حنين بن إسحاق ما كتبه بطليموس إلى اللغة العربية وكان حنين
بن إسحاق هذا نابغة في اللغة والعلوم والطب، فترجم كل ما كتب ترجمة دقيقة و  ضحت كل خفايا
ودقائق الإسطرلاب، فأصبح معروفًا للعاملين في مجال علم الفلك، وبدؤوا دراسته واستخدامه
وتطويره، وقد برع المسلمون والعرب في هذا المجال، وأضافوا إضافات كبيرة على الإسطرلاب
تحددت في جانبين: الجانب الوظيفي الإستخدامي للإسطرلاب ورسم خطوطه، والجانب الشكلي
الخارجي للإسطرلاب.
وقد قام علماء الفلك العرب والمسلمون خلال القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي،
بإضافات عديدة للإسطرلاب؛ وقد شملت هذه الإضافات قياس محيط الكرة الأرضية وجمع الخرائط
الفلكية التي تص  ور حركة الكواكب، وحددوا أشكال مداراتها، وقد استفاد من مجهودات هؤلاء
العلماء كل من العرب والمسلمين إضافة إلى الأوروبيين، فقد  وجدت ترجمة لاتينية - يعود تاريخها
إلى عام ٦٧٥ ه، ١٢٧٦ م - لماكتبه عالم الفلك العربي ماشاء الله عن الإسطرلابات، ويوجد اليوم
عدد كبير من الإسطرلابات التي صنعها الفلكيون العرب والمسلمون؛ وهذه الإسطرلابات منتشرة
في عدد كبير من متاحف العالم.
وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرًا، ويتخذون له الآلات التي توضع لرصد الكواكب،
وكانت ُتسمى عندهم ذات الحلق، ولم يعرف العرب قبل العصر العباسي كثيرًا عن علم الفلك،
باستثناء ما يتعلق برصد الكواكب والنجوم وحركاتها وأحكامها وعلاقتها بحوادث العالم من حيث
الحظ والمستقبل والحرب والسلم والمطر والظواهر الطبيعية، ولما جاء العصر العباسي تقدم هذا
العلم كثيرًا كغيره من فروع المعرفة، وكانت بعض مسائله مما يطالب المسلم بمعرفتها؛ كأوقات
الصلاة والاتجاه نحو القبلة وصلاة الكسوف والخسوف ومعرفة هلال رمضان من أجل الصوم،
أضف إلى ذلك شغف الناس بالتنجيم، وقد ساعدت كل هذه الأمور على الاهتمام بالفلك والتعمق
فيه تعمقًا أدى إلى الجمع بين مذاهب اليونان والهنود والسريان والفرس والكلدان، وإلى إضافات
مهمة لولاها لما أصبح علم الفلك على ما هو عليه الآن.
سادسًا - فضل المسلمين في الفيزياء والكيمياء:
وبالنسبة إلى الفيزياء، فإن أهم الأعمال الإسلامية وصلت إلى أوروبا، وهي تشمل جميع
أعمال البيروني في الموضوعات الفيزيائية، وكتاب: ميزان الحكمة للخازني. ومن المحتمل أن
تكون معظم المعارف الخاصة بالميكانيكا والهيدروليكا قد وصلت إلى الغرب عن طريق
ترجمات لكتب أرشميدس وبابوس من اللغة العربية.
وليس هناك أدنى شك في أ  ن أهم عمل فيزيائي وصل إلى الغرب في العصور الوسطى كان
كتاب: المناظر ( البصريات ) لابن الهيثم؛ إن أثر هذا الكتاب، بمنهجيته الجديدة تمامًا وبطرحه
لنظرية الإبصار بالإدخال، كان أثرًا عظيمًا في الحضارة الجديدة، كان أثرًا عظيمًا في الحضارة
الإسلامية وفي الغرب على حد سواء، وعلى الرغم من ترجمته إلى اللاتينية ونشر هذه الترجمة
بعد ذلك في بازل ( ١٥٧٢ م )، فإنه ترك انطباعًا عميقًا لدى علماء الغرب أمثال: روجر بيكون
وجون بيكهام وفيتلو.
كانت نتائج ابن الهيثم معروفة تمامًا لدى أوروبة، وخاصة فيما بين القرنين السادس والسابع
الهجريين - الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وكان ذلك بواسطة ( جون بيكام )، ونهل من
ابتكاراته علماء كثيرون في القرن الحادي عشر الهجري - السابع عشر الميلادي، وفي مقدمتهم
العالم المشهور (كبلر).
ولاشك أنه أعظم رياضي مسلم في ذلك العصر، وأعظم » الادارة والحضارة العربية الاسلامية 1 يقول ( هوارد ايفزفانه
.« فيزيائي مسلم في جميع العصور، وفضله لا ينسى بحكم مؤلفاته المشهورة بالبصريات
وإذا انتقلنا إلى الكيمياء فلا يبدو أنه كانت هناك معرفة » : أما عن الكيمياء فيقول دونالد هيل
« روبرت الكيتوني » ففي عام ١١٤٤ م أكمل ،« بها في الغرب إلى أن انتقلت إليه من المسلمين
في إسبانيا أول ترجمة لعمل كيميائي من العربية إلى اللاتينية. ومن بين الأعمال الكيميائية التي
ُترجمت نذكر كتابًا للرازي ترجمة جيرار الكريموني الذي يعتقد أنه ترجم أيضًا أحد أعمال
جابر. وهناك العديد من ترجمات أخرى لأعمال كيميائية تمت خلال الفترة نفسها.
وعلى الرغم من ترجمة عمل أو اثنين من الأعمال الأصيلة للمجموعات الجابرية ( كتب
جابر بن حيان ) إلى اللاتينية، فإن هناك أعما ً لا أخرى تحمل اسم جابر دون أن يكون لها أصول
عربية معروفة. وليس هناك شك في أن مؤلفات جابر مبنية على النظرية الكيميائية العربية،
وأصبحت مراجع رئيسية في الكيمياء الغربية القديمة، وظلت محتفظة بتلك المكانة قرونًا عدة.
اشتهرت من بين تلك الأعمال قائمة الأدوية والعقارات التي قدمها أبو
القاسم الزهراوي، وقد ُترجمت إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي. يصف هذا المؤلف
طرق تحضير المرتك ( أول أكسيد الرصاص )، والرصاص الأبيض، وكبريتيد الرصاص،
وكبريتيد النحاس، وأملاح الكادميوم، والزاجات، وزعفران الحديد ومواد أخرى.
في أوائل العصور الوسطى كان هناك عدد قليل من المؤلفات الكيميائية الأوروبية التي لا
يمكن التأريخ لها جميعًا بدقة نظرًا للزيادات التي أُضيفت إلى النصوص الأصلية في أزمان
تالية. ويعد كتاب ( وصفات التلوين ) أقدم الكتب المتداولة في القرون الوسطى، وقد تم تجميع
أجزائه المختلفة في الإسكندرية حوالي سنة ٦٠٠ م، وُترجمت إلى اللاتينية بعد ذلك بحوالي
٢٠٠ سنة، وكان لهذا الكتاب بعض التأثير العربي بالرغم من تأليفه قبل العصر الإسلامي،
فبعض مصطلحاته في الصباغة عربية أو فارسية، ويحتوي الكتاب على ٢٠٠ وصفة، يعود
تاريخ العديد منها إلى الخبرة السكندرية في أوائل القرون المسيحية، وإلى الطرق المصرية
الأقدم، وقد جمع هذه الوصفات مؤلف كتاب مجهول، ثم ُترجمت المادة المجمعة أخيرًا إلى
اللاتينية في الجزء الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، يمتلئ نص هذا الكتاب بتعبيرات
غريبة. ويحتوي الكتاب على معجم لمصطلحات التعدين: لاتيني- عربي.
وتحتوي المكتبات الأوروبية الكبرى على آلاف من مجموعات المخطوطات التي يعود
تاريخها إلى الفترة من سنة ١٢٠٠ م إلى سنة ١٥٠٠ م، وتضم المكتبة البريطانية وحدها مئات
من هذه المجموعات، منذ ذلك الحين فصاعدًا لم تتعرض الكيمياء كثيرًا لتأثيرات خارجية،
وتطورت في الوقت ذاته إلى تخصص علمي حقيقي. على أن الأفكار الإسلامية كانت أحد
الجذور التي غّذت العلم الجديد وساعدته على الازدهار، والدليل على التأثير الإسلامي في
الكيمياء ( والكلام لدونالد هيل )، كما هي الحال في العلوم والتقنيات الأخرى، هو غزارة
الكلمات العربية الموجودة في المفردات الكيميائية للغات الأوروبية، مثال ذلك في اللغة
الإنجليزية: القالي، الخيمياء، الكحول، التنور، الإكسير، النفط، وغيرها.
ومن الامثلة الحية على غزارة الكلمات العربية الموجودة في المفردات الكيميائية للغات
الأوروبية، موضوع دباغة الجلود – وهو عملية كيميائية - فقد عرفت طريقتان لدبغ الجلود،
نسبة إلى غدامس في ليبيا - وبها تتم دباغة - Guadamaci « غدامسي » أولاهما تعرف باسم
وبها تدبغ جلود الماعز ،« قرطبي » جلود الغنم بنقعها في الشب والملح، وتعرف الثانية باسم
بمواد نباتية. وقد تطورت هذه الأساليب في الأندلس، ومنها انتقلت إلى غرب أوروبا.
الجلود الغدامسية، وهي من أجود الدباغ، » يذكر ياقوت الحموي أن في غدامس تدبغ
.« لاشيء فوقها في الجودة، كأنها ثياب الخز في النعومة والإشراق
ثامنًا- العرب نقلوا صناعة الورق إلى الغرب، واخترعوا الطباعة:
من أهم المساهمات النافعة التي قدمها المسلمون لأوروبا صناعة الورق، إذ لولا الورق ما
كانت لتقوم المطابع ولا أن تنتشر الكتب والمعارف بين الناس.
وقبل صناعة الورق، كانت الكتابة إما على ورق البردي وإما على الرق ( الجلد الرقيق )،
ثم أخذ العرب صناعة الورق عن الصينيين، وأنشئ في بغداد أول مصنع للورق على عهد
هارون الرشيد في أواخر القرن الثاني الهجري - الثامن الميلادي، وسرعان ما انتشرت
صناعته في المغرب والأندلس وصقلية. وكانت مدينة شاطبة - قرب بلنسية - شرق الأندلس
أهم مراكز صناعة الورق في الأندلس، وما زال الورق الجيد يعرف في المغرب الأقصى
بالورق الشاطبي.
» يذكر الإدريسي صناعة الكاغد ( الورق ) بمدينة شاطبة، فيقول إنه يعمل بها من الكاغد
.« مالا يوجد له نظير بمعمور الأرض ويعم المشارق والمغارب
يعمل الكاغد الجيد فيها ويحتمل إلى سائر بلاد » ويقول ياقوت الحموي: إن شاطبة
.« الأندلس
ولم تصل أساليب صناعة الورق إلى الغرب قبل القرن الثالث عشر الميلادي، حينما أُقيمت
مصانع للورق في إيطاليا وجنوب فرنسا. وأقدم وثائق الورق في المغرب التي وصلتنا يعود
تاريخها إلى بداية القرن الثاني عشر الميلادي، وهو ورق مستورد من مصانع الأندلس وصقلية.
ومما يذكر أن الكلمة العربية ( رزمة ) - أي حزمة من الورق - انتقلت إلى الإسبانية
.Ream ومن هذه إلى الإنجليزية ،Rayeme ومنها إلى الفرنسية القديمة ،Resma
وأصبح الكتان والقطن عماد صناعة الورق الأبيض الناعم، فغمر الدولة الإسلامية كلها حتى
العاصمة نفسها بغداد، حيث احتفل بنجاحه بعد أن انطلق من سمرقند. وبعد عدة قرون غدت بلاد
الغرب في حاجة ماسة إليه لكثرة ما كانت تنسخ من وثائق، فتعرفت عليه أو ً لا، واستوردته ثانيًا،
واستهلكت منه كميات كثيرة، وأودعت المخازن الكثير منه. ولا جرم، أن هذا الورق، حينذاك،
أضاف صفحة مشرفة لتاريخ العرب المتفتحي التفكير الدائبي النشاط.
وسار موكب صناعة الورق المنتصر هذا مطوفًا بسورية، حيث ترك وراءه في دمشق
وطرابلس قواعده، أي مصانعه، مارًا بفلسطين ومصر لينطلق منها إلى الغرب، إلى تونس
ومراكش وإسبانية. ومن عرب صقلية والأندلس تعرفت بلاد الغرب على هذه المادة الكثيرة
النفع، التي هي في الحقيقة إحدى دعائم الثقافة والحياة الروحية.
لقد فتح ورق العرب المسلمين هذا عصرًا جديدًا، لم يعد العلم فيه وقفًا على طبقة معينة من
الناس، بل غدا مشاعًا للجميع ودعوة لكل العقول لأن تعمل وتفكر.
ويرتبط بالورق موضوع هام هو: الطباعة؛ فإليك هذه القراءة المتأنية في حقيقة من اخترع
الطباعة، إذ  عد مؤرخو الغرب العالم الألماني يوحنا غوتنبرغ أول رائد للطباعة في العالم،
وأرخوا ذلك بسنة ( ١٤٣٦ م)، ولقد سها الكثير ممن درسوا في تاريخ الطباعة عن مبتكرات
وإبداعات المسلمين في هذا العلم، متناسين حقًا حضاريًا يجب أن ينسب لمفكريهم.
وسنأتي القصة من أولها، فلقد كانت الأمم السالفة متفاوتة في الكتابة، فكان أهل ال  صين
يكتبون في ورق يصنعونه من الحشيش والكلأ، وعنهم أخذ الناس صنعة الورق، وأهل الهند
يكتبون في  خ  رق الحرير الأبيض، والفرس يكتبون في الجلود المدبوغة من جلود الجواميس
والبقر والغنم والوحوش؛ وكذلك كانوا يكتبون في اللِّخاف: وهي حجارة بيض ِ رَقاق، وفي
النُّحاس والحديد ونحوهما، وفي  ع  سب النخل: وهي الجريد، واحدها  ع  سيب، وفي أعظم أكتاف
الإبل والغنم.
يذكر الجاحظ أن يحيى بن خالد البرمكي لم يكن في خزانة كتبه كتاب إ ّ لا وله ثلاث نسخ،
ويذكر المقريزي أنه كان في خزانة العزيز بالله ثلاثون نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد،
ومائة نسخة من الجمهرة لابن دريد.

وفي إيطاليا انتشرت الطباعة العربية، منذ أوائل القرن السادس عشر، فظهرت أول مطبعة
عربية في مدينة فانو، بأمر البابا يوليوس الثاني، وافتتحها ليون العاشر، ثم ظهرت مطبعة
البندقية، وفيها ُ طبع القرآن الكريم، أ  ول مرة، وبعد أن َتم طبعه  صو درت ُن  س ُ خه، وُق  ضي عليها
بدافع تع  صبي، ثم طبعت أ  ول ترجمة إيطالية للقرآن الكريم سنة ١٥٤٧ م.
في الطب، لابن سينا، ومعه علم « القانون » وفي مطبعة روما سنة ١٥٩٣ م طبع كتاب
له أيضًا، وكان صدور هذا الكتاب بداي َ ة عهد جديد « النجاة » المنطق، وعلم الطبيعي، وكتاب
في دراسة الط  ب.
وطبع القرآن الكريم في همبورج سنة ١٦٩٤ م، مع مقدمة باللغة اللاتينية، وفي ليبسك سنة
١٧٦٨ م.
ثم تعددت المطابع العربية في أوربا، وطبع فيها مئات من الكتب العربية والشرقية، أكثرها
في لندن وباريس وليبزج وليدن، وجوتنجن وروما وفيينا، وبرلين وبطرسبورج.
أما في الشرق فكانت الآستانة عاصم ُ ة الخلافة العثمانية، أسب َ ق مدن الشرق إلى الطباعة،
وعرف لبنان الطباعة سنة ١٦١٠ م، على يد رهبان دير قزحيا.
وفي مالطة أنشئت المطبعة الأمريكية للمبعوثين الأمريكان، سنة ١٨٢٢ م، وأدار أعماَلها
حينًا من الزمان أحمد فارس الشدياق، ثم انتقلت إلى بيروت سنة ١٨٣٤ م، ثم وثبت الطباعة
العربية في لبنان وثبة كبيرة بإنشاء المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين سنة ١٨٥٤ م، وظهرت
مطبعة المعارف للبستاني سنة ١٨٦٧ م، أنشأها بطرس بن بولس البستاني.
وفي العراق عرفت أول مطبعة حجرية سنة ١٨٣٠ م، وعرفت الطباعة بفلسطين سنة
١٨٣٠ م، وأنشئت أول مطبعة عربية في اليمن سنة ١٨٧٧ م، وبالحجاز سنة ١٨٨٢ م، وفي
ع  مان بالأردن سنة ١٩٢٢ م.
وفي النهاية نؤكد على حقائق لعلها فاتت الكثير ممن بحث في تاريخ الطباعة في العالم:
١- للطباعة صلة قريبة بما تقدمها من النقش على الخواتم وكذلك على حواشي الطراز
والعملة وأمثالها من التصاوير على الأقمشة، وكانت القوالب تتخذ لاستيفاء كل ما تدعو إليه
الحاجة؛ ففي مختلف العصور الإسلامية مث ً لا سبكت دراهم ودنانير كثيرة.
وفي هذا الصدد نشير إلىدنانير جعفر بن يحيى البرمكي الذي صاغ دنانير من الذهب
الخالص نقش على كل دينار بيت أو بيتان محتواهما البيان عن اسم بعض هذه القطع الذهبية
على سبيل العطاء والمعونة لأصحاب الحاجة. يتضح من هذا أننا كنا على اتصال وثيق بالنقش
المقولب أو الطبعة المقولبة حتى في القرن الثاني للهجرة، ثم شيئًا فشيئًا وبمرور الزمن كثر
استخدام القوالب للنقش والطبع.
٢- إن فن الطباعة في العالم ما كان له أن يحدث لو لم يسبقه صناعة الكاغد في الصين في
بداية القرن الثاني للميلاد أو ً لا، ومن ثم انتقال هذه الصناعة إلى المسلمين ثانيًا، الذين ظل بين
أيديهم سبعة قرون، وانتقل منهم إلى أوربا.
ومما تجب معرفته أن أوربا كانت تستهلك كثيرًا من الكاغد العربي الذي كان يصدر إليها
من بغداد ودمشق عبر القسطنطينية، ومن شمال إفريقيا عبر صقلية، ومن الأندلس عبر فرنسا،
حتى تعلمه الأوربيون منهم.
ومما يجب توثيقه أن أول مصنع للكاغد في أوربا أسسه جان مونت جولفيه في جنوب غرب
فرنسا سنة ١١٤٧ م - ٥٤٢ ه، وجان هذا شارك في الحملة الصليبية الثانية، ووقع في أسر
المسلمين حيث قضى فترة أسره في دمشق التي كانت هي وبغداد وشاطبة وفاس أهم مراكز
صنع الكاغد في العالم الإسلامي إذ ذاك، وحتمًا فإن جاك اطلع على هذه الصنعة ونقلها إلى
فرنسا.
٣-  وجد في العالم الإسلامي محاولات طباعية عديدة على القوالب الخشبية، بيد أن تقنيات
هذه الطباعة لم تنتشر كثيرًا عند المسلمين، والسبب هو عدم التفاتهم كثيرًا نحو الاهتمام بهذا
اللون من التقنية الميكانيكية لأسباب ذوقية وفنية وحسية إذ كانوا يفضلون على ذلك جمالية الخط
العربي ولغته، وهذا السبب يدفعنا إلى أن نرفض إدعاء أحد مفكري الغرب وهو توماس
فرانسيس كارتر الذي يقول إن العرب رفضوا أن يطبعوا كتبهم بوسائل ميكانيكية لأسباب دينية
فإن توماس يتجاهل بقوله هذا كل ما اكُتشف عن استخدام العرب للقوالب الخشبية في طباعة
كتبهم الدينية وبخاصة المصحف الشريف والأدعية، وحتى أوراق اللعب ( الكوتشينة ) فقد
استخدموا ذلك في المشرق العربي والأندلسي في نهاية القرن الثالث للهجرة - التاسع للميلاد،
ويؤيد ما نقول اكتشاف ما يزيد على خمسين وثيقة من الوثائق العربية المطبوعة على الرق
والكاغد وقماش الكتان، اكتشفت في واحة الفيوم في مصر، وهي تعود إلى ما بين سنة ٢٨٧ و
٥٧١ ه، وهي موزعة في مكتبات : القاهرة، وهايدلبرغ، وبرلين، والمتحف البريطاني، ومكتبة
جامعة كامبردج، ومتحف جامعة بنسلفانيا، والمكتبة الوطنية بفيينا.
٤- إن أول مطبعة حديثة دخلت إلى البلاد العربية تلك التي أدخلها بطريرك أنطاكية إلى
حلب عام ١٧٠٤ م، ثم ظهرت مطبعة عربية أخرى في حلب أيضًا عام ١٧٢٠ م، كما ظهرت في
لبنان مطبعة الشوير عام ١٧٣٢ م، وبعد ذلك أدخل نابليون أول مطبعة عربية إلى مصر عام
١٧٩٨ م.
تاسعًا- فن الحياة الجميلة:
استفاد العرب في إسبانيا من وفرة المنتجات الزراعية والثروات المعدنية من أجل مضاعفة
مباهج الحياة، ولو للناس الميسورين فقط، ولكن حتى الفئات الأقل يسرًا كانت تنال نصيبًا معينًا
في إشبيلية أو قصر « القصر » من ثروات البلاد. إ  ن السائح المعاصر، الذي تأخذه روعة
الحمراء في غرناطة، لا يستطيع، إلا بصورة مبهمة، أن يتصور الأبهة التي كانت تحيط بسكان
الحياة » هذه القصور في تلك الأزمنة الغابرة. أما الباحث الأدبي فيستطيع إدراك رونق هذه
من قصص تلك الأيام وأشعارها. « الجميلة
وليس غريبًا، أن تلقى مختلف أنواع الصناعات الحرفية، التي تقوم بصنع أدوات البذخ سواء
للسوق الداخلية أو للتصدير، تطورًا ملحوظًا في إسبانيا العربية.
فبين البضائع التي كان ينتجها حرفيو إسبانيا، كانت المنسوجات الفاخرة المصنوعة من
القماش الرقيق، والمصنوعات الكتانية والحريرية، التي بقيت نماذج قليلة منها حتى يومنا هذا.
كذلك راجت في إسبانيا مختلف أنواع الفراء التي كانت تستعمل للزينة، أو كأجزاء من
الثياب، وازدهرت صناعة الفخار، وفن الحفر على الأواني الفخارية الذي استورده الإسبان من
المشرق.
وفي أواسط القرن التاسع الميلادي تم في قرطبة اكتشاف سر صناعة الكريستال، وقد كان
في قرطبة عدد كبير من الصّناع المهرة الذين اشتهروا بتحضير الأواني الجميلة، وصنع تماثيل
صغيرة للحيوانات من النحاس والبرونز.
وعلى مشارف القرن العاشر الميلادي أصبحت قرطبة تنافس بيزنطة في صناعة
المجوهرات، وقد بقيت حتى أيامنا أطواق وأساور وأقراط رائعة وأدوات زينة أخرى، تشهد
على المستوى العالي للمهارة والذوق الفني لحرفيي ذلك العصر.
كذلك هو الحال بالنسبة للمنتجات المصنوعة من العاج، وكان الحفر على الخشب أحد
مجالات الصناعات اليدوية التي تستخدم الترصيع بالصدف والعاج.
وانتشرت أنواع الأعمال التزينية القائمة على استخدام الجلد، والتي كان تحضير أغلفة الكتب
يحتل مكانًا كبيرًا بينها.