حقيقة مصطلح الحضارة، والمصطلح الأمثل:
١ تعريفات:
جاءت كلمة الحضارة من العيش في الحاضر، وأطلق الباحثون كلمة حضارة على مظاهر
رقي الإنسان في كافة نواحيه الأدبية والعقلية والروحية والمادية، ولو أ  ن الجانب المادي منها
يدل على مدى تمدن الأمة وأخذها بأسباب السعادة والرفاه.
هي نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والأمصار، » : وع  رف ابن خلدون الحضارة فقال
.« ويضفي على حياة أصحابه فنونًا منتظمة العيش والعمل
والمدنية: هي الجانب المادي من مظاهر الحضارة، وهي ما أنتجه العقل الإنساني من مخترعات متطورة.
والثقافة: هي الجانب المعنوي من مظاهر الحضارة، وتعني: العلم والمعرفة والآداب والفنون.
فألفاظ مثل: الحضارة والمدنية والثقافية والعلم كلمات شائعة كثيرًا ما تتردد في كتابات
المفكرين والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الاجتماع وغيرهم، وتتردد هذه الكلمات بوعي وبغير
وعي أيضًا، حتى أن البعض يستخدمها على أنها تحمل معاني واحدة، حيث يمكن استخدام كل
لفظ مكان الآخر، دون تمييز ومراعاة لمنطق اللغة والاشتقاق.
وبعض الكّتاب يميز بين لفظي: حضارة ومدنية، فيجعل لفظ الحضارة خاصًا بالتكوين
الثقافي والمعنوي لمجتمع ما، ولفظ المدنية يعد أكثر اتصا ً لا بالمظاهر المادية المتصلة بالحياة العلمية.
وهذه التفرقة بين الحضارة على أنها تختص بالجوانب الثقافية والمعنوية، بينما تختص
المدنية بالجوانب المادية والعملية، أدت إلى اقتراب لفظ الحضارة من لفظ الثقافة إلى حد صعوبة التمييز بينهما.
إذًا كلمات: الحضارة والمدنية والثقافة؛ ُتستخدم أحيانًا وكأنها تحمل معاني واحدة، حيث
يمكن استخدام كل منها بصورة توحد بينها جميعًا من حيث المعنى والاستخدام، وهذا تفسير
ترفضه اللغة، ويرفضه الواقع الحضاري للمجتمعات، وهذا يضطرنا إلى تناول كل حضارة
ككيان بذاته، حيث أن لكل حضارة تصورها الخاص الذي يسيطر ويوجه نتاج جميع الحضارات.
فهذا عن مفهوم الحضارة من حيث اللغة، أما من حيث الاصطلاح، فلا بد أن نشير إلى أن
الحضارة (في تاريخ الاصطلاح الغربي) من أهم مجالات الدراسات التاريخية، لأن التاريخ
يدرس الحضارات ضمن مجالاته، وهذا ما دفع المؤرخ الشهير توينبي إلى جعل الحضارة
محور الدراسات التاريخية، ويترتب على ذلك أن الحضارة جزء من التاريخ.
ولأن التاريخ في حاجة إلى مناهج الفكر الفلسفي، فقد اتسع مجال فلسفة التاريخ، وبذلك
نصل إلى تحديد الموقع الحقيقي للحضارة وفلسفتها بين كل من التاريخ والفلسفة، حيث أن فلسفة
الحضارة علم يقع في المنتصف بين كل من التاريخ والفلسفة، ومن علم التاريخ ندرس تاريخ الحضارات.
ولذلك يتنوع تعريف لفظ الحضارة بين علماء الأنثروبولوجيا و علماء فلسفة التاريخ والموسوعات، وتفسير الإسلام لها.
ففي علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أبرز الأنثروبولوجي تيلور سنة ١٨٧١ م بأن الثقافة: كل
مركب يشمل المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والعادات الاجتماعية، وكل القدرات
الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوًا في جماعة. وأشار الأنثروبولوجي الأمريكي كلايد
كلاكهون أن الحضارة تعني النتاج التاريخي لتنظيم المعيشة، وذلك من خلال مشاركة الجماعة.
واعترفت دائرة المعارف الأمريكية بصعوبة تعريف لفظ الحضارة، فأحيانًا أشارت على أنه
النظام الذي يوجد فيه المواطن الذي يملك الوسائل الجيدة والتحكم النفسي، وذلك هو الإنسان
المتحضر، وبهذا المعنى فإن كّتاب القرن التاسع عشر استخدموا لفظ الحضارة للتعبير عن التقدم
في عالم المعرفة والإبداع الذي يسمح للإنسان أن يسلك السلوك الحضاري.
وفي القرن العشرين ُذكر أن التصور الأنثروبولوجي للثقافة هو مجموعة تعاليم فطرية
مكتسبة بالسلوك، وع  رفوا السيرة الحضارية أنها السلوك الذي يسلكه الفرد بوصفه عضوًا في
مجتمع منظم من الأفراد، بحيث أن كل فرد في ذلك المجتمع يعد نتاجًا تاريخيًا لتلك الحضارة،
والحضارة هي مجموع خبرات الحياة بالنسبة لكل فرد، وجاء أيضًا أن الحضارة ليست هي
التقدم التكنولوجي فحسب، وإنما هي الارتقاء العقلي والإيمان بالقيم الإنسانية لخير الإنسان
وسعادته، وأن الحضارة بلفظ آخر هي المدنية وتعني التمدن والتحضير.
وعند فلاسفة التاريخ والحضارة، نجد هيجل يع  رف الثقافة والحضارة (بمزيج من
التناقضات)، فهو يرى أن كل عصر أو فترة أساسية في تاريخ الحضارة الاجتماعية يمثل وحدة
مستقلة، وأن ملامحه السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية العامة والجمالية والعقلية
والدينية، كلها جوانب أو نوا ٍ ح للمجموع الحي، ومنها جميعًا يتكون كيان متجانس، وأن كل فترة
أساسية تنمي فكرتها الرئيسية إلى الحد الأقصى ثم تولد أضدادها أو نقائضها، ويستمر الصراع
دائمًا، فتتحد المبادئ المتناقضة في وحدة عليا هي الموحد، وهذا الموحد يندفع مرة ثانية إلى الحد
الأقصى وينشب صراع جديد، فيتولد حينئذ مرة أخرى موحد يحوي ما هو ف  عال من كل من
الفرضية ونقيضها، وبهذا الأسلوب الثلاثي تتقدم الفكرة حتى نصل آخر الأمر إلى المطلق الذي
نستطيع أن نبقى نتأمله إلى الأبد دون أن نتبين فيه أي تناقض.
وفي فلسفة التاريخ عند هيجل، ليس موضوع التاريخ أفعال أفراد جزئيين، وإنما موضوعه
ذلك الصراع بين العوامل والقوى المتعارضة، ووعي الروح بذاتها بل تحقيقها لذاتها من خلال
هذا الصراع.
ويرى ول ديورانت أن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه
الثقافي، وأنها تتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية
ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من
الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز
الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
وأما أرنولد توينبي - والذي تعد نظريته من أهم نظريات فلسفة التاريخ - فيرى أن التاريخ
هو إحدى النوافذ التي لا تحصى التي تطل على الحقيقة، ويع  رف المدنية: بأنها أصغر وحدة
للدراسة التاريخية يصل إليها المرء حين يحاول فهم تاريخ بلاده، وفي رأيه أن الحضارة تنشأ
عن الأديان فيربط الحضارة بالكنيسة الكاثوليكية، ويقول أن الحضارة الغربية وحدها التي تحافظ
على الشرارة الإلهية الخ ّ لاقة، وهي وحدها القادرة على أن لا تؤول إلى ما آلت إليه سابقاتها،
ويرى أن الإمبراطوريات ليست مقياسًا للحضارة، بل على العكس، إنها تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة.
وهناك من تناول الحضارة للدلالة على جانبين، الجانب الروحي والجانب المادي أو
التكنولوجي.
والآن نأتي إلى القرآن الكريم، فنجد فيه فيما يقابل البداوة والترحال: حاضرة ومتحضرة،
ومن الفكر الإسلامي الحديث نختار رؤية مالك بن نبي، الذي اتجه منذ نشأته نحو تحليل
الأحداث التي كانت تحيط به، وقد أعطته ثقافته المنهجية قدرة على إبرار مشكلة العالم المتخلف
مشكلات » باعتبارها قضية حضارة أو لا وقبل كل شيء، فوضع جميع كتبه تحت عنوان
.« الحضارة واهتم ابن نبي بدراسة التاريخ يرقب فيه سير الحضارات، ويستخلص القواعد الثابتة والسنن
التي لا تبدل لها، وقد طرح القواعد الأساسية لفعالية الإدارة الإنسانية وقوتها في صنع
الحضارة.
ولذلك يرى أن مشكلة كل شعب هو في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم
أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبين
الحضارات أو تهدمها. ويرى أن الحضارة لا تنبعث إلا بالعقدة الدينية، وينبغي أن نبحث في
حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها، فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا
في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعًا ومنهاجًا، أو هي على الأقل تقوم أسسها
في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام.
ويؤكد ابن نبي أن البناء الحضاري يقوم على مقومات الروح والعقل معًا، فإن أي مجتمع لا
يستطيع البقاء بمقوم دون الآخر.
إن الحضارة هي مجموع الشروط الأخلاقية » : وأخيرًا فإنه يعرف لنا الحضارة بما يلي
والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده، منذ
.« الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه
والآن بعد تبيين بعض المصطلحات المتداولة والمعروفة أعلاه، نريد أن نتبين مدى أصالتها
بالنسبة لتراثنا الإسلامي؛ فربما سيستغرب الكثيرين أن مصطلح الحضارة مصطلح غير عربي
النشأة، وهو أحد الترجمات لمفردتين في اللغات الأوروبية منبثقتين عن جذرين لاتينيين يختلف
كل منهما عن الآخر، وقد نقل بعض (المثقفين) العرب معاني هاتين المفردتين الأوروبيتين إلى
اللغة العربية وف  رغوها في ألفاظ عدة حسب فهمهم لهذه المعاني وتلك الألفاظ، كان منها:
(الحضارة).
لقد انتقل المفهوم الغربي إلى لفظ (الحضارة) العربي، وأيضًا إلى لفظي (المدنية) و(الثقافة)
وأي  ضا عبر ترجمة لفظ ،Civits التي تعود إلى اللفظ اللاتيني Civilization عبر ترجمة لفظ
لذا علينا البحث في معاني هذين اللفظين. ،Cltra التي تعود إلى الجذر اللاتيني Cltre
التي تعني المدني أو المواطن الساكن في Civis من اللاتينية Civilization فقد اشتقت
المدينة، وهذا المعنى قريب من المعنى المقصود في كلام الفلاسفة العرب الذين تأثروا
بالترجمات اليونانية عندما كانوا يذكرون أن (الإنسان مدني الطبع)، ويعنون بذلك: أنه
(اجتماعي)، فمدني هنا كانت تعني: (أهلي)، أي: إنه غير وحشي.
بمعنى حرث أو ن  مى، وقد (Colere من فعل Cltra) عن اللفظة اللاتينية Cltre وأُخذت
ظلت اللفظة مقترنة بمعنى حراثة الأرض وزراعتها طوال العصرين: اليوناني، والروماني،
أي: زراعة العقل (mentis Cltra) : ومع أن شيشرون استعملها بالمعنى المجازي داعيًا الفلسفة
وتنميته، إلا أن هذا الاستعمال ظل نادرًا في اللغة اللاتينية.
وفي القرون الوسطى أُطلقت الكلمة في فرنسا على الطقوس الدينية، وفي عصر النهضة
على مدلوله الفني والأدبي، وبدأت الكلمة في أوائل العصور Cltre الأوروبية اقتصر مفهوم
الحديثة تستعمل في الإنجليزية والفرنسية بمدلوليها المادي والعقلي، مع إضافة الشيء المقصود
بالتنمية ( ذكاء معرفة مهارة زراعة... ).
فلما كان القرن الثامن عشر أطلق الكّتاب الفرنسيون اللفظة إجما ً لا دون إضافتها إلى شيء
معين، وأصبحت تدل على تنمية العقل والذوق، ثم انتقلت إلى حصيلة هذه التنمية من مكاسب
عقلية وذوقية، وفي أواخر هذا القرن انتقلت اللفظة بما استقرت عليه من معا ٍ ن من الفرنسية إلى
الألمانية، ثم اكتسبت في الألمانية في القرنين التاسع عشر والعشرين مضمونًا اجتماعيًا؛ حيث
أصبحت تدل على التقدم الفكري الذي يحصل عليه الفرد أو المجموعات أو الإنسانية بصفة
عامة.
إلى العربية : Cltre و Civilization ٢ انتقال مفهومي
لعل ترجمة كتاب: (إتحاف الملوك الألبا بسلوك التمدن في أوروبا) في عهد محمد علي باشا
بمفاهيمها (Civilization) أوائل القرن التاسع عشر الميلادي شهد ظهور أول ترجمة لكلمة
الغربية الحديثة إلى العربية. وواضح أن لفظ (المدنية) صيغ في هذه الفترة مقاب ً لا لها للدلالة على
المجالين المادي والمعنوي، وقد ذكر رفاعة الطهطاوي في كتابه: (مناهج الألباب المصرية) ما
يوضح ذلك، أي: إن (التمدن) و (المدنية) كانتا تطلقان إطلاقًا شام ً لا، وكذلك صيغت اللفظة
نفسها في ترجمات كتب القانون، خصوصًا ما أطلق عليه: (القانون المدني)، وظل هذا المفهوم
الشامل (للمدنية) مستخدمًا طوال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين صيغت كلمة (حضارة) ترجمة ل
وربما كان علي مبارك ومن بعده أحمد لطفي السيد أول من استخدم كلمة ،(Civilization)
وابتداءًا من الربع الثاني من القرن العشرين ،(Civilization) (حضارة) للدلالة على مفاهيم
شاع استخدام كلمة (الحضارة) بدي ً لا عن (المدنية) بمعناها الشامل.
قاصدًا (Cltre) وفي عشرينيات القرن الماضي أطلق سلامة موسى لفظ (ثقافة) على مفاهيم
بها: المعارف والعلوم والآداب والفنون، يتعلمها الناس ويتثقفون بها، بينما أطلق (الحضارة)
قاصرًا مدلولها على الأمور المادية والمحسوسة. (Civilization) مقاب ً لا لكلمة
وفي أواخر الخمسينيات أُطلقت لفظة (المدنية) على الظواهر المادية في حياة المجتمع
إلى (حضارة) للدلالة على الظواهر الثقافية Cltre بينما ترجمت ،(Civilization) ترجمة ل
والمعنوية، وقد ساهمت في ذلك ترجمات علماء الاجتماع والإنثروبولوجيا العرب.
(Civilization) وفي النصف الثاني من القرن العشرين أخذت المعاجم والقواميس تترجم
إلى (حضارة)، مع نقل التعريفات والمفاهيم المرتبطة بالكلمة الأوروبية كما هي في بيئتها.
ومن خلال هذا الاستعراض يتضح لنا أن هناك شقين في المفهوم الغربي الذي أراد بعض
شق مادي محسوس، الادارة والحضارة العربية الاسلاميةCltre) و (Civilization) المثقفين العرب نقله إلينا من خلال ترجمة
وشق معنوي ومعرفي.
وقد انتقل التداخل والتضارب في مفاهيم اللفظين عند الأوروبيين إلى الترجمات العربية؛
حيث عبرت (المدنية) أحيانًا عن الشقين معًا، وأحيانًا أخرى عبرت (الحضارة) عنهما، وأحيانًا
عبرت (المدنية) عن الشق المادي، و (الحضارة) عن الشق المعنوي، وأحيانًا أخرى عبرت
(الحضارة) عن الشق المادي، تاركة للشق المعنوي المعرفي كلمة (الثقافة).. وهكذا اضطرب
ارتباط المفهوم مع المصطلح، وإن كان يكثر في السنوات المتأخرة إطلاق لفظ (الحضارة) على
الشقين المادي والمعنوي، مع بعض الميل إلى استخدام (المدنية) في الجوانب المادية، تاركًا
(الثقافة) لجهود الفرد في تنمية وعيه ومعارفه وذوقه؛ بخلاف (الحضارة) التي تتسم بالجماعية.
٣ نقد المفهوم الغربي:
إننا غير ملزمين بقبول محتوى المفهوم ولا بالتمسك بمصطلح ارتآه بعض المثقفين إلا بقدر
ما يوافق قناعاتنا، وهذا مقتضى إسلامنا، بل مقتضى كوننا عقلاء وأحرارًا، ومن هنا: وجب
علينا مناقشة المفهوم وتمحيص المصطلح؛ فمن خلال مناقشة المفهوم الغربي الذي يعد مرجعًا
للمفكرين العرب الذين نقلوه إلينا نستطيع التعرف على فحوى المصطلح ومدلولاته وملابساته
التي تسللت إلى المصطلح العربي، ونستطيع أيضًا استيضاح مدى توافق ذلك المفهوم مع
مفاهيمنا الإسلامية الأصيلة.
لقد اتضح أن المفهوم الغربي خرج من كلمتين تدل إحداهما في أصل معناها على الفلاحة
(غرس، ثم إنماء، ثم حصد)، وتدل الأخرى على النسبة إلى المدينة، بينما خرج المصطلح
9
العربي (حضارة) من منطلق أن (الحضر) بخلاف البدو، وعليه: فإن الكلمة (حضارة) تدل على
ويمكن مناقشة ذلك فيما يلي: ،Civilization الاستقرار الذي تنشأ عنه المدينة التي هي أصل
أو ً لا: ارتباط مفهوم (الحضارة) بالمدن والنظرة الأوروبية للتطور أخرج مجتمعات بشرية
مما يسمى بالمجتمعات البدائية من دائرة الحضارة، وهذا لا يستقيم إنسانيًا؛ فالحضارة ميزة
إنسانية نظرًا لتفرد تكوين الإنسان العقلي والنفسي والعضوي، وهذا ما عناه ابن خلدون في
مقدمته عندما أدخل البدو (بدون مدن) في مراحل العمران، وقريب من ذلك تقريرات علماء
الإنثربولوجيا؛ فهم يقصدون بالحضارة: جماع حياة أي مجتمع بدائي أو متقدم؛ فلكل جماعة
إنسانية من النشاط (الحضاري) ما تهيأ لها لتتكيف مع بيئتها وتحقق غايتها من التحسين
والسعادة، وهكذا يكون لكل جماعة إنسانية حضارتها التي أبدعتها، وكما أنه ليست هناك
جماعات كاملة التحضر كذلك لا توجد جماعات وحشية أو بدائية تمامًا.
فالبدو مث ً لا ليسوا خلوًا من (الحضارة)، وقد كان لهم في بلاد العرب قبل الإسلام أعرافهم
وقيمهم الأخلاقية التي ترتكز في تقريرها وتنفيذها على إعمال فكر، وكان لهم  شعر يحمل كثيرًا
من الحكمة والتأمل والخبرة، كما كانت لهم خبرات عن النجوم والرياح والمطر بنيت على
الملاحظة والاستقراء.
وقد أشار علماء الأجناس الجدد حسب الموسوعة البريطانية إلى أن شعوبًا بدون مدن مثل
قبائل بولينيزيا والهنود الحمر في أمريكا الشمالية كانوا على درجة عالية من (الحضارة)، بمعنى
أنه عند التدقيق وجد أنه كانت لديهم لغات، وفنون أصيلة، بشكل يثير الإعجاب لظروفهم
ومؤسساتهم المتطورة، وكان لديهم أيضاً ممارساتهم الاجتماعية والسياسية والدينية، وأساطيرهم
الوثيقة التي هي ليست بأحسن ولا بأسوأ من كثير من تلك التي تسود اليوم بين دول أوروبا.
وقد قدمت (الحضارات الماضية) في أطوارها المتعددة إنجازات تعد الأساس الذي شيد عليه
البناء الحضاري الأوروبي، كاكتشاف النار، وصهر المعادن، وتدجين الحيوانات، والكتابة،
والعجلة، وابتكار الصفر... بل قدمت جماعات بشرية بدائية اختراعات كانت أنفع للإنسان من
الصعود إلى القمر، وهل يقارن هذا الصعود من جهة نفعه للبشرية باختراع رغيف الخبز مث ً لا ؟
! ونخلص من كل ذلك إلى أن الحضارة نسبية، وأنها تراكمية، كما أنها أيضًا كلمة محايدة لا
تحمل في ذاتها مدحًا ولا ذمًا.
ثانيًا: إن مفهوم (الغرس، ثم الإنماء، ثم الحصد) جعل كثيرًا من الباحثين ينظرون إلى
(الحضارة) على أنها تسير في خط تصاعدي دومًا، حتى إن بعض المفكرين كهيجل وكانت
وفيكو على فروق بينهم قسموا التاريخ إلى ثلاث مراحل: مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية،
10
ومرحلة (الحضارة)، وبناءًا على ذلك المفهوم تكرست النظرة إلى أحوال المجتمع الأوروبي
المعاصر على أنها (الحضارة)، بينما المجتمعات الأخرى الماضية أو المعاصرة مجتمعات
همجية، أو في أحسن الأحوال في مرحلة متدنية من (الحضارة)، ولذلك ظهرت عبارات مثل:
المجتمعات المتخلفة، المجتمعات النامية، اللحاق بركب الحضارة، تضييق الفجوة... وفي الوقت
نفسه أعطى هذا المفهوم تصورًا عن قيم المجتمع الأوروبي الذي تدعي قمة (الهرم الحضاري)
ومعتقداته وأنماط سلوكه ووسائل حياته.. أنها الأرقى والأصلح، بينما عدت قيم المجتمعات
الأخرى ومعتقداتها وأنماط سلوكها رجعية ومتخلفة، ومن ثم: ظهرت عبارات مثل: رسالة
الرجل الأبيض، أتباع الحضارة الغربية بحلوها ومرها، الدور التحضيري لأوروبا.. وبالفعل فقد
تعاظم الدور الأوروبي في المجتمعات الأخرى، وأخذ الأوربيون في (غرس) قيمهم وأفكارهم
ونمط معيشتهم، والعمل على (إنمائها) وسط هذه المجتمعات، والتطلع والصبر ل (حصد)
ثمرتها، وهو ما نعده نحن غزوًا حضاريًا بينما يدعي بعضهم أنها مجرد عملية (تحضير)
قسري.
ثالثًا: إن هذا المفهوم بخلفياته التاريخية الأوروبية وّلد نوعًا من فكر التبعية تجاه الغرب؛
فنسق التطور الأخير للمدينة الأوروبية أوجد مدنًا كبيرة بمثابة مراكز عالمية تمثل بؤرًا تتشابك
حولها مدن مختلفة رغم تباعدها، غير أنها ترتبط بالمدينة (الأم)، وتكون هذه المدن أخوات في
المدينة الأم، وهذه هي النظرة الإغريقية نفسها تجاه المدينة الأم (أثينا)، ولكن طبيعة العلاقات
المعاصرة أوجدت أنماطًا من الارتباطات مختلفة عن تلك التي كانت على عهد الإغريق، ومن
هنا تكرست النظرة إلى طبيعة العلاقة المفترضة بين دول العالم (النامي) ودول العالم
(المتحضر) بأنها علاقة تبعية، ثم نشأت المحاور والأحلاف والعلاقات الخاصة مع المراكز
(الحضارية) الأوروبية.
ومن جهة أخرى: فإن انبهار العالم (النامي) بحضارة أوروبا ونظرة كثير من مثقفيه
المهزومين نفسيًا إلى كون الحضارة: نق ً لا وغرسًا وإحلا ً لا، أوجد بيئة خصبة للدعوة إلى استبعاد
الثقافة والمعارف بل والقيم المحلية وتنحيتها؛ بوصفها رجعية متخلفة، لتفسح المجال ل (الثقافة
الجديدة) و (ثقافة اليوم) و (ثقافة المستقبل)، ومن ثم: للحضارة الجديدة.
رابعًا: إن المفهوم الأوروبي مستمد من القيم والأخلاق والأنماط التي أوجدتها المدينة
الأوروبية بعد تطورها الأخير، ولذلك فإن هذا المفهوم ينسب إلى (المدينة)؛ فالمدينة في الغرب
مصدر للقيم والسلوك، القيم والسلوك اللذين ظهرا في القرن السابع عشر والثامن عشر
الميلاديين؛ حيث تطورت المدينة الأوروبية وانتشر فيها نمط حياة الترف وما صاحبه من أفكار
11
وعلاقات اجتماعية وسياسية مستحدثة، وهذا بخلاف التصور الإسلامي، بل والتاريخ الإسلامي
اللذين يختلفان عن التصور والتاريخ الأوربيين؛ فالمدينة إسلاميًا هي التي خرجت من رحم القيم
والسلوكيات الإسلامية وليس العكس؛ فهي مدينة؛ لأنها ذات شرعة (دين) وسلطان؛ فهي إحدى
صور تشكل حياة المسلمين، وهكذا كانت حضارة الإسلام وليدة هذا الدين، ولذلك صاحب تغيير
الرسول صلى الله عليه وسلم لاسم (يثرب) إلى (المدينة) إعادة تشكيل المجتمع الجديد وفق القيم
الإسلامية، وربما لذلك أيضًا كان من علامات النفاق إطلاق اسم (يثرب) على (المدينة)؛ حيث
يحمل إطلاق هذا الاسم القديم رغبة في العودة إلى العقائد والقيم والنظم القديمة التي محاها
تأسيس(المدينة) النبوية.
ومن هنا يختلف المجتمع الأوروبي (المتحضر) عن المجتمع الإسلامي في شتى المجالات
حتى المادية منها؛ حيث تسيطر أدوات الحضارة (الأشياء) على الأول، يدور حولها ويعمل من
أجلها؛ لأنها غايته، بينما يوظف المجتمع الإسلامي هذه الأدوات لخدمة عقيدته ومبادئه ومنهجه.
خامسًا: صا  ح  ب نشوء المفهوم الأوروبي أو سبقه انفكاك المدينة الأوروبية من هيمنة الكنيسة
حيث كانت الكنيسة مركز المدينة الأوروبية والمسيطرة عليها أو بالأحرى: انفكاك المجتمع
الأوروبي من الدين، وعلى ذلك قامت حضارة أوروبا المعاصرة، ونتج عن ذلك أمران مهمان:
أما الأمر الأول: فهو بروز مفهوم (الحضارة) أو (المدنية) على أنه عكس مفهوم (الدينية)،
ومن هذا التصور ظهرت عبارات: الدولة المدنية، والقانون المدني، والثقافة المدنية، في مقابل:
الدولة الدينية، والقانون الديني، والثقافة الدينية، وهكذا انتقلت (اللادينية) إلى مجتمعاتنا عبر
(المدنية) رغم التباين الكبير بين دين النصرانية ودين الإسلام.
والأمر الثاني: نشوء القومية الحديثة على أطلال الانتماء الديني أو المذهبي، ومن ثم ربطت
الحضارة بالأرض أو القومية؛ ولهذا السبب لا نجدهم يطلقون اسم (الحضارة المسيحية) على
حضارتهم رغم اشتراكهم في الانتساب إلى (المسيحية)، إضافة إلى سبب آخر هو أن انكماش
المساحة التي يتحرك فيها دينهم وأي دين خلاف الإسلام جعلهم لا يتركون للدين إلا ركنًا ضيقًا،
هو كونه أحد مكونات الشق المعنوي في (الحضارة) أو (المدنية)، وهذا بخلاف الإسلام الذي
تتأبى طبيعته على الانكماش أو الانزواء؛ فهو أوسع من أن تحتويه دائرة في (الحضارة) أو حتى
كل الحضارة؛ لأنه يشمل الحياة كلها، ولذا خرجت منه الحضارة وانتسبت إليه وليس العكس؛
وهذه خصيصة إسلامية فريدة.
12
٤ تمحيص المصطلح العربي:
ارتكز (من روج) لمصطلح الحضارة على أن الحضر لغة بخلاف البدو، مما يعطي دلالة
على الاستقرار الذي هو شرط للحضارة، وأيضا: على الاستعمال العربي ل (حاضرة) بمعنى
مدينة أو قرية.
ورغم أن المعاجم العربية تورد (الحضر) على أنها خلاف البدو، وأن الحضارة الإقامة في
الحضر، إلا أن الاقتصار على هذا المعنى لاتخاذه مصطلحًا غير مسلم به؛ فقد أورد ابن
الأنباري في كتابه (الأضداد) وكذا أورده قطرب في الأضداد أيضا أن الحضارة من الأضداد؛
حيث قال: ( ومن الأضداد قولهم: فلان من أهل الحضارة، إذا كان من أهل الحضر، ومن أهل
الحضارة، إذا كان من أهل البادية ).
وإذا ضربنا صفحًا عن دلالة ما ذكره ابن الأنباري فإننا بالتأكيد لا نستطيع الزعم بأن أهل
العربية قصدوا من لفظ الحضارة المفاهيم نفسها التي يقول بها علماء الإنثروبولوجيا
المعاصرون؛ لأن اللفظ العربي لا يحتمل تلك المفاهيم لغة، كما أن الحضارة إذا عديناها من
حاضرة بمعنى مدينة لا تدل لغة على الشق المعنوي والقيمي الذي ارتبط بالمفاهيم الحديثة ل
الغربية، وهذا لا يستقيم لغة ولا تاريخًا. Civilization (الحضارة)، إلا إذا أضفنا إليها مفاهيم
وعندما انتقد ( جاكوبز وستيرن ) مصطلح ( حضارة ) ووصفه بأنه ( مصطلح فضفاض
مشكوك في قيمته ) كان يعني أن ثمة طعنًا على صدقية الاجتهادات التي تصدت لتعريف
المصطلح، ولأنها - أي تلك الاجتهادات - يشوبها شكوك في حياديتها العلمية، على الأقل،
وربما يكون اتساع شقة الخلافات بين علماء السوسيولوجيا ( علماء الاجتماع ) حول المضمون
المعرفي للمصطلح - والذي لا يزال قائ  ما حتى الآن - هو الذي حمل ( جاكوبز ) على انتقاد
النزعة نحو الإسراف في الاحتكام إلى مصطلح ( حضارة ) ومشتقاته في قياس مستويات
تحضر المجتمعات.
بيد أن ثمة ملاحظات أخرى أكثر أهمية، في طليعة الأسباب التي تدعونا إلى عدم الارتياح
( للوظيفة المعيارية ) للمصطلح، ولعل أبرزها: أن الصياغات المختلفة التي تناولته يشتم منها
رائحة التحيزات الأيديولوجية والسياسية والعرقية ( السلالية ) بشكل واضح، وإذا علمنا أن جل
هذه الصياغات قد خرجت من تحت عباءة علم الاجتماع الرأسمالي ( أو الاشتراكي ) الغربي،
فإن استخدام المصطلح، لم يكن بريئًا ( للأغراض العلمية )، وإنما دخل حلبة ( التنظير
الأيدلوجي ) للحضارة الغربية، على النحو الذي يحفظ ( للأخيرة ) استعلاءها ( وازدارءها )
لثقافة الآخرين وحضارتهم.
13
ولقد أدت سيادة التعريفات الغربية المتحيزة لمفهوم الحضارة في أوساط النخبة العربية
المتأوربة إلى الانزلاق في مأزق ( التبعية الفكرية والثقافية ) للدول الصناعية الكبرى، ويظهر
ذلك بجلاء عندما تستشار - هذه النخبة - حول الإشكالية التي لم ينفض الجدل بشأنها، منذ
بدايات القرن الماضي وإلى الآن وهي: ماذا يؤخذ من الغرب المتقدم، وما يرد ؟ إذ يكاد هؤلاء
يجمعون على أن يؤخذ كل ما تنتجه أوربا ولا يراد منه شيء، أي نقل ( الآلة ) بجانب (
الحضارة ) أو الثقافة أو مجموعة القيم السائدة التي تطورت الآلة في كنفها، وقسر الواقع العربي
أو جلده إلى أن ينصاع لها أم ً لا في إحداث ثورة صناعية توازي تلك التي ينعم الأوربيون بها.
ولعلنا نتذكر دعوة ( طه حسين ) الشهيرة، في بداية القرن الماضي في كتابه المثير للجدل (
مستقبل الثقافة في مصر ) حين دعا صراحة إلى أن نحذو حذو أوربا في حلوها ومرها، خيرها
وشرها... ! بل إن الأمر تطور إلى ما هو أخطر من ذلك؛ إذ حلت ( قيم ) الغرب محل المعيار
الرباني الخالد ( القرآن والسنة ) في قياس القيم السائدة في المجتمع، وما ينفع المسلم وما يضره،
حيث قاس ( قاسم أمين ) قي  ما حضارية إسلامية ك ( الحجاب ) مث ً لا بمعايير ( حضارة الغرب
هل يظن المصريون أن أولئك القوم ( يقصد » : )؛ لأنه الطرف ( الأكثر تفوًقا ماديًا )، إذ يقول
الأوروبيين ) بعد أن بلغوا من كمال العقل والشعور مبل ً غا مكنهم من اكتشاف قوة البخار،
.« ! والكهرباء، يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا فيه خيرًا ؟ كلا
وقاسم أمين ليس استثناءًا، إذ إن رواد ما يسمى ب ( حركة النهضة العربية الحديثة )
اعتقدوا جميعًا أن ( الحضارة ) هي وليدة عبادة ( العلم )، أو أن يحل ( العقل ) محل ( الله ) ! !
و نذكر دعوة ( شبلي شميل ) إلى الاستعاضة عن الدين بالعلم وبالأخص العلم الطبيعي (
الإلحادي )، وإلى هذا النحو ذهب أقرانه من دعاة ( الظلامية ) والمتخذين من ( التنوير ) واجهة
للتخريب الفكري والعقلي الذي مارسوه باسم الاستنارة والتحديث.
وعندما استخدم (كانط) كلمة حضارة بمعنى ( السلوك ) قوبل بنقد شديد، خاصة من علماء
الاجتماع الغربيين في الوقت الحديث من الذين عاصروا صعود الرأسمالية الغربية في الفترة من
القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، وكانوا - في غالبيتهم - شديدي الحرص على
استبعاد الاتجاهات التي ثبت في يقينها أن الحضارة تعبر عن الإنجاز ( الروحي والأخلاقي )
للأمة ! إذ إن التسليم بهذا التعبير الأخير يعني تراجع الحضارة الغربية من مركزيتها الاستعلائية
لتتبوأ منزلة أدنى، وهي المكانة التي يأبى الغربيون أن يروا حضارتهم فيها، ومن ثم درجوا
على استخدام ( فائض المادي ) معيا  را للحضارة؛ إذ إن هذا الاستخدام - وبحكم تقدمهم
التكنولوجي - يدخل لهم إحساسًا زائفًا بالتفوق الحضاري.
14
نذكر هنا - على سبيل المثال - أن ألمانيا في عهد النازية الهتلرية و الولايات المتحدة
الأمريكية حتى عشية الحرب العالمية الثانية كانتا تفتقران إلى أي مشروع أخلاقي ( أو إنساني )
يمكن أن يحملاه إلى العالم؛ فالأولى ارتكزت إلى ( التفوق العرقي ) الذي أباح للألمان اجتياح
العالم وتدميره بوحشية، أما الثانية فكان يطاردها شؤم الإبادة الجماعية للهنود الحمر، بالإضافة
إلى افتقارها إلى التراكم الحضاري الممتد عبر التاريخ، أي أنهما كانا يعانيان - بوعي أو بغير
وعي - من عقدة العجز عن القيام بدورهما الرسالي، ولم يجدا عوضًا عن هذا العجز إلا أن
يشهرا في وجه العالم ( تقدمهما المادي ) لإيهامه بأنهم الأكثر ( تحضرًا )، ولقد شارك واحد من
أبرز علماء الاجتماع الألمان، وهو ( ألفريد فيبر ) - والذي عاصر صعود الهتلرية - في
تزييف الوعي بمفهوم ( الحضارة ) للتستر على السقوط الأخلاقي للنازية؛ حيث حمل على كل
من رأى في الحضارة تعبي  را عن الإنجازات الروحية للشعوب، واعتبرها دلالة على ( العلم
والتكنولوجيا فحسب ) وبالمثل نحا علماء الاجتماع الأمريكيون المنحى نفسه، حتى إن ( ميرتون
) استبدل في مؤلفاته - عشية إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي ( هيروشيما ) و ( ناكازاكي )
اليابانيتين - كلمة ( حضارة ) بمصطلح ( المستوى التكنولوجي )، تمهي دا لتسويق النموذج
الأمريكي في التكنولوجيا والاقتصاد والأنساق السياسية، والذي كان يقفز قفزات واسعة نحو (
العولمة ) في ذلك الوقت.
وكان أبرز تجليات ( خروج المصطلح ) وانفلات صياغاته عن ( الحياة العلمية ) ودخوله
ساحة ( التحيزات الأيديولوجية ) هو ظهور مصطلح ( حضارة الأطلسي ) الذي زعم أن
الأوربيين استوطنوا أمريكا وأن حضارة الأخيرة كانت بالنتيجة وثيقة الصلة بأوربا بالمعنى
الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي. ولا شك في أن الدعاية لهذا المصطلح كان يهدف إلى
إثبات أن أمريكا دولة قديمة وأنها ليست ( مقطوعة ) حضاريًا، وأنها سليلة الحضارة الأوربية
من جهة، والتأكيد على وجود ( جذور ) تاريخية بين الحلف العسكري - السياسي الراهن بين
المنظمة المعروفة باسم ( حلف شمال الأطلسي - الناتو ) من جهة أخرى.
٥ المصطلح الأمثل:
فإذا كان مصطلح الحضارة لا يكفي للدلالة على المفهوم المراد رغم التحفظات الموردة
عليه، فما هو اللفظ الذي يمكن أن يطرح بديلا له ؟.
المفهوم الأفضل الذي من المفروض أن نستخدمه؛ يبحث في نشاط الإنسان وإنجازاته في
فترة زمنية، بما يحقق ذاته وسعادته ويكيفه مع بيئته ويميزه عن غيره، باعتباره مخلوقًا اجتماعيًا
مختلفًا عن الحيوان... ومن هنا نستطيع القول: إن عناصر المفهوم هي: الإنسان، والبيئة،
والزمن.
والإنسان: عقل، وجسد، وروح، يتميز عن الحيوان عندما يكون إنسانا بأن عقله: يستطيع
التأمل والنظر، والتحليل والتركيب، والربط بين المتشابهات والتفريق بين المتنافرات، واختزان
التجارب والمعارف ثم تذكرها والاستفادة منها... وبأن جسده: يحتوي إضافة إلى غرائزه على
مخ كبير الحجم، له جهاز عصبي معقد التركيب، قامته منتصبة مما حرر يديه، يداه تمكنانه من
القبض على الأشياء بقوة، لسانه وحباله الصوتية مكنته من إخراج أصوات مختلفة، عيناه في
وجهه مما يمكنانه من الرؤية في مجال بصري واسع، طفولته الجسدية والعقلية والنفسية
طويلة... وبأن روحه: تبحث عن الطمأنينة والسكن والتجانس والجمال مع جنسه ومع بيئته،
تسمو بالغرائز، وتبحث دائما عن معبود تألهه.
وأما البيئة فالمقصود بها: العناصر والإمكانات المادية المتاحة لاستغلال الإنسان، والعوامل
الجغرافية (تضاريس، وموقع ومناخ) التي يعيش فيها ويتأثر بها ويحاول السيطرة عليها.
وأما الزمن: فهو امتداد الوقت الذي ينشط فيه الإنسان؛ الماضي الذي يستمد منه خبرته،
والحاضر الذي يعايشه ويستغله، والمستقبل الذي يستشرفه ويخطط له.
ولكن هذه العناصر الثلاثة: (الإنسان، والبيئة، والزمن) لا تعمل وحدها؛ إذ لا بد أن يكون
هناك غاية (هدف) يسعى إليه، وتعاون اجتماعي يعمل على تحقيق هذا الهدف وتلك الغاية،
ولإخراج هذا الهدف إلى الواقع لا بد من الاستقرار والاستمرار إضافة إلى التعاون، ولقيام هذا
التعاون لا بد من وجود نوع من أدوات الاتصال ( اللغة والكتابة مث ً لا)، ولا بد من وجود نوع
من العلاقات الاجتماعية، ونوع من الحكم المنظم والسلطة المؤثرة وقوانين (أو أعراف) منظمة.
ومن هنا نجد أن الإنسان في سعيه لتحقيق هدف راحته وسعادته ( الجسدية والعقلية والنفسية
والروحية) يعمل في دوائر نشاط متعددة ومتداخلة، نتجت من طبيعة الإنسان وتفاعله جماعيًا مع
بيئته خلال الزمن، هذه الدوائر هي: دائرة النشاط المعنوي والمعرفي، وتشمل: الجوانب العقدية
والروحية والفكرية، ودائرة النشاط المادي، وتشمل: الجوانب الاقتصادية والتقنية والمعمارية..،
ودائرة النشاط الإداري، وتشمل: النظم والمؤسسات السياسية والإدارية.
فما هي الكلمة التي تصلح أن تدل على هذه المفاهيم ؟
إن أقرب كلمة تدل على هذه المفاهيم هي الكلمة التي اختارها العلامة ابن خلدون:
(العمران)، فهي أقرب الكلمات في اللغة العربية، وأقربها إلى الاستعمال القرآني، بل لا تدانيها
لفظة أخرى في اللغات الأجنبية للدلالة على هذه المفاهيم.
فأصل مادتها واشتقاقاتها تتضمن الجانبين: المادي، والمعنوي، وتتضمن أيضا: البقاء
(الاستمرار)، والامتداد الزمني، والاجتماع، والكثرة (أو الانتشار)، والعلو (السمو والتقدم).
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة عن العمران: ( العين والميم والراء، أصلان
صحيحان، أحدهما يدل على: بقاء، وامتداد زمان، والآخر على: شيء يعلو... ومن الباب:
عمارة الأرض، يقال: ع  مر الناس الأرض عمارة... )، ويقول الأزهري في تهذيب اللغة: (
عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه، أي: عابد، قال: ويقال: تركت فلانًا يعمر ربه، أي
يعبده، وقال الله عز وجل: {  ه  و أَن َ شأَ ُ كم  م  ن الأَر ِ ض  واسَتع  م  ر ُ كم في  ها } ( ٢) أي: أذن لكم في
عمارتها واستخراج قوتكم منها... ورجل ع  مار، وهو الرجل القوي الإيمان الثابت في أمره..
قال: والع  مار: الزين في المجالس مأخوذ من العمر، وهو القرط، والع  مار: الطيب الثناء والطيب
من الروائح... )، ويقول أيضًا: ( وع  مار: المجتمع الأمر اللازم للجماعة الحدب على السلطان،
مأخوذة من العمارة، وهي القبيلة المجتمعة على رأي واحد، قال: وع  مار: الرجل الحليم الوقور
في كلامه وفعاله...، وع  مار مأخوذ من العمر، وهو البقاء فيكون باقيا في إيمانه وطاعته وقائما
بالأمر والنهي إلى أن يموت، وقال: وع  مار: الرجل يجمع أهل بيته وأصحابه على أدب رسول
الله صلى الله عليه وسلم والقيام بسنته.. ).
وعلى هذا تكون (العمران) التي هي مصدر عمر يعمر كلمة محايدة أيضًا لا تفيد مدحًا، ولا
ذمًا، فقد يكون عمران قوم فاسدًا أو باط ً لا، وقد يكون صالحًا أو فاسدًا، وقد يكون فيه جانب من
هذا أو جانب من ذاك.. تمامًا مثل كلمة دين التي قد تعني دين الحق أو تعني دينًا باط ً لا.
وبمثل الاستعمال اللغوي جاء الاستعمال القرآني
ثانيًا حضارة عربية أم إسلامية:
كثيرًا ما تجري محاورات فكرية حول تسمية هذه الحضارة، ويقف الدارسون أمام تسميتين:
وتبعًا لذلك أصبح حتمًا على كل مؤلف في هذه ،« الحضارة العربية » و « الحضارة الإسلامية »
وحدث ذلك بين المؤلفين ممن كتبوا فيها ،« إسلاميًا » أو « عربيًا » الحضارة أن يختار لها نسبًا
باللغة العربية، كما حدث أيضًا بين من كتب فيها بلغات أوروبية. إن آدم متز وجوستاف فون
جرونبام يسميانها الحضارة الإسلامية، بينما جوستاف لوبون يصر على تسميتها حضارة عربية،
وكذلك فعل جاك ريسلر حين سمى كتابه في ،« حضارة العرب » وجعل عنوان كتابه المشهور
الموضوع نفسه: الحضارة العربية.
وستجد أننا اعتمدنا في هذا الكتاب على مراجع لعلماء من الغرب تنوعت عناوين مؤلفاتهم
مثل كتاب: ،« الحضارة العربية الإسلامية » و « الحضارة العربية » و « الحضارة الإسلامية » بين
شمس العرب تسطع على الغرب لزيغريد هونكه، وحضارة العرب لغوستاف لوبون، والعلوم
والهندسة في الحضارة الإسلامية لدونالد هيل، والعلوم عند المسلمين لهوارد تيرنر، والحضارة
العربية لجاك ريسلر، وأثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا لمنتغمري واط.
لقد اختار الله رسوله الكريم من بين العرب، وأنزل كتابه السماوي باللغة العربية، ووردت
) وغير ذلك آيات أخرى كثيرة تؤكد العربية لغة للكتاب العزيز.
هذا ولغة الرسول وأحاديثه الشريفة عربية اللسان، وجميع العلوم التي نشأت في نطاق
العقيدة كلها ُ كتب باللغة العربية حتى ولو كان كاتبوها غير عرب؛ فقد أسلموا وأقبلوا على لغة
كتابهم الكريم دراسة وفهمًا حتى يستطيعوا فهم دينهم واستنباط الأحكام وتدوين التشريع وكتابة
الفقه، تلك كلها نتائج طبيعية لنزول القرآن باللغة العربية ببيانه الساطع وأسلوبه المعجز، وهو
في حد ذاته آية من آيات الله ومعجزاته العظمى التي جاءت تتحدى براعة القوم الذين ظنوا أنهم
بلغوا بلغتهم - شعرًا وخطابة - مبلغًا معجزًا، فكان نزول الكتاب العزيز في أسلوبه ذلك الناصع
الساطع فض ً لا عن محتواه تشريعًا وهداية وتوحيدًا بمثابة شجب لكل أسباب البلاغة التي جرت
على لسان شاعر أو ترددت على شفاه خطيب.
ولقد كان نزول الكتاب العزيز باللغة العربية تكريمًا لها وتخليدًا، ولكنه يقف من العرب
والبشر جميعًا موقف التحدي أن يأتوا بسورة من مثله،
إذن، فالقرآن الكريم بنزوله بالعربية أصبح مصدر تكريم لها، ولكن الحقيقة الواقعة أيضًا أنه
بإعجازه وتحديه جعلها تتخلف خطوة إلى الوراء تقتبس من آلائه وتستشهد بآياته في مقام
تصويب الخطأ من أحكامها وتصحيح المنحرف من قضاياها
فأما محتوى القرآن الكريم بأحكامه وإرشاده وقيمه وهدايته فليس للعرب وحدهم، وإنما هي
رسالة للناس أجمعين آمنوا بها من كل جنس ودخلوا فيها من كل صوب لا فرق في ذلك بين
عربي وغير عربي، ومن ثم إذا كانت لغة القرآن العربية فإن دعوته عامة شاملة عالمية كونية،
بل إن علماء الإسلام لم يكونوا جميعًا من العرب، هذا إذا لم يكن أكثرهم من غير العرب، وليس
في ذلك كبير غضاضة فقد سوى الإسلام بين الناس جميعًا وجعلهم كأسنان المشط لا فضل لأحد
منهم على الآخر إلا بما يقدم من خير وما يلتزم من تقوى، قال تعالى: { يا أَي  ها النَّا  س إِنَّا َ خَلقَْنا ُ كم
ولقد ازدهرت الحركة العلمية في العصر الإسلامي على أيدي نفر من العلماء والرواد، منهم
العربي والفارسي والأفغاني والتركي والكردي، ومنهم الطبيب والصيدلاني والكيميائي
والفيزيائي وعالم الرياضيات وعالم الجغرافيا، جمعتهم كلهم حضارة الإسلام في مشارق الأرض
ومغاربها، واحتلوا مكانة مرموقة في تاريخ العلم والحضارة، لأن تاريخ الاكتشافات العلمية
كتاريخ الحضارة بأكملها، صنعه الإنسان منذ دخل مرحلة التاريخ في عصور متعاقبة على
امتداد آلاف السنين، وساهمت الأمم على اختلاف أجناسها في إثراء المعرفة البشرية والحفاظ
على تراث الحضارة المختلفة.
والحضارة الإسلامية قامت من الناحية المادية على ما وصل من إنجازات الحضارات
القديمة إلى الحضارة العربية قبل الإسلام، واعتمدت على ثروات الطبيعة التي امتلأت بها
رقعتها الممتدة من الشرق إلى الغرب في موقع من الأرض يتوسط حضارات الهند والصين
والفرس شرقًا، وحضارات روما واليونان غربًا. لكن هذه الموارد الطبيعية الكثيرة لم تكن لتقيم
حضارة زاهرة لولا أن ظهر الإسلام الحنيف وامتدت تعاليمه لتشمل شعوبًا كثيرة دخلت الإسلام
واعتنقته، كما شملت طوائف عدة غير المسلمين بقوا على أديانهم ومذاهبهم، ولكنهم نعموا بعدل
الإسلام وسماحته وتفاعلوا مع العنصر العربي الأصيل الذي قامت عليه الفتوحات الإسلامية في
بادئ الأمر.
ومع ما تقدم، فإن المؤرخين والفلاسفة يختلفون حول تعريف العرب والحضارة العربية
وتعريف المسلمين والحضارة الإسلامية، ويكثر الجدل والنقاش بشأن من هم العرب، هل هم
سكان الجزيرة العربية، أم هم أيضًا الذين دخلوا في إطار الدولة الإسلامية الكبرى واتخذوا اللغة
العربية لغة لهم واقتبسوا عادات العرب وتقاليدهم. ومهما يكن من أمر هذا الجدل فإنه يصعب
الفصل التام بين العالم الإسلامي والعالم العربي، فالدولة الإسلامية الكبرى بدأت في صدر
الإسلام بالدولة العربية الإسلامية في صورتها المركزية، ثم قامت في أمصار مختلفة في
الأندلس والمغرب ومصر وفارس وسوريا وغيرها بعد سقوط السلطات المركزية، وظلت اللغة
العربية منتشرة بفضل الإسلام إلى اليوم بين الطوائف أو الشعوب التي لا تنتمي أص ً لا إلى
السلالات العربية أو تلك التي لازالت منتمية إلى الإسلام.
إنها حضارة عربية أسهم بها جماعات من أجناس مختلفة وشعوب عديدة، اشترك بها فرس،
وهنود، وبخاريون، وأفغانيون، وطبريون، وغير ذلك من أمم وأقوام، ولكنهم جميعًا تثقفوا بثقافة
عربية ووضعوا مؤلفاتهم باللغة العربية، لغة دينهم، فعزت عليهم أكثر من لغة الأم الأصلية أو
الأمة التي ينتسبون إليها، وليس من المبالغ فيه الادعاء بأنه لم يؤلف منهم بغير اللغة العربية إلا
النذر اليسير.
« يوحنا بن ماسويه » و « حنين بن إسحق » لأن بعض أعلامها الكبار مثل « عربية » وهي
لأن بعض أعلامها الكبار مثل « إسلامية » كانوا عربًا ولم يكونوا مسلمين، و ،« ثابت بن قرة » و
كانوا مسلمين ولم يكونوا عربًا. « الخوارزمي » و « أبو بكر الرازي » و « البيروني » و « ابن سينا »
لأنها نشأت أول ما نشأت بين ظهراني العرب، وإن اتسعت دائرتها ،« الحضارة العربية » و
بعد ذلك لتضم أبناء شعوب أخرى غير عربية، وإما بانتقال علومها وسماتها ومقاييسها ولغة
قلمها.
وهي حضارة إسلامية أسهم بها جماعات من أديان ومذاهب مختلفة، بينهم مسيحيون
وسريان ويعاقبة ونسطوريون ويهود، وغيرهم، ولكن راية دول الإسلام العربية أظلتهم جميعًا
فعملوا تحت لوائها، باعتبارهم من رعاياها، ووضعوا مقدمات مؤلفاتهم بروح عربية وصيغة
إسلامية لذلك كان جائزًا تسمية حضارة الإسلام في عهود خلفائه بالحضارة الإسلامية.
لأن الإسلام كان باعثها وظل دائمًا وأبدًا طاقتها المحركة بتعاليمه الخالدة: { « الإسلامية » و
اطلبوا العلم من المهد إلى » اقْ  رأْ } ( ٢٠ ) و {  سُن ِ ري ِ هم آياتَنا في الْآَفا  ق  وفي أَنُف  س ِ هم } ( ٢١ )، وكذلك
.« اطلبوا العلم ولو في الصين » و « اللحد
ويبدو أن المستشرقين الذين تعمقوا بدراسة هذه الموضوعات تحيروا في تسمية الحضارة
التي أعقبت ظهور الإسلام، فس  ماها بعضهم الحضارة الإسلامية، وس  ماها البعض الآخر
الحضارة العربية، كما م  ر معنا قبل قليل، على أن مما زاد الأمر تعقيدًا اليوم ظهور قوميات
مختلفة كان يجمعها الإسلام أخذت تتجاذب نسبة العلماء العرب إليها، فُنسب ابن سينا إلى فارس
وإيران، كما نسب الطبري إلى طبرستان، والبيروني إلى الأفغان، وابن رشد والزهراوي إلى
الإسبان، وقد شط بعضهم في نسبة علماء العرب اليهود فنسبوهم إلى أمم ما أنزل الله بها من
سلطان.
إن هذا كله يحدو بنا إلى أن نسمي حضارة العرب والإسلام بالحضارة العربية الإسلامية،
إن تعبيرًا من هذا القبيل يدخل في إطار صفته الأولى لغة العرب وبناة الحضارة العربية
والخلفاء الذين كانوا عربًا، كما يدخل في إطار الصفة الثانية لواء الإسلام الذي أظلهم جميعًا.
وفي اعتقادنا إن مدلول هذه التسمية سوف يظل عرضة للنقد لأن مقومات الشمول من حيث
الجمع والمنع تنقصه، ولكنه في كل حال أقل التعابير نقصًا وأكثرها شمو ً لا، ومع ذلك سنستخدم
في هذا الكتاب معظم هذه التعابير احترامًا لقناعات الجميع.
هي التسمية الجامعة التي لا تجعلنا نجحد فضل « الحضارة العربية الإسلامية » فتسميتها ب
الأعاجم أو غير المسلمين، فكان أهم ما ميز الحضارة العربية الإسلامية أن قاعدة انطلاقها كانت
الدين الإسلامي ذاته بما تميز به من قوى دافعة تثير كوامن النفس البشرية وتدفع بها على
الطريق الصحيح، وبما يحض عليه من قيم النبل والتسامح والأمانة والنزاهة؛ فهذا جعلها تتقبل
الإسهامات الوافدة من الحضارات الأخرى، وتتقبل مشاركة الغير _ غير العرب وغير المسلمين
_ وجعل روادها ينزعون إلى الجدية والدقة والبحث عن الحقيقة المطلقة أينما وجدت.
الفصل الثاني
نظم الحضارة العربية الإسلامية
- مصادر دراسة الإسلام السياسي والنظم الإسلامية:
القرآن الكريم هو المصدر الأول لدراسة النظم الإسلامية، فالقرآن الكريم هو التنزيل المحكم
الذي انتظمت فيه القوانين، وُقدرت فيه القواعد التي انضبط بها المجتمع الإسلامي والأمة
الإسلامية جميعًا. ووفق تلك القوانين والقواعد شيد المسلمون حضارتهم، وفي إطارها قامت
وتطورت نظمهم السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
لقد هيأ الإسلام للعقلية الإسلامية المناخ الحر للتفكير والخلق والإبداع، ومن هنا كان علماء
المسلمين عربيهم وأعجميهم، أسودهم وأبيضهم، يبدعون فيما أنتجوا من فكر وأدب وسياسة
واجتماع واقتصاد وفلسفة وأخلاق وعلوم وفنون وفقه وأصول.
والإسلام يقعد للقوانين التي تضبط سلوك الفرد وسلوك الجماعة في وقت السلم ووقت
الحرب سواء بسواء، ويضمن العدالة لكل من يحيا في ظل هذا الدين مسلمًا كان أو ذميًا، كما
ينظم القرآن الكريم أصول المعاملات وآدابها ليظل دائمًا النبع الذي يستمد منه المسلمون أساليب
حياتهم وأصول نظمهم.
والإسلام كما حددت أصوله وأسسه وقواعده في القرآن الكريم وكما ظهر تطبيقًا في سنة
الرسالة كما أُوحي بها إليه، لم يكتم _ وصحابته والتابعين دين ودولة، بّلغ الرسول _ النبي
منها شيئًا، وعلى هديها أقام المسلمون دولة الإسلام في المدينة، وعن القرآن الكريم انبثقت كل
الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية التي عرفتها دولة الإسلام الشابة في
المدينة، فيها ولدت وترعرعت وتطورت ثم عاشت على مر العصور والأجيال تشع نور
الحضارة الإسلامية في الآفاق.
وطبق المسلمون نظريات القرآن الكريم في الحكم والسياسة كما طبقوهما فيما يتعلق بالإدارة
وتنظيمها، وانتقلت هذه الأسس وتلك القوانين والنظريات لينتقل التطبيق الإسلامي إلى خارج
شبه الجزيرة العربية، لتتأكد بذلك صلاحية تلك النظم والقوانين لكل زمان ومكان.
وتنفرد الحضارة الإسلامية بين كل الحضارات باستقاء نظمها وتشريعاتها وقوانينها من
القرآن الكريم الكتاب السماوي الأوحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي
سيظل دائمًا المنبع الذي تنهل منه الحضارة الإسلامية حيويتها.
القرآن الكريم على هذا هو الأصل والمصدر، وتشرحه السنة النبوية الشريفة وتوضح ما
يصعب على المسلمين فهمه، ومن ثم كانت السنة هي المصدر الثاني من مصادر الحضارة
إمام المسلمين وقاضيهم وقائدهم ومعلمهم _ الإسلامية وما قدمته من نظم، فقد كان رسول الله
ومربيهم، وفوق هذا وذاك كان نبيهم الذي بّلغهم رسالة ربه كما أُوحي بها إليه.
وتعد المصادر المكتوبة وخاصة الوثائق والمعاهدات والاتفاقات وأوراق البردي؛ من
الأصول الأولى لدراسة التاريخ الإداري والاقتصادي للدولة الإسلامية على امتداد أطرافها.
وتعد الآثار الإسلامية من المصادر المعينة لدراسة الحضارة الإسلامية، فللمسلمين آثار مبنية
تنتشر في قارات الدنيا، من الأندلس غربًا إلى شبه القارة الهندية شرقًا، تقف شامخة تقدم الدليل
الحي على سمو حضارة الإسلام وارتقائها.
ولقد تحدثت مصادر تاريخية إسلامية عديدة عن الإسلام السياسي والنظم الإسلامية، ومن
أهمها:
نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدراية: الشيخ عبد الحي الكتاني. صبح الأعشى في
صناعة الإنشا: أحمد بن علي القلقشندي. الأحكام السلطانية والولايات الدينية: أبو الحسن علي
بن محمد البغدادي الماوردي. الخلافة والملك: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني. السياسة
الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني. الطرق الحكمية
في السياسة الشرعية: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي. درر السلوك
في سياسة الملوك: أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي. تبصرة الحكام في أصول الأقضية
ومناهج الأحكام: برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن فرحون اليعمري. مآثر الإنافة في معالم
الخلافة: أحمد بن علي القلقشندي.
ومن أهم المراجع في الموضوع الذي نتحدث عنه: فقه الخلافة وتطورها: لعبد الرزاق
السنهوري. وتاريخ النظم والحضارة الإسلامية: لفتحية النبراوي، وقد استطاعت النبراوي أن
توظف المادة العلمية الموجودة في المصادر التاريخية بأسلوب شامل وسلس.
وقد اعتمدت على هذه المصادر التاريخية وعلى هذا المرجع الأخير بشكل كبير في كتابة
هذا البحث.
١ الخلافة الإسلامية:
وضع الإسلام قواعد نظام سياسي عام للدولة الإسلامية يتضمن نظرية سياسية متكاملة يظهر
من خلالها الشكل الذي يرتضيه الإسلام للبناء السياسي الذي تنتظم خلاله أحوال الأمة وشؤونها
في كافة المجالات.
مؤسسًا لدولة _ وظهرت النظرية السياسية الإسلامية منذ عصر النبوة، فقد كان رسول الله
الإسلام الأولى في المدينة، تلك الدولة التي وضع لها القواعد الأساسية والتي نجحت في أن
تصهر كل الخلافات بين العناصر البشرية المختلفة المكونة للمجتمع المدني، وأن تذيب كل
الفوارق __________بين تلك العناصر حيث سادت الأخوة وعم التراحم، وانبثق مجتمع جديد دفعه الإيمان
. _ بالإسلام إلى حماية المفاهيم والقيم الجديدة التي نزل بها الروح الأمين على رسول الله
وانطلاقًا من أن الإسلام دين ودولة، أقام المسلمون دولتهم في إطاره وتحركوا وفق قواعده
وأصوله، وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال جمود الفكر السياسي الإسلامي، وإنما يعني أن
هناك ضوابط تحكم النظام السياسي الإسلامي أشار إليها القرآن الكريم، وعمل بها السلف عند
وضعه لدعامات البناء السياسي للدولة الإسلامية، فقد نص القرآن الكريم على الشورى والالتزام
برأي الجماعة، ومن ثم كانت الشورى أص ً لا من الأصول الأولى للنظام السياسي في الإسلام،
وفي هذا سبق المسلمون كل النظم الديمقراطية الحديثة في الاعتراف بضرورة موافقة الجماعة
على اختيار من يقوم على رعاية مصالحها ومن يوكل إليه تدبير أمورها، وهنا تظهر قيمة
وفاعلية الإجماع.
وقد اهتم الفقهاء بالحديث عن موضوع النظام السياسي في الإسلام، وأسهبوا وأفاضوا في
توضيحه وشرح أسسه وقواعده، وأفردوا له كثيرًا من الدراسات وخاصة عن الإمامة وأصولها
وتداورها، والإمام واختياره وواجباته والشروط الواجب أن تتوفر فيه، مما يؤكد مرونة الإسلام
وسماحته، ويبين دور المفكرين المسلمين في تأصيل النظرية السياسية الإسلامية وشرحها
وتبيانها.
كما شهدت العصور الإسلامية مدى اختلاف الفقهاء حول موضوع الإمامة، ودور المتكلمين
فيها، حتى أن خلافهم هذا كان أعظم خلاف فكري في الإسلام، وفي هذا يقول الشهرستاني:
وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما  سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما »
.« سل على الإمامة في كل زمان
والنظرية السياسية الإسلامية وضعها المسلمون في حدود الإطار العام الذي رسمه القرآن
الكريم، وهي تمثل اجتهاد الأمة الإسلامية في وضع القواعد العامة التي جاء بها الإسلام موضع
التنفيذ.
وقد ع  رف الماوردي الخلافة بأنها خلافة عن النبوة، في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، والواقع
أن الخليفة يجمع الصفتين الدينية والسياسية أو الزمنية فهو إمام المسلمين في صلاتهم
وأميرهم في جهادهم، ورئيسهم في إدارتهم وقضائهم، وبالجملة صاحب الولاية العامة عليهم، يجمع
في شخصه كل السلطات، ويفوض ما يشاء إلى من يشاء .كما يجمع في شخصه أي  ضا صفات
ويرعى إدارة تلك _ الحاكم المسلم العادل الذي يحكم بالشورى ويستظل بأحكام القرآن وسنة النبي
النفوس التي بايعته وسلمت له مصالحها العامة عند وفاته بادروا _ والخلافة أو الإمامة إنما  عرف وجوبها بالشرع لأن أصحاب رسول الله
إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر في أمورهم إليه، وكذا في كل عصر بعد ذلك، ولم يتْرك الناس
فوضى في عصر من العصور، واستقر ذلك إجما  عا دا ً لا على وجوب تنصيب الإمام، وقد ورد في
يا أيها الذين _ القرآن والحديث كثير من النصوص التي تدعو إلى طاعة أولي الأمر، قال تعالى:
.( آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)( ٢٢
أنه قال: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن _ وروي عن النبي
يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصالأمير فقد عصاني ). وقوله: ( من خلع يدا مًن طاعة لقي
الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وغير ذلك من
الأحاديث التي وردت في هذا الصدد.
ومن استعراضنا لشروط الخلافة من مواصفاتها التي ذكرها المتقدمون من علماء الأمة
- والمتأخرون منهم، نستطيع أن نقسمها إلى نوعين: ١ -شروط أساسية لا تجوز الإمامة بغيرها. ٢
شروط مختلف فيها.
الشروط الأساسية المتفق عليها هي:
١- الحرية، ٢ -الذكورة، ٣- البلوغ، ٤ -سلامة العقل، ٥ -سلامة الحواس والأعضاء، ٦- العلم
بأمور الدين والدنيا، ٧ - العدالة وتوفرها، سلامة العقيدة وأداء الفرائض، ٨- الإسلام وتعظيم
شعائره، ٩- النسب: أي الانتساب إلى قبيلة قريش.
ويستلزم الشرط الأخير القول إ  ن جمهور المسلمين قد اشترطوا أن يكون الخليفة من قريش
فيما  روي عنه في الصحيحين: (الناس تبع _ وذلك لعظم فضل قريش، ودليل ذلك قول النبي
لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم ). وقوله: (الناس تبع لقريش في
يقول: (إن هذا الأمر _ الخير والشر ). وروى البخاري عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله
في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ).كما  روي عن ابن عمر رضي الله
قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ). وإذا كانت هذه _ عنهما أن النبي
ولكن هل تدل هذه الأدلة _ النصوص تشير إلى فضل قريش، فحسب قريش فض ً لا أن منهم النبي
على أن الخلافة تكون فيهم، ولا تكون في غيرهم، وأن شرط صحة الولاية أن يكون الخليفة منهم.
انتهى اجتماع سقيفة بني ساعدة بإجماع المؤمنين على اختيار الخليفة من بين المهاجرين من
قريش، وذلك بعد خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ولم تبن الدعوة إلى أن يكون الخليفة من قريش
على نصحديث فقط وإنما بنا  ء على أمرين، أولهما: أفضلية المهاجرين على الأنصار وذكرهم أو ً لا
في القرآن، وبيان مقامهم في الصبر على البلاء والشدائد في أول الإسلام. وثانيهما: أن قريشًا كانت
لها مكانة قبل الإسلام، وعند ظهور الإسلام في البلاد العربية، ولذا قال أبو بكر رضي الله عنه في
آخر خطبته: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش. فهذا النص بلا ريب يبين سبب أفضلية
قريش.
وإن الأحاديث التي  رويت في فضل قريش تتجه بلا شك إلى هذا المعنى، ما عدا حديث معاوية
فإن له معنى آخر وهو بيان أن الخلافة لمن كان من قريش، وأنه ما من أحد ادعاها إلا كبه الله
تعالى إذا كان من غيرهم، ولكن أهذا إخبار عن الواقع الذي يكون، أم هو أمر وفريضة لابد من
تحقيقها؟ إن الواقع الذي حصل أن الإمامة الحق كما تتمثل في الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي رضى الله عنهم جمي  عا كانت في قريش، فأولئك الأئمة أعلام الهدى كانوا من
قريش، وفوق ذلك فإن الحديث اشترط لكونها فيهم أن يقيموا الدين، ولذا قال: ما أقاموا الدين. فإذا
لم يقيموه نزعت منهم إلى من يقيمه. وبذلك ننتهي إلى أن هذه النصوصمن الأخبار والآثار لا تدل
دلالة قطعية على أن الإمامة يجب أن تكون من قريش، وأن إمامة غيرهم لا تكون خلافة نبوية،
أن تكون الإمامة من قريش، فإنها لا تدل على _ وعلى فرضأن هذه الآثار تدل على طلب النبي
طلب الوجوب بل يصح أن يكون بياًنا للأفضلية لا لأصل صحة الخلافة، وإن هذا متعين إذا فرضنا
أن الآثار تفيد الطلب، فإنه يكون طلب أفضلية لا طلب صحة، لأنه  روي في صحيح مسلم عن أبي
ذر أنه قال: إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عب دا مجدع الأطراف. وقد روى البخاري
قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن اسُتعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) وفي _ أن رسول الله
يقولالادارة والحضارة العربية الاسلامية إن أُ  مر عليكم عبد مجدع أسود _ صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت رسول الله
يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا وأطيعوا) .
فبجمع هذه النصوصإلى حديث: إن هذا الأمر في قريش. نتبين أن النصوصفي مجموعها لا
تستلزم أن تكون الإمامة في قريش وأنه لا تصح ولاية غيرهم بل إن ولاية غيرهم صحيحة بلا
(الخلافة بعدي ثلاثون _ شك، ويكون حديث الأمر في قريش من قبيل الإخبار بالغيب كقول النبي:
سنة ثم تكون مل ً كا ) أو يكون من قبيل الأفضلية لا الصحة.
بقي قول أبي بكر والصحابة معه، فنقول إنه معلل بالتقوى في قريش وشوكتهم، فإذا تحققتا في
غيرهم، ولم يكن فيهم فإنه بمقتضى منطق الصديق الذي وافقه عليه الصحابة تكون الولاية في
غيرهم، لأنه إذا كانت القوة والمنعة والتقوى هي المناط فإن الخلافة تكون حيثما تكون هذه المعاني.
الشروط المختلف فيها: ١- العلم بجميع مسائل الدين وأصوله وفروعه، فلم يشترط أكثر
المسلمين هذا الشرط بل اكتفوا بأن يكون الحاكم عالما بًما يس  هل له القيام بمهمته. ٢- العصمة من
الذنوب والآثام، والإمامية من الشيعة هم الذين يشترطون هذا الشرط، ولم يوافقهم عليه سائر
، ولا يمكن أن يكون البشر معصومين عن الأخطاء والذنوب، _ المسلمين لأن العصمة للرسول
فيختلف أهل السنة عن الشيعة في النظر إلى الخلافة اختلاًفا كبي  را، فالشيعة يرون الخلافة
ويحرصون على تسميتها بالإمامة،وأنها في الأصل وراثية، وصاحبها معصوم، وأما أهل السنة
فيرون أن الخليفة غير معصوم، ومنصبه غير وراثي، وإنما يختاره المسلمون على اختلاف بينهم
في تحديد أهل الاختيار.
يقول محمد رشيد رضا، إن أهل السنة متفقون على أن تنصيب الخليفة فرضكفاية، والمطالب
به أهل الحل والعقد في الأمة، وهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس، الذين يتيسر اجتماعهم.
ويتم عقد الخلافة بطرق ثلاث، هي: الاختيار، العهد، الشورى. وبعد ذلك ُتدعى الأمة إلى
البيعة العامة.
الاختيار: يجتمع عدد من أصحاب الرأي، يسمون أهل الاختيار أو أهل ال  حل وال  عقْد ويدرسون
أحوال الرجال الذين تتوافر فيهم شروط الإمامة وتجتمع لهم في صدور الأمة المحبة والتوقير،
ويختارون أصلحهم، ويعرضون عليه الإمامة، فإن قبلها بايعوه بالإمامة، ودعوا الناس إلى بيعته.
وبهذا الأسلوب تم اختيار أول الخلفاء الراشدين الخليفة أبي بكر الصديق، وآخرهم علي بن أبي
طالب.
العهد: يعهد الخليفة، قبل موته، إلى رجل ما بالخلافة، وأول من فعل ذلك أبو بكر، فقد اختار
للمسلمين عمر بن الخطاب خليفته، وكتب بذلك كتابًا، ثم كان كل خليفة بعد الخلفاء الراشدين يختار
في حياته، الخليفة بعده، وربما س  موه: ولي العهد وهو في الأغلب ولده أو أقرب أقربائه.
الشورى: يسمي الخليفة عد دا من الرجال، الذين يرجى أن يكون الخليفة واح دا منهم، ويأمرهم
بأن يجتمعوا بعد وفاته، ويتفقوا على اختيار أحدهم للخلافة ثم يعرضوا اسمه على الأمة (وكان يتم
الإعلان عن طريق المسجد، والآن من الممكن أن يتم ذلك عن طريق وسائل الإعلام) لتبايعه
بعدهم، وهي مؤتلفة لأنها إنما كانت تختلف بسببهم، فإذا اتفقوا اتفقت.
هذه الطريقة اتبعها عمر، رضي الله عنه، في اختيار خليفته، ولكن لم يكتب لهذه الطريقة
الاستمرار، فإن أح دا من الخلفاء لم يلجأ إليها بعد عمر، على أن أي طريقة من الطرق المستحدثة
التي استحسنها الناس لاختيار خليفتهم أو رئيسهم لا تعارضالدين، ما دامت تنبثق من إحدى الطرق
الثلاث التي وردت آنًفا.
البيعة العامة: وهي العهد والطاعة، كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر
نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط
والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكي دا للعهد، وتم ذلك عندما كان عدد الناس
محدودا وًقلي ً لا، بينما الآن فقد تتحقق المبايعة عن طريق أي وسيلة توصل الرأي بالموافقة للجهات
المختصة، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة، ومتى تعين الخليفة، بالعهد أو الشورى أو
الاختيار، دعيت الأمة إلى البيعة له، واتفق الفقهاء على أن البيعة فرض كفاية، إذا قام بها قوم
سقطت عن الآخرين، وبخاصة إذا قام بهذا الأمر علماء الأمة وأغلب وجوهها وأشرافها أو
الأعضاء المنتخبون من قبل الناس وبهذا تسقط الفرضية بالمبايعة باليد عن بقية الأمة.
وأما مهام الخليفة فإنه يتطلب منه العمل بكل الطاقة والإخلاص على: ١ - حفظ الدين والجهاد
في سبيله. ٢ -إقامة الحدود والقضاء بين الناس: السلطة القضائية. ٣ - حفظ الأمن والدفاع عن
الثغور. ٤ - جباية الأموال وإنفاقها ٥ - تسمية الموظفين. ٦ - الإشراف على سياسة الدولة
وأعمالها التي تتعلق بأمور حراسة الدين وسياسة الدنيا.
كان رئيس الدولة الإسلامية ينعت بألقاب الخلافة فيسمى خليفة؛ وأول من ُلقب به أبو بكر
الصديق، وأميرًا للمؤمنين؛ وأول من ُلقب به عمر بن الخطاب، و إمامًا؛ وأول من ُلقب به علي بن
أبي طالب. وقد استحدث الخلفاء العباسيون لقبًا خاصًا بكل واحد منهم، فتلقبوا بالسفاح والمنصور
والهادي والرشيد... إلخ.
وكما كان للخليفة لقب مخصوص، فقد كان له خاتم مخصوص وثياب مخصوصة ورايات
ونحو ذلك مما تعارف الناس عل تسميته شعار الخلافة.
٢ الوزارة:
الوزارة واحدة من النظم السياسية الهامة في الإسلام، بل يمكن القول إنها أهم النظم السياسية
التنفيذية على الإطلاق، ذلك أنها ولاية عامة، وقد عرفها ابن خلدون فقال: هي أم الخطط
السلطانية والرتب الملوكية لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة.
واسم الوزارة مختلف في اشتقاقه على ثلاثة أوجه كما يقول الإمام أبو الحسن الماوردي،
الأول مأخوذ من الوزير وهو الثقل لأن الوزير يحمل عن الملك أعباءه وأثقاله، والثاني أنها
مشتقة من الوزر أي الملجأ ومنها قوله تعالى { َ كلَّا َلا  و  زر } ( ٢٣ ) ف  سمي الوزير بذلك لأن الملك
يلجأ إلى رأيه ومعرفته، والوجه الثالث أنها مشتقة من الأزر وهو الظهر لأن الملك يقوى بوزيره
كقوة البدن بالظهر.
وتعددت الآراء حول نشأة الوزارة، منها ما يذهب إلى القول بأنها نشأت في عهد النبوة،
ومنها ما ينادي بأن نشأتها ارتبطت بنشأة الخلافة الإسلامية، ومنها ما يتجه إلى القول بأن
الوزارة لم تظهر إلا في العصر العباسي تقليدًا من العرب للفرس.
الوزراء من رجاله _ ظهر الوزراء في الدولة الإسلامية منذ نشأتها، فقد اتخذ النبي
أنه قال: وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل _ وصحابته، وعنه
الأرض أبو بكر وعمر، كما اتخذ أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب وزيرًا له، وثنى
الفاروق الوزراء فكان وزيراه عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وذهب فريق من المؤرخين إلى القول بأن الوزير هو نائب الخليفة في حكم البلاد، بينما يرى
فريق آخر أن الوزير هو أكبر الولاة وأهمهم في الإشراف على سياسة الدولة والقائم مقامه
للسهر على مصالح الأمة، فهو رئيس الدواوين وصاحب الرأي والقائم على المشورة وأقرب
الناس وأشدهم اتصا ً لا بالخليفة وأعلمهم بأمور السياسة ودروبها.
ويقول الفقهاء إن الوزارة ظهرت في الإسلام انطلاقًا من المشاركة في تحمل المسؤولية
وعدم الاستبداد، ذلك أن الإمام لا يستطيع وحده مباشرة كل أمور الأمة إلا باستنابة وزير أو
وزراء، لأن ذلك أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها ليستظهر به على نفسه، وبها يكون أبعد
من الزلل وأمنع من الخلل.
والوزارة في الإسلام على ضربين:
أو ً لا: وزارة التفويض:
وهي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده.
ثانيًا: وزارة التنفيذ:
وتأتي في مرتبة تالية لوزارة التفويض، كما تقل وتحدد فيها سلطات الوزير ذلك أن الوزير
واسطة بين الإمام وبين الرعية والولاة، ويؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما
حكم.
تطور الوزارة:
ظهر الوزراء في الدولة الإسلامية منذ عهد النبوة، تطبيقًا لمضمون الآية الكريمة : {  واج  عل
لِّي  و ِ زي  را  من أَهلي *  ها  رو  ن أَ  خي * اشْدد ِب  ه أَز ِ ري *  وأَشْ ِ ركْ  ه في أَم ِ ري } ( ٢٤ ) وإذا جاز ذلك
بالنسبة للنبوة، فإنه يكون قاب ً لا للتطبيق بالنسبة للإمامة. ومارس أعمال الوزراء كل من أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم تأكيدًا لأهمية هذه المؤسسة الإسلامية في عهد الخلفاء
الراشدين.
وفي عهد بني أمية لم تكن الوزارة كما يقول ابن طباطبا مقتنة القواعد ولا مقررة القوانين،
ولكن ذوي الآراء من مستشاري الملك يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتبًا أو
وزيرًا أو مشيرًا.
أما الوزارة في عهد بني العباس فقد  حددت معالمها وأُرسيت قواعدها و  وضعت أسسها،
و ُ شرحت وظيفتها، واستقرت مكانتها في الدولة الإسلامية، كما بينتها الشروط التي يجب أن
تتوفر فيمن يقوم عليها سواء كان ذلك بالنسبة لوزارة التفويض أو لوزارة التنفيذ.
وقد اتخذ الخلفاء العباسيون الأوائل وزراء من شدوا أزرهم وساندوهم في سبيل استقرار
الحكم العباسي.
ويذكر القلقشندي أن أول من ُلقب بالوزارة في الإسلام هو أبو سلمة الخلال، ثم جرى الأمر
على ذلك في اتخاذ الخلفاء الوزراء إلى انقراض الخلافة ببغداد بقتل التتار المستعصم سنة ست
وخمسون وستمائة ووزيره يومئذ مؤيد الدولة بن العلقمي.
٣ الإمارة على البلاد:
أن تكون العلاقة قوية متينة بين الأقاليم المفتوحة وبين المدينة _ حرص خلفاء رسول الله
المنورة أو العاصمة المركزية انطلاقًا من أن إمام المسلمين واحد وهو مسؤول عن رعيته في
أنحاء الدولة الإسلامية.
وكان الخلفاء الراشدون يقلدون إمارة البلدان لقوادهم الفاتحين، والوالي على الإقليم أو أمير
الإقليم هو نائب عن الخليفة، ومن ثم كانت صلاحياته واختصاصاته واسعة تحددها علاقته
بالخليفة.
والإمارة وظيفة هامة وأساسية في النظام السياسي الإسلامي، إذ يناط بالولاة أو الأمراء على
الأقاليم وحدة الدولة الإسلامية واستقرار الأمور بها ضمانًا لصالح الرعية الإسلامية.
والإمارة من ولاية أمور المسلمين، فهي إذن ولاية عامة تتفق مع الوزارة في كون الأمير
نائب عن الخليفة وتختلف عنها في أن الأمير تتحدد سلطاته في نطاق إقليمه أو إمارته.
والإمارة في الإسلام كما حددها الفقهاء نوعان: إمارة عامة وإمارة خاصة، وأمير الإقليم
يجمع بين النوعين من الإمارة إذ إن إمارته للإقليم عامة وخاصة في الوقت نفسه، وذلك لأنه
يتولى شؤون الإقليم كلها نائبًا عن الخليفة ومعينًا برضاه واختياره.
٤ الإدارة:
- النظام الإداري في المدينة:
في المدينة عاصمة الدولة الإسلامية أُسس النظام الإداري في الإسلام، _ أرسى الرسول
ويستطيع الباحث أن يستنبط من المادة التاريخية التي تقدمها المصادر الإسلامية أن رسول الله
وضع اللبنات الأولى لجهاز إداري منظم. _
يستعين بمجلس للشورى، كما كان يتخذ كّتابًا للمراسلات بينه وبين _ كان رسول الله
الملوك والحكام المجاورين، فقد كان عبد الله بن الأرقم يجيب على الملوك والرسل، وكان له
كاتبًا للعهود وهو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان له صاحب سر هو حذيفة بن اليمان،
كما أنه اتخذ قائمًا على خاتمه وتسمي المصادر لذلك الحارث بن عوف المري، كما تذكر أيضًا
كان يضع على خاتمه الربيع بن صيفي بن أخي أكثم. _ أن الرسول
من يقوم على المداينات، وكان له ترجمانًا بالفارسية والقبطية والرومية _ واتخذ رسول الله
_ هو زيد بن ثابت، وقيل إنه كان يترجم أيضًا من الحبشية والعبرية. كما أن رسول الله
استعمل ولاة في شبه الجزيرة العربية فكان منهم عتاب بن أسيد الذي استعمله على مكة، وأرسل
معاذ بن جبل على اليمن.
رسله وسفراءه إلى الملوك، فأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى _ وقد أرسل الرسول
المقوقس، وشجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، ودحية بن خليفة الكلبي إلى
قيصر، وبعث سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وبعث عبد الله بن حذافة
السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي.
وكانت ميزانية الدولة بسيطة، وكان الفيء يقسم على المسلمين حاضري المواقع، ومن المهم
أراد إحصاء الناس إلا أن الديوان لم ينشأ إلا في عصر عمر بن _ الإشارة إلى أن رسول الله
الخطاب رضي الله عنه.
ويعد النظام الإداري للدولة الإسلامية في عهد الصديق رضي الله عنه امتدادًا للنظام الإداري
أبوا أن يعملوا لغيره. _ في عهد النبوة، إلا أن بعض ع  مال رسول الله
واهتم الفاروق رضي الله عنه بتنظيم الدولة الإسلامية إداريًا، خاصة وأن الفتوحات
الإسلامية قد أدت إلى امتداد رقعة الدولة الإسلامية في عهده، ففصل السلطة التنفيذية عن السلطة
التشريعية، وأكد استقلال القضاء، كما اهتم بأمر الأمصار والأقاليم، ووطد العلاقة بين العاصمة
المركزية والولاة في الأقاليم.
وقد شهد عصر الفاروق رضي الله عنه تنظيمات إدارية متنوعة، ففي عصره كان تأريخ
التاريخ، كما أنه وضع أساس بيت المال، وكان يعس لي ً لا لمراقبة المدينة وطرقاتها، وكان يراقب
أسواقها، وفي هذا كله كان يستن بسنة النبي صلوات الله عليه وسلم.
وفي عهد عثمان رضي الله عنه حدثت بعض التطورات الإدارية المحدودة، فتح  ول نظام
العسس إلى الشرطة، إلا أنه يمكن القول إنه اتبع ما كان قد وضعه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه. وربما شغلت أحداث الأقاليم وظروفها السياسية عثمان بن عفان، بل يمكن القول إنها
أعاقته عن إحداث تطورات في النظم الإدارية بشكل يتناسب مع الفترة التي قضاها في حكم
المسلمين.
وكذلك كان عصر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، إلا أنه يجب الإشارة إلى أن عليًا كان
شديدًا في الحق، وكان يعدل في الرعية، فقد  عرف عنه أنه كان يقسم ما في بيت المال لا يترك
فيه شيئًا، من ذلك ما فعل بعد بيعة أهل البصرة حيث نظر في بيت مالها، فإذا فيه ستمائة ألف
وزيادة، فقسمها على من شهد معه الوقعة.
٥ - الدواوين:
نشأت الدواوين الإسلامية في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ذلك
نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية، واتصال المسلمين الفاتحين على قرب بالنظم الإدارية الفارسية
والبيزنطية في الأقاليم المفتوحة. وقد استوعب المسلمون كثيرًا من نظم وحضارة الأقاليم، بل
أبقوا على ما وجدوه ملائمًا وصالحًا لتلك الأقاليم.
وتجب الإشارة إلى أن النظم الإدارية في مصر والشام كان لها أثر كبير في نشأة الدواوين،
فقد عاد الفاتحون إلى العاصمة الإسلامية يحملون معهم أخبار البلاد المفتوحة، ومن أهم تلك
الأخبار، أخبار النظم الإدارية وبصفة خاصة الدواوين.
والديوان لغة تعني اسم الشياطين، فسمي الكّتاب باسمهم لحذقهم بالأمور، وقوتهم على الجلي
والخفي، وجمعهم لما شّذ وتفرق، ثم  سمي مكان جلوسهم باسمهم فقيل: ديوان. وقيل أيضًا إنها
تعني السجل أو الدفتر، ثم أُطلقت على المكان الذي تحفظ فيه السجلات الخاصة بالدولة.
الدواوين في العصر الأموي:
انتقل الثقل السياسي والإداري في عهد الأمويين من المدينة المنورة إلى دمشق، وتحول
الاهتمام إلى بلاد الشام التي غدت مقصدًا لطلاب العلم وأهل المعرفة.
واهتم خلفاء بني أمية بالنظم الإدارية اهتمامًا عظيمًا، خاصة وأنهم كانوا يعيشون في بلاد
الشام بما لها من تقاليد وتنظيمات إدارية عريقة. واستخدم الأمويون رجا ً لا من العرب برعوا في
الإدارة، وأثبتوا كفاءة عالية، من بينهم زياد بن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة،
وغيرهم، كما استعانوا بأهل الذمة في مصالح الدولة فقد استخدم معاوية سرجون بن منصور
ومن بعد ابنه في إدارة الأموال.
وزاد عدد الدواوين في الدولة الأموية عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، ذلك أن
ضروريات إدارية تطلبت زيادة عدد الدواوين فإلى جانب ديوان العطاء وديوان الخراج وديوان
الجند استحدث معاوية بن أبي سفيان ديوان الخاتم وديوان البريد وديوان الصدقات وديوان
الطراز.
- الدواوين في العصر العباسي:
شهدت النظم الإدارية في العهد العباسي تطورًا ملحوظًا، وإن سارت في بداية الأمر على
النمط الذي كانت عليه في عهد الأمويين، وقد سلك العباسيون نهج الأمويين فاستعانوا برجال
أكّفاء في الإدارة، فاتخذ أبو العباس السفاح من أبي سلمة الخلال وزيرًا وجعل بيده مقاليد
الأمور، وخلفه خالد بن برمك الوزير الأول في دولة بني العباس، فبدأ ينظم الدواوين ويجعل لها
دفاتر خاصة، وهذه دون شك خطوة إدارية غاية في الأهمية، إذ أصبحت الدواوين تسجل كل
أحوالها، وسير العمل بها، وما يدخل إليها وما يخرج منها من مكاتبات أو أحوال أو شهادات.
٦ القضاء:
حدد رجال الفقه والتاريخ مفهوم القضاء ومعناه، وأوضحوا وظيفته في الدولة الإسلامية،
وبينوا مصادر تشريعاته، فقالوا: القضاء هو الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي
وقطعًا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة، وهو من الوظائف التابعة للخلافة،
ومن هنا كان خلفاء الصدر الأول يباشرونه بأنفسهم. ويقول ابن خلدون: إن القضاء من
الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسمًا للتداعي
وقطعًا للتنازع، إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة، فكان ذلك من وظائف
الخلافة ومندرجًا في عمومها.
أرسى الإسلام القواعد والأسس التي ن ّ ظمت التعامل والعلاقات بين أفراد الأمة الإسلامية،
كما وضع لها التشريعات والقوانين التي تستند إليها في حسم المنازعات والخلافات التي تنشأ بين
أفرادها أو بينها وبين غيرها من الجماعات والأمم. ذلك أن القرآن الكريم وضع للأمة النظريات
العامة التي تتعلق بالقوانين الاجتماعية والتشريعية وغيرها، وعلى هذا يكون القرآن الكريم هو
المصدر الذي يأخذ عنه القضاء الإسلامي أصوله وقواعده.
_ يقضي بين المسلمين بالحق بما أنزل الله. وكان خلفاء رسول الله _ فقد كان رسول الله
يباشرون القضاء بأنفسهم، فالصديق رضي الله عنه كان يجلس للفتيا في المدينة، وعاونه الفاروق
عمر على القضاء في عهده، فلما تولى خلافة المسلمين أولى القضاء عناية فائقة فقام بفصل
القضاء عن السلطة التنفيذية، وأوفد قضاته إلى الأقاليم وضمن لهم استقلا ً لا كام ً لا عن الولاة،
وشدد على الولاة في عدم التعرض للقضاة.
وحظي القضاء في العصر الأموي باهتمام خلفاء بني أمية الذين عينوا القضاة، إلا أنهم
امتنعوا عن مباشرة القضاء بأنفسهم، وكان معاوية أول من فعل ذلك وتولى له القضاء فضالة بن
عبيد الأنصاري، فلما مات استقضى معاوية أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني. ويفسر
ابن خلدون امتناع الخلفاء عن مباشرة القضاء بأنفسهم بأنهم آثروا القيام بالسياسة العامة بما لها
من مسؤوليات كبيرة تتعلق بالجهاد والفتوحات وسد الثغور، ومن هنا كان يتحتم عليهم أن
يستخلفوا في القضاء من يقوم به تخفيفًا لأنفسهم، وكانوا مع ذلك يقلدونه أهل عصبيتهم بالنسب
أو الولاء.
وأما القضاء في العصر العباسي فقد شهد نشأة المذاهب الأربعة بالإضافة إلى التطورات
الكثيرة التي دخلت عليه، منها اتساع سلطة القاضي التي أصبحت تشمل الشرطة والمظالم
والحسبة ودار الضرب وبيت المال.
٧ النظر في المظالم:
في الشرب الذي تنازعه _ يعود النظر في المظالم إلى عهد النبوة، فقد نظر رسول الله
الزبير بن العوام رضي الله عنه ورجل من الأنصار.
وكان عبد الملك بن مروان أول من أفراد يومًا يتصفح فيه المظالم، وكان يتولى الحكم فيه
قاضيه إدريس الأودي، وكان عمر بن عبد العزيز أول من جلس للنظر في المظالم بنفسه في
دولة بني أمية، كذلك جلس عدد من خلفاء بني العباس للنظر في المظالم وباشروها بأنفسهم؛
منهم المهدي والهادي والرشيد والمأمون والمهتدي.
وقد شهد العصر العباسي نشأة ديوان المظالم الذي يصفه المؤرخون بأنه كان عبارة عن
هيئة تحكيم عليا أو محكمة للاستئناف يمكن للمتخاصمين أن يلجؤوا إليها إذا ما أرادوا الطعن في
حكم أصدره القاضي. وقد أشرف الخلفاء العباسيون على ديوان المظالم بأنفسهم وحدودا وقتًا
خاصًا للنظر فيها. ولما جلس الوزراء والسلاطين صار النظر في المظالم إليهم.
٨ النظام المالي في عهد النبوة والخلافة الراشدة:
 وضعت أسس النظام المالي الإسلامي وتقررت قواعده في عصر النبوة، وهي الأسس التي
_ بني عليها نظام الخراج كله، وهذه الأسس تقوم على أحكام الكتاب وعلى ما سنه رسول الله
للمسلمين، فقد وضع القرآن الكريم الأسس العامة أو النظرية العامة للنظام المالي الإسلامي،
فحدد الزكاة والصدقات والجزية وو  ضح توزيع الغنيمة والفيء على المسلمين. وطبق الرسول
القوانين القرآنية المتعلقة بالزكاة والغنيمة والجزية. _
بدأ النظام المالي مع بداية الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، حيث أذاب الإسلام الفوارق
أن يوجه ثروة المسلمين في المدينة على بساطتها في _ بين طبقات الأمة، واستطاع الرسول
ذلك الوقت لخدمة الأمة ولصالح الدولة الناشئة التي كان حتمًا عليها أن تثبت وجودها المادي
سياسيًا واقتصاديًا بعد أن أثبتت وجودها الروحي والمعنوي، وكان عليها أيضًا أن تجابه
التحديات المختلفة ومن أهمها التحديات الاقتصادية.
ويرتكز النظام المالي في عهد النبوة على الزكاة، والغنيمة والفيء مما فتح الله على المسلمين
من أرض، والجزية من أهل الذمة. ثم بدأت الدولة الإسلامية في الاتساع على عهد الخلفاء
الراشدين الذين خرجوا بالإسلام إلى أقاليم الدولة البيزنطية والدولة الفارسية، وبعد أن تم النصر
على تلك الأقاليم، و  جبي خراجها زاد دخل الدولة الإسلامية واحتاج بالضرورة إلى تنظيم جديد
يتمشى مع ما طرأ من تطورات على النظم الإسلامية كلها.
النظام المالي في عهد الأمويين:
واستمرت تلك الأسس في عهد الأمويين كقواعد للنظام المالي الإسلامي، إلا أنهم أضافوا
إليها ما حتمته عليهم ظروفهم السياسية والاقتصادية من تعديلات. ومع الاستقرار السياسي يأتي
الرخاء الاقتصادي، وقد اهتم الأمويون بأمر الخراج وبنماء موارد الدولة الإسلامية لمواجهة
الأعباء الجديدة والتطورات الجديدة التي دخلت على كل نواحي الحياة.
كما اهتم الأمويون باستصلاح الأراضي الزراعية حتى يزيد الإنتاج، وبالتالي يزيد الخراج
وينمو دخل الدولة.
كذلك اهتموا بعمال الخراج، فمن المعروف أن معاوية فصل ولاية الخراج عن الولاية العامة
وخاصة فيما يتعلق بالعراق حتى يضمن أن يصله خراج الإقليم كام ً لا.
النظام المالي في الدولة العباسية:
ورث العباسيون دولة مترامية الأطراف تضم أقاليم كثيرة، وكان لا بد من تنظيم جباية
خراج أراضيها وجزية من تجب عليهم الجزية، ذلك أن النظام الجديد يحتاج إلى أموال ضخمة
لإرساء دعائمه، ومن ثم كان لا بد من التشديد في الحصول على دخل يتناسب مع مطالب
الأنفاق. وكان العباسيون قد غنموا قطائع الأمويين وممتلكاتهم وكانت كثيرة، وأصبحت تسمى
ضياع الخلافة، وازدادت ضياع الخلافة باهتمامهم بإحياء الأرض الموات وغير ذلك كالإلجاء أو
الشراء. فالتزامات العباسيين كانت كبيرة، فكان عليهم مكافأة أنصارهم بسخاء مقابل ما قدموا من
خدمات في إقامة الدولة الجديدة والتمكين لها، كما كان لا بد من إرضاء سكان الأقاليم الذين
ساندوا وأيدوا الدعوة الجديدة، هذا بالإضافة إلى ضرورة ترضية الأجناد والإنفاق عليها بسخاء،
فهم عضد الدولة وساعدها الأيمن ويأتي ذلك في المقام الأول بالنسبة للدولة الجديدة.
٩ النظم الاجتماعية:
أتى الإسلام بنظم اجتماعية ليبني مجتمعًا متحررًا من العبودية إلا لله وحده، ومن الخوف إلا
لذاته سبحانه وتعالى. ومن ثم تختلف البنية الاجتماعية للمجتمع الإسلامي عن غيره من
المجتمعات من حيث القيم والمفاهيم التي يقوم عليها هذا المجتمع.
إن مجتمع السادة والعبيد الذي عرفته مكة ومعها شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام كان قد
وصل إلى مستوى من الفساد والانحلال بدرجة لم يقو معها على الصمود أمام المد الجديد الذي
جاء به الإسلام، وكان حتميًا أن تنهار هذه الأوضاع وتتوارى معها نظمها السياسية
والاقتصادية، وتتقلص بالضرورة نظمها الاجتماعية.
والإسلام حين جاء بنظمه وتشريعاته الاجتماعية أراد أن يؤسس مجتمعًا جديدًا يستطيع تحمل
يطبق النظم الجديدة متئدًا، فكان لابد _ عبء المسؤولية التي تتطلبها الدعوة، وقد بدأ الرسول
لتلك النظم أن تلتقي مع نظم اجتماعية متوارثة عرفها العرب وتأصلت تطبيقاتها في شبه
الجزيرة العربية.
وتتجلى عبقرية الإسلام في نظريته الاجتماعية التي نجحت في مواجهة تلك النظم والأعراف
والتقاليد المتوارثة، فعدلت وغيرت إلى أن أزالت نهائيًا ما لم يتوافق مع أنظمة الإسلام، ليرتفع
نهائيًا ما نزل به الشرع الحنيف ولتطهير مجتمع شبه الجزيرة العربية من الفساد الذي استشرى
بنيانه، وترسيخ الدعائم الاجتماعية الجديدة في جذور الأمة الإسلامية.
والنظرية الاجتماعية الإسلامية تقوم على أساس ينظم العلاقة بين الفرد والدولة بما يكفل
العدالة الاجتماعية، وبما يضمن صالح الفرد وصالح الجماعة، وهي في تنظيم العلاقة تبدأ بالفرد
باعتباره عضوًا في الأمة الإسلامية، فتحترم عقله وتقدر الجوانب المادية والروحية له، ومن ثم
تضع الضمانات التي يتسق بها البناء الاجتماعي للأمة الإسلامية.
ذلك منذ دخل المدينة المنورة، فأرسى دعائم البناء الاجتماعي بأن _ وقد طبق الرسول
أعلن أول دستور سياسي اجتماعي، بل يمكن القول أنه أعلن أول دستور أخلاقي مّثلته الصحيفة
التي نظمت في تناسق وتكامل المجتمع الجديد في المدينة ليكون أص ً لا للمجتمع الإسلامي الكبير.
لم ينظر الإسلام إلى العناصر البشرية في المدينة نظرة عنصرية، وهذا ينطبق على العناصر
البشرية الداخلة في الإسلام جميعًا، ومن هنا كانت الأخوة الدينية، التي لا مكان فيها للون أو
جنس، بل الفيصل فيها هو العقيدة انطلاقًا من المعنى العام الذي تتضمنه الآية الكريمة: {إِنَّ  ما
.( الْ  مؤْ  مُنو  ن إِخْ  وةٌ َفأَصل  حوا بي  ن أَ َ خ  وي ُ كم  واتَُّقوا اللَّ  ه َل  علَّ ُ كم ُتر  ح  مو  ن } ( ٢٥
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة، لتقوم الأمة _ وأق  ر الرسول
الإسلامية في أروع اتحاد وتناسق يمكن أن يوجده نظام اجتماعي، حّلت فيه الأخوة مكان
العصبية القبلية، وتلاشت الأنساب والصلات جميعًا إلا صلة واحدة هي صلة الدين الواحد
والعقيدة الواحدة. وازدادت الأخوة الإسلامية في المدينة قوة وصلابة حتى كان المسلم يرث أخاه
المسلم إلى أن نسخ القرآن الكريم ذلك. بل إن الأنصار رحمهم الله كانوا يفضلون إخوانهم
المهاجرين على أنفسهم، وقد أشاد القرآن الكريم بمواقفهم الجليلة مسج ً لا لهم فضلهم في آية من
، وعلى أكتافهم وبقوة _ وقد كانت هذه الأمة تسير في وحدة كاملة وراء رسول الله
صمودهم وصلابة عودهم وعمق إيمانهم ورسوخ عقيدتهم أقاموا دولة الإسلام، ونصروا الله
ورسوله فنصرهم الله وحقق بهم وعلى أيديهم أمجاد الدين الباقي دائمًا.
كما كان التكامل الاجتماعي واحدًا من الأسس التي أوجدها القرآن الكريم وجعله حقًا من
حقوق فقراء المسلمين على أغنيائهم. فش  رع الزكاة عبادة على المسلمين، وتطهيرًا وتزكية
لنفوسهم وأموالهم، ولتكون فيها صلة مستمرة بين أفراد الأمة، يظهر فيها شعور التكامل
بأنها كالبنيان _ والتضامن والتعاون تأكيدًا لتماسك أفراد الأمة التي وصفها رسول الله
المرصوص يشد بعضه بعضًا.
وتتضح عناية الإسلام الحقيقية بالمجتمع، كما تظهر أهمية النظرية الاجتماعية في الإسلام،
من اهتمامه بالأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، ومن ثم جعل الإسلام الزواج
أص ً لا للأسرة تنتظم بل تنضبط من خلاله فطرة الإنسان ليسمو بذلك على سائر المخلوقات
وليتحقق له التوازن الاجتماعي والنفسي، وبالأسرة يتحقق للجنس البشري البقاء والاستمرارية
ومن هنا كان القانون الاجتماعي في القرآن الكريم مؤكدًا لهذا: {  والّل  ه  ج  علَ َل ُ كم  من أَنُف  س ُ كم
١٠ النظم الاقتصادية:
إن علماء الاقتصاد المعاصر يضغطون الضغط كله على الاتجاه المادي في اقتصادهم، إما
بطريق مباشر كما فعل ماركس، أو بطريق غير مباشر كما فعلت الرأسمالية، أما حضارة
الإسلام فإنها تعمل على إيجاد التوازن بين الاتجاهين المادي والروحي في طبيعة الإنسان،
فالاقتصاد الإسلامي مجموعة من الأصول العامة مستخرجة من القرآن الكريم والسنة النبوية في
أسس عامة هي الفصل بين الخير والشر، وهي قابلة للبناء عليها بما يسد مطالب كل بيئة وكل
عصر على نحو يعصم المجتمع من الانهيار ومن الحيرة بين المذاهب المضطربة والأهواء
الجامحة.
وهو اقتصاد يعترف بحق المالك في الانتفاع بملكه وحق التصرف فيه طوال حياته وبعد
مماته، أما النظم الشيوعية فإنها لا تعترف بالملكية الخاصة لمصادر الإنتاج، فتتعارض مع
غريزة الإنسان الفطرية في حب التملك، وتتجاهل حافرًا أساسيًا في توجيه النشاط الاقتصادي.
وتبيح الرأسمالية للمالك السلطان المطلق فيما يملك بغير أي قيد عليه، فيما يفرض الإسلام
طائفة من التكاليف والالتزامات على المالك لمصلحة المجتمع.
ولا نستطيع أن نتحدث عن الاقتصاد الإسلامي في هذا المقام، فهذا يحتاج منا إلى مجلدات،
وإنما نعطي صورًا توضح بعض معالمه الرشيدة، فالزكاة مث ً لا فريضة مالية في الإسلام وركن
أساسي من الأركان الخمسة للإسلام، ولكن ما فوائدها، إنها تساهم في الحد من التضخم
لامتصاص فائض الطلب، وتساهم في مجال توزيع الدخل والثروة في دعمها للفئات الفقيرة
وتخفيف معاناتهم، فهي تؤخذ من الأغنياء وُترد على الفقراء، وهذا ما يساعد على عدم ازدياد
معدل الإنفاق الحكومي الذي يؤدي إلى انهيار الدولة لو حدث.
وإذا علمنا أن الإسلام يح  رم الاكتناز، فمعنى ذلك أن ما يتم ادخاره يلزم توجيهه إلى
الاستثمار
ولم يكتف الإسلام بهذا التهديد بل طلب من
_ من أصحاب الثروات النقدية دفع ٢.٥ % سنويًا على ثرواتهم لتحريكها، ومن هنا أوصى
اتجروا بأموال اليتامى لا » باستثمار مال اليتيم وعدم تجميده حتى لا تأكله الصدقة، حيث قال
وإن من شأن حصيلة الزكاة دعم الاستثمار من ناحية أخرى، لأن بين مصارف .« تأكلها الزكاة
الزكاة سداد ديون الغارمين أي المدينين، ومعنى ذلك أن بيت المال يضمن للدائن وفاء دينه، وفي
هذا دعم للائتمان، لأن المقترض سوف يطمئن إلى أنه إذا عجز عن سداد دينه فإن المجتمع
ممث ً لا بالدولة سوف يؤدي عنه دينه. وبذلك يتجنب الإفلاس وما يؤدي إليه من حرمانه من
المساهمة في النشاط الاقتصادي، وكذلك المقرض إذا اطمأن إلى سداد دينه فإنه لا يحجم عن
الإقراض.
وبما أن الاقتصاد هو أحد الأركان في كل حضارة، وبما أن أي خلل فيه يؤدي إلى أزمات
ونقلات اجتماعية خاطئة، فقد أقامه الإسلام على أصلين:
١ الاعتراف بمواهب الفرد وحقه في ثمرات كفاحه.
٢ حق المجتمع فيما يكسبه الفرد والتكافل بين أبنائه.
وبذلك فقد أقام الإسلام الاقتصاد على منهج الحق والعدل والفطرة، وعندما علم المسلمون أن
المال مال الله وأنهم مستخلفون فيه لينظر صاحبه الحقيقي وهو الله ماذا وكيف يفعلون به، عرفوا
أنه سبحانه حدد لهم هذه الأسس لتسعدهم:
١ أق  ر الملكية الفردية وحماها، لكنه قيدها بأمرين: الحلال وما أوجبه من حق في المال،
والحرام وما ح  رم به كل كسب وكل معاملة في محرم.
٢ أوجب في المال حقوقًا أدناها الزكاة التي جعلها ركنًا من أركان الإسلام، وكذلك ح  رم
حبس المال وكنزه حتى لا يكون دولة بين الأغنياء.
٣ أحاط هذا النظام بمنهج كامل في التربية والسلوك.
لقد ق  رر الإسلام هذا الحق من قبل أن تتعقد الحياة وتنشأ المصانع الضخمة وتبرز مشاكل
العمال، وقبل أن تعرف عقود الإذعان أي العقود المحرفة التي يفرض شروطها ويملها عليها
صاحب العمل على العامل مستغ ً لا حاجته وفقرة، فجعل الإسلام صاحب الحق في إملاء هذه
الشروط العامل الضعيف.
لقد قام مصرف هو من أكبر المصارف السويسرية ( يونيون بازيك أوف سوبتز لاند)
بالاعتماد على الأسس المصرفية الإسلامية في تقديم خدماته المصرفية، مما ألجأ صندوق النقد
الدولي إلى دراسة جديدة أكدت أن النظام المصرفي الإسلامي هو النظام الأكثر استقرارًا من
بقية الأنظمة، ذلك أن نظام الفائدة المصرفية المفتوحة على الأسس الإسلامية أكثر استيعابًا
للصدمات المالية، فالقيمة الحقيقية لموجودات المصرف والتزاماته تظلان دون تغيير، أما في
النظام الربوي فإن أي هبوط في قيمة الموجودات في مواجهة قيمة اسمية ثابتة للالتزامات يوجد
حالة من عدم التوازن بين الموجودات الحقيقية والالتزامات القانونية، مما يزعزع الاستقرار في
النظام المصرفي.
وفي ظل كل هذا النظام الاقتصادي جعل الإسلام العلاقة علاقة اجتماعية سليمة قائمة على
التواد والتعاطف والتراحم: ( مثل المؤمنين _  وَقبائِلَ لَِت  عا  رُفوا إِ  ن أَكْ  ر  م ُ كم  عن د اللَّ  ه أَتَْقا ُ كم إِ  ن اللَّ  ه  عليم َ خِبير } ( ٣٠ )، وقوله
في توادهم......).
إن مفهوم العبادة في الإسلام لا يقتصر على حرفية الشعائر الإسلامية، وإنما يتعدى ذلك
ليكون نظامًا شام ً لا ومتكام ً لا يعالج جميع شؤون الحياة، ويتدخل في كافة المجالات التي هي
ضرورية للحياة، ويضع الحلول المناسبة التي تعين الإنسان في تحقيق قيم العدل والمساواة، التي
هي من أساسيات البناء الحضاري لأي مجتمع يستثمر هذه القيم من أجل فاعلية حركة الإنسان
الحضارية.
ويشترك علم الاقتصاد مع العلوم الأخرى من وجهة النظر الإسلامية بحركته بين مجالين
اثنين، الأول: هو المبادئ الأساسية والقواعد الرئيسة التي أصلها الشارع الحكيم في الكتاب
المبين، وبينتها السنة الشريفة.
كما م  ر معنا سابقًا. « أنتم أعلم بأمور ديناكم » :_ والثاني: هو ما تضمنه عموم قول الرسول
وتقع في هذا الإطار العلوم الاقتصادية الدنيوية، والمقصود بها تلك الناحية الفنية في الاقتصاد،
والتي تنمو وتتطور مع العلم والتقنية الحديثة، وفي هذا الإطار تتحقق الحكمة، التي هي ضالة
المؤمن، وحيث وجدها فهو أولى بها.
هذا التوضيح يطرح بوضوح الفارق الرئيسي بين مجالي الاقتصاد، حيث إن جوهر الأسس
والمبادئ الاقتصادية في الإسلام ثابت لا يتغير، ويطرأ التبديل والتغيير على الشكل والعرض،
بما يناسب أساليب واحتياجات الناس باختلاف الأزمنة والأمكنة.
فالاقتصاد الإسلامي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدين الإسلام عقيدة وشريعة، حيث لا يستطيع
الدارس للمفهوم الإسلامي الخاص بالجوانب الاقتصادية أن يدرسه مستق ً لا عن عقيدة الإسلام
وشريعته، ذلك لأن النظام الاقتصادي الإسلامي جزء من الشريعة، ويرتبط معًا بالعقيدة
الإسلامية ارتباطاً بينًا، ويبدو ذلك أكثر ما يبدو كمثال في خاصية الحلال والحرام التي تميز
الشخصية المسلمة في حركتها الحياتية، عند إقدام المسلم على التعامل في محيط الحياة اليومية.
وربط الفكر الاقتصادي الإسلامي بالعقيدة يعطيه تابعًا تعبديًا، ذلك أن أي عمل يقوم به
المسلم اقتصاديًا أو غير اقتصادي يتحول إلى عبادة يثاب عليها، شرط توفر النية والتوجه
إلى سعد _ بهذا العمل ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهذا ما يؤكده الحديث النبوي في قول الرسول
إّنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الّله إلا أُ ِ جرت عليها حتى ما » : بن أبي وقاص رضي الله عنه
.« تجعلُ في ف  ي امرأتك
ويرتبط الفكر الاقتصادي الإسلامي بالأخلاق أيضًا، فلا يوجد في الإسلام نظام عملي وحده
ونظام أخلاقي وحده، وإنما هما يؤلفان نشاط الإنسان، والاقتصاد الإسلامي لا يقوم بغير أخلاقه،
فلا يجوز مث ً لا لصاحب المال أن يستعمل ماله على نحو يلحق الضرر بمال الغير أو يلحق
.« لا ضرر ولا ضرار » : يقول _ الضرر بمصلحة الجماعة، والرسول
ويرتبط الاقتصاد الإسلامي بالواقعية، فالإسلام يستشرف في قوانينه ونظمه غايات وأهدافًا
تتسق مع واقع الإنسان اتساقًا كاملاً بلا شذوذ ولا انحراف، فهي تطابق طبيعته، وتوافق نوازعه
وخصائصه العامة، وكمثال على ذلك حد السرقة في الإسلام، فعندما يتوفر للفرد العمل ولقمة
العيش والسكن وغير ذلك من الضروريات، ويكون المجتمع مسؤو ً لا عقائديًا وتنظيمًا عن ذلك،
ثم ترتكب جريمة السرقة، فإنها عندئذ تمثل مرضًا اجتماعيًا خطيرًا ينبغي أن يؤخذ بالشدة حزمًا
وأمنًا، وأما إن حدث طارئ أو خلل فالأمر سيختلف، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أدرك أن حكم الله هو إيقاف حد السرقة في عام الرمادة.
وفي نظام التملك، لا يتفق المنهج الإسلامي مع الرأسمالية، ولا مع الاشتراكية، بل إنه يقرر
الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة بد ً لا عن مبدأ الملكية
ذات الشكل الواحد، إذ يؤمن بالملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة.
وبالإجمال، فإن أهم ميزات نظام التملك في الإسلام هي الآتي:
لا يسمح الاقتصاد الإسلامي لرأس المال أن يستغل البشر، بحيث يبقى دائمًا رابحًا دون
استعداد لتحمل الخسارة، ويظهر ذلك من تحريم الربا.
لا يسمح بالتلاعب في الحياة الاقتصادية بواسطة الاحتكارات والاتفاقات التي تضر
بالعامة.
يفتت الثروات الضخمة عن طريق تحديده طرق التملك المشروع، وتقييده طرق التملك
غير المشروع، وجعل الملك يؤول إلى أيد كثيرة بواسطة نظام الإرث وما رافقه.
يوجه طاقات الأفراد جميعًا نحو الإنتاج لأنه لا يسمح لأحد أن يكسب عن طريق لا يعطي
إنتاجًا حقيقيًا كالقمار واليانصيب.
يجعل المال كثيرًا بيد كل فئات الأمة، بحيث تبقى الحركة الاقتصادية نشيطة بشكل دائم
بواسطة نظام الزكاة وتوزيع الفائض في بيت مال الأمة.