الفصل الخامس
المؤسسات العلمية في الحضارة العربية الإسلامية
أو ً لا انتشار وتنوع أماكن التعليم في العالم الإسلامي:
١ - المساجد:
إن المسجد اسم للمكان المهيأ والمعد لإقامة الصلاة وأداء العبادة والفرائض المكتوبة، ولما كان
السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه، اشُتق منه اسم المسجد، فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع.
وأول مسجد وضع للناس على هذه الأرض هو المسجد الحرام، وهو الذي في مكة المكرمة
وأحب البقاع إلى الله تعالى المساجد،
والمسجد أول مدرسة في الإسلام، ولم تكن مهمته مقصورة على أداء العبادات، بل كان مدرسة
أصحابه، فيجلس فيه ليعلم الجاهل، ويفتي السائل، ويعبر الرؤيا، ويبين أحكام _ كبرى يعلم فيها الرسول
الشرع، فصار المسجد مدرسة المسلم التي يتعلم فيها كل ما ينفعه من أمور دينه ومصالح دنياه، فارتبطت
حياته به، ففيه يتعلم ويتعبد، وبه يلقى إخوانه.
ولم يكن المسجد مركزا للعبادة والتعليم فحسب، بل استخدم لأغراض أخرى مهمة، فمنه خرجت
جيوش المسلمين لتفتح مشارق الأرض ومغاربها، كما اسُتخدم في أثناء المعارك لمعالجة الجرحى، فعن
أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل،
وشكل المسجد في العصر الأموي ظاهرة سياسية على جانب كبير من الأهمية، فكان على كل أمير
أو عامل من عمال الأقاليم إقامة مسجد جامع يمثل مسجد الدولة الرسمي، وإذا علمنا أن الدعاء للخليفة
في خطبة الجمعة في المسجد الجامع يكون شارة من شارات الخلافة، وأ  ن عدم ذكر اسمه يعني خلعه،
تبين لنا الدور السياسي إلى جانب الدور الديني والفكري الذي لعبه المسجد.
لذلك كان المسجد أول وحدة عمرانية تبنى عند إنشاء المدن في الأمصار الإسلامية، حيث تتفق
الروايات التاريخية على ذلك، فأول وحدة عمرانية تأسست في البصرة هي المسجد الجامع حيث اختط
عام ١٤ ه، وفي الكوفة  عد المسجد الجامع أول وحدة طبوغرافية اتخذها سعد بن أبي وقاص، وكذلك
فعل عقبة بن نافع في القيروان، وعندما أمر الحجاج بن يوسف الثقفي ببناء مدينة واسط ابتنى أو ً لا قصره
ثم ابتنى إلى جواره المسجد الجامع، وفعل مثله أبو جعفر المنصور عند بنائه لمدينة بغداد.
و ورد في شأن بلاد ما وراء النهر نص يفيد بأ  ن هذه البلاد تشتمل على قرى كبار تشبه المدن
حجمًا، ولا ينقصها أن تكون مدينة إلا وجود المسجد الجامع. وعند دخول الفاطميين إلى مصر، فإن أول
عمل قاموا به هو بناؤهم للجامع الأزهر، فكان قيام هذا الجامع متزامنًا مع قيام الدولة الفاطمية في مصر،
وإنشاؤه تم غداة قيام عاصمتهم الجديدة القاهرة. وفي العصر العباسي تنوعت حلقات الدروس بسبب
تنوع علوم ذلك العصر، فظهرت حلقات يدرس فيها النحو وأخرى لعلم الكلام، وظهر التناظر في الشعر
وما أشبه ذلك.
٢ - المدارس :
لم ُتعرف المدرسة الرسمية إلا في قرون متقدمة من التاريخ الإسلامي، وقبل نشأتها انتشرت أماكن
كثيرة للتعليم، وبقراءة المصادر والمراجع من الممكن أن أُحصي هذه الأمكنة في ما يلي:
الكتَّاب: انتشر هذا النوع في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام، وكان انتشاره بطيئًا، إلى أن جاء
الدين الإسلامي، فاستخدمت الكتاتيب لتعليم القرآن الكريم ومبادئ الدين الإسلامي، فلما كثرت الفتوحات
الإسلامية، وازداد دخول الناس في الإسلام من عرب وعجم كثر الولدان، فأمر عمر بن الخطاب رضي
الله عنه ببناء بيوت المكاتب، ورتب الرجال فيها للتعليم والتأديب، وكان المعلم في الكتَّاب يسمى معلم
صبيان أو معلم كتَّاب.
القصور : انتشر التعليم في قصور الخلفاء والعظماء، وهو تعليم أولي ابتدائي يهدف إلى تعليم أبناء
هؤلاء ليؤهلوا لتحمل أعباء المستقبل، ولا يسمى المعلم هنا بمعلم الصبيان أو معلم الكتاب، وإنما يطلق
عليه لفظ مؤدب.
حوانيت الوراقين : ويمكن الربط هنا بين أسواق العرب في الجاهلية، وبين دكاكين بيع الكتب في
الإسلام، ففي تلك الأسواق كان العرب يجتمعون للقيام ببعض الصفقات التجارية، لكنهم كانوا ينتهزون
فرصة هذا الاجتماع ليقوموا بنشاط رائع في الناحية الأدبية، فينشدون الأشعار ويلقون الخطب، ويعقدون
المناظرات، وفي ذلك شبه كبير مع دكاكين بيع الكتب، فهي مفتوحة في الأصل لأعمال تجارية، ثم
أصبحت مسرحًا للثقافة والحوار العلمي.
وقد ظهرت دكاكين بيع الكتب منذ مطلع الدولة العباسية، ثم انتشرت بسرعة في العواصم والبلدان
المختلفة من العالم الإسلامي، ولم يكن بائعو الكتب تجارًا يبتغون الربح فحسب، وإنما كانوا في أغلب
الأحيان أدباء ذوو ثقافة يسعون للذة العقلية من وراء هذه الحرفة، والأهم من ذلك أن هذه الدكاكين كانت
تجذب إليها العلماء.
منازل العلماء : كان التعليم في المنزل معروفًا منذ عصر الإسلام المبكر وقبل نشأة المسجد،
اتخذ دار الأرقم بن أبي الأرقم لتكون مكانًا تلتقي فيه المجموعة المسلمة، ويدعو فيه الناس _ فالرسول
وكانت داره بمكة على الصفا، وهي » الادارة والحضارة العربية الاسلامية 2 إلى الإسلام، يقول محمد بن سعد صاحب الطبقات (ت ٢٣٠ ه
يكون فيها في أول الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، وأسلم فيها قوم _ الدار التي كان النبي
.« كثير
الصالات الأدبية : ظهرت في العصر الأموي، وانتشرت بكثرة في العصر العباسي، وهي مجالس
الخلفاء ومن يسمح له بحضورها، وهي ليست إلا تطورًا لمجالس الخلفاء الراشدين، يجلسون للناس في
المسجد أو خارجه يفتون ويبينون.
البادية : تركزت ثقافة العرب في العصر الجاهلي في الأدب العربي من شعر ونثر وخطابة،
فكانت اللغة العربية حتى صدر الإسلام فصيحة سليمة، إلا أن اتصال العرب بغيرهم واختلاطهم
بالأعاجم أفسد لسانهم، فظهر اللحن في لغتهم، وبينما كان هذا اللحن يفشو في الحضر، بقيت اللغة سليمة
في الصحراء التي لم يدخل إليها العجم، كذلك أصبح البدو هم الذين تؤخذ عنهم اللغة الصحيحة السليمة،
فوفد الكثير من البدو إلى القرى والمدن وجلسوا يعلمون الناس، وهاجر بعض الأمراء والعلماء إلى
قد أُرسل في طفولته إلى البادية جريًا على _ البادية ليتعلموا اللغة من منبعها الأصيل، وكان رسول الله
ما كان من عادات العرب، حيث كانوا يرسلون أولادهم إلى البادية ليتعلموا فصاحة الأعراب وخشونة
الحياة، ويستنشقوا هواءها وعبيرها.
المساجد : تأسست المساجد مع قيام الإسلام، وباتت المركز الديني والعلمي الأول عند المسلمين.
هذه معظم أمكنة التعليم قبل نشأة المدرسة التي مهدت لظهورها، فلم تكن المدرسة الرسمية معروفة
في عصر الصحابة والتابعين، وإنما اسُتحدثت في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي،
وأول من حفظ عنهم أنهم بنوا مدرسة في الإسلام هم أهل نيسابور، حيث بنى الأمير نصر ابن سبكتكين
المدرسة البيهقية والمدرسة السعيدية.
ويرى بعض المؤرخين أن أول من بنى المدارس في الإسلام واقتدى به الناس بعد ذلك الوزير نظام
الملك الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي وزير السلطان السلجوقي ملكشاة ألب أرسلان بن
داود، شرع ببناء مدرسته النظامية الكبرى ببغداد عام ٤٥٧ ه، وفي عام ٤٥٩ ه جمع الناس ليدرسوا
بها.
وقد تعددت الآراء في أول مدرسة أُنشئت، ويعود ذلك إلى الخلط بين المدلولات والمصطلحات،
فعندما نبحث في تاريخ المدارس الإسلامية يجب أن نتجنب التعبيرات ذات المدلولات العامة غير
المحددة، فقد اعتاد بعض الكتاب المعاصرين في كتاباتهم عن تاريخ الإسلام وحضارته أن يطلقوا كلمة
المدرسة على كل معهد علمي، وهذا يعني أن فكرة المدرسة ذات الهدف المعين والنظام المخصوص
التي تسير عليه، وكان لها في خدمة التعليم الجامعي الإسلامي دور بارز له مميزاته وخصائصه لم
تظهر إلا بعد القرن الرابع الهجري، وهي بالطبع نتيجة لخطوات أخرى سابقة لها كالمساجد ودور العلم
والمكتبات والأسواق والمنازل وغيرها.
ومع نشأة المدرسة انتقل التعليم من المساجد إلى المدارس، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، منها رغبة
الناس الشديدة منذ ظهور الإسلام بالتوجه نحو الدراسات الإسلامية، ومع مرور السنين ازداد الناس إقبا ً لا
على حلقات العلم، فحفلت الجوامع بعدة حلقات دراسية، وكان ينبعث من كل حلقة من هذه الحلقات
صوت المدرس يلقي الدرس، وأصوات الطلاب يسألون ويناقشون، فيحدث ذلك ضجيجًا يؤذي المصلين،
فاتضحت صعوبة المسجد للصلاة والتدريس معًا.
وقد أدرك الخليفة عمر بن الخطاب أن صبيان المسلمين قد كثروا وأن وجودهم في المسجد يؤدي
إلى تشويش على المصلين، فلم يعد المسجد المكان المناسب لتعليم الصبيان.
كما أ  ن هناك جماعة من الناس انشغلوا بالتعليم معظم وقتهم، محاولين الارتزاق عن طريق حرف
بسيطة كانوا يقومون بها مع التدريس، ولكنهم فشلوا في الحصول على مستوى مناسب من العيش، فلم
يكن من حلٍ حينئذ إلا بإنشاء المدارس لتضمن لهم أرزاقًا تفي بحاجاتهم.
وهذا الكلام لا يعني فقدان المسجد لدوره الفكري، بل ظلَّت حلقات العلم تدار فيه، ومجالس العلم تعقد
فيه، ولم تقم المدرسة إلا بحجب لون من ألوان نشاط المسجد الفكري الكثيرة، حيث استمر يشارك
المدرسة في تدريس مختلف أنواع العلوم.
٣ مدارس الصوفية :
الخوانق :
الخانقاه كلمة فارسية تتألف من لفظين: خانة بمعنى دار، وكاه وهي لاحقة تفيد المكانية، فتأتي بمعنى
البيت، و  جعلت لخلوه الصوفية فيها لعبادة الله تعالى، وظهرت في الإسلام في القرن الهجري الخامس
تقريبًا.
وكان صلاح الدين الأيوبي أول من أرسى حجر الأساس للخوانق في مصر، وذلك في النصف
الثاني من القرن السادس الهجري - الثاني عشر الميلادي، وبالتحديد في عام ٥٦٩ ه عندما حول دارًا
تسمى دار سعيد السعداء إلى خانقاه، فكانت هذه أول خانقاه عرفتها مصر، و  سميت بالخانقاه الصلاحية،
و  عرفت أيضًا بدويرة الصوفية، ومنذ افتتاحها أجرى عليها صلاح الدين التنظيمات التي تليق بها.
وعلى الرغم من أن مصر قد عرفت التصوف قبل عصر صلاح الدين بكثير، إلا أنه لم يكن فيها
وقتئ ذ دور خاصة للصوفية، فيكون صلاح الدين قد بذر حبة في أرض صالحة بإقامته الخانقاه الصوفية
الأولى في مصر.
وازداد التصوف نضوجًا وظهر ميل الناس إليه في القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي،
ويرجع ذلك إلى ما تميز به هذا القرن من غزو المغول لإيران، فكان ذلك عامل من عوامل هجرة كثير
من المتصوفة منها إلى أقطار إسلامية لم تشهد الخوانق، فساهمت هذه الهجرة بانتشار الخوانق في كثير
من البلاد، فظهرت في الهند، و ُ غمرت بها بغداد بفضل مشاهير الأساتذة الذين وردوا إليها من إيران
وع  مروا بها الخوانق، التي وصل عددها في أواسط القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي
إلى سبع وأربعين خانقاه.
أما في العصر الأيوبي فإننا نجد أن الأيوبيين لم يخلفوا إلا خانقاه واحدة؛ هي التي أنشأها صلاح
الدين الأيوبي، وربما يعود السبب في ذلك إلى انشغالهم بالحروب والفتوحات، وإلى انصرافهم إلى
تحصين القاهرة تحصينًا محكمًا، وتسويرها بسور متين لصد هجمات الصليبيين.
وكان عصر المماليك عصر انتشار الخوانق، يشهد على ذلك كثرة الخوانق في كل مكان.
الزوايا :
يستدل من المدلول اللغوي للزاوية على أنها موضع للانزواء، وقد ظهرت في البداية على شكل
تجمعات دينية في المساجد، يتحلق فيها الطلاب أو مريدو العلم حول شيخ من الشيوخ، فهذا الجامع
الزوايا بالجامع العتيق » العتيق في مصر كانت فيه عدة زوايا، ووضع لها ابن دقماق عنوانًا واضحًا، هو
.« بمصر الفسطاط
وقد انتشرت الزوايا في جهات العالم الإسلامي في مكة والشام ومراكش والسودان والمغرب وفي
آسيا الصغرى، ويظهر أن كثرتها كانت تتعلق بكثرة الطرائق والمشايخ والمعتقدين.
الربط :
مفرد الربط رباط، والرباط والمرابطة تعني ملازمة ثغر العدو، ويفهم من هذا أن الرباط هو
الموضع الذي يرابط فيه الجند بخيلهم وعتادهم للدفاع عن البلاد، واقترن ذلك بالجهاد والذود عن البلاد،
فالثغور هي موضع المخافة من العدو الذي يخشى تسربه منها إلى البلاد.
وقد انتشرت الربط في العالم الإسلامي من المحيط الأطلسي إلى صحارى آسيا الوسطى تبعًا لكثرة
الفتوح في القرون الإسلامية الأولى، وانتشار العرب في مشارق الأرض ومغاربها.
وتشير الوثائق المملوكية ولاسيما تلك المتعلقة منها بالثغور المصرية إلى مهمة المقيمين في
الربط من الناحية العسكرية، حيث كانوا فريقين من المقاتلين يخضعون للأنظمة العسكرية، الفريق الأول
مهمته الدفاع عن موضعه فلا يتركه، والفريق الثاني مهمته دفاعية هجومية، أي أنه يتقدم نحو العدو
ويوقف تقدمه.
ومع مرور الأيام خضع الرباط لقوانين التطور، فتعددت الوظائف والمهمات التي يؤديها، فأصبح
مسكنًا للصوفية، ومدرسة يتعلمون فيها، ومسجدًا يؤدون فيه واجباتهم الدينية.
دار يسكنها أهل طريق » وأنه « بيت الصوفية ومنزلهم » وقد أشار المقريزي إلى أن الرباط أصبح
فظهر ما يمكن أن نسميه بالربط السكنية، التي أُلحقت على الأغلب بالخوانق لسكن صوفيتها، ومن ،« الله
الأمثلة عليها رباط الناصر محمد بخانقاه سرياقوس الذي أُعد لسكن صوفية الخانقاه؛ ورباط الأشرف
برسباي الذي  جعل لسكن صوفية خانقاه الأشرف؛ والرباط الذي بناه بيبرس الجاشنكير قرب خانقاه
بيبرس، و  جعل أغلب الظن لسكن صوفية الخانقاه؛ كما اشترط واقف رباط الصاحب أن يسكنه عشرة من
الفقراء، وبني جانب جامع الأفرم رباط لإقامة الفقراء.
٤ مدارس الطب )البيمارستان )
البيمارستان كلمة فارسية مركبة من كلمتين، الأولى بيمار؛ وتعني المريض أو العليل أو المصاب،
والثانية ستان، وتعني مكان، فيعني البيمارستان حينئ ذ دار المرضى، ومع الزمن اختصرت هذه الكلمة
إلى مارستان، ثم إن أصل البيمارستان أن يكون مستشفى عامة لجميع الأمراض، ولكن ما إن أصابته
الكوارث حتى هجره المرضى، ولم يبق فيه إلا المجانين، فصارت كلمة مارستان تعني مأوى المجانين.
ويعد البيمارستان المكان الرئيس لممارسة الطب وتدريسه في ذلك العصر.
ويعد الحليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أول من بنى بيمارستانا في الإسلام، وذلك عام ٨٨ ه،
وأما أول بيمارستان بني في مصر فهو بيمارستان أحمد بن طولون ، وبناه عام ٢٥٩ ه، و  سمي بعدة
أسماء أخرى، فعرف بالبيمارستان العتيق، وبالبيمارستان
الأعلى. ويرى ابن دقماق ان أول بيمارستان بني في مصر هو ذاك الذي أُنشأ في زقاق القناديل من
فسطاط مصر في عصر الدولة الأموية.
وتوالى إنشاء البيمارستانات في مصر بعد ذلك، فأنشأ كافور الإخشيدي عام ٣٤٦ ه - ٩٥٧ م
بيمارستان كافور، وبنى الفتح بن خاقان بيمارستان المغافر في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله.
وفي العصر الأيوبي ارتبط بناء البيمارستان باسم صلاح الدين الأيوبي، الذي شيد ثلاثة بيمارستانات،
الأول عام ٥٧٧ ه و عرف بالبيمارستان العتيق، والثاني بناه بالإسكندرية وحددثنا عنه ابن جبير عند
زيارته لتلك المدينة، ومن ثم أمر صلاح الدين بفتح بيمارستان مصر القديم.
لم يكن القرن الثالث الهجري قد انتهى حتى بنيت في مكة والمدينة »: وكتب جرجي زيدان يقول
وسائر المدن البيمارستانات، وتسابق على بنائها المقتدر العباسي ووزراؤه، وفي بغداد فقط بنيت في فترة
قصيرة أربعة بيمارستانات، حتى بنى عضد الدولة البويهي في سنة ٣٦٨ ه في القسم الغربي ببغداد
(البيمارستان العضدي) الذي كان فيه أربع وعشرون طبيبًا أخصائيًا كل واحد منهم في فرع من فروع
.« الطب، وكان هذا المستشفى لما فيه من مزايا على رأس كل البيمارستانات الإسلامية
وكانت المستشفيات الإسلامية تدار بترتيب ونظام تام كامل، وكان كل المرضى يعالجون بكل دقة
من دون التفات إلى قوميتهم ومذهبهم وشغلهم، وكان لكل مرض أو لعدة أمراض صالون خاص، وكان
الطب يدرس وُتصنع الأدوية في محل مجاور، فكان الطلاب بالإضافة إلى دراستهم العلمية يمارسون
دلك عمليًا. وكان المسلمون قد شكلوا مستشفيات سيارة كما اليوم يذهبون بها إلى هنا وهناك، ومنها
ما كان في عسكر السلطان محمود السلجوقي إذ كان له مستشفى يحمله أربعون بعيرًا.
كانت مستشفيات المسلمين قد بنيت وفقًا لأصول الصحة، وكانت »: وكتب غوستاف لوبون يقول
بالنسبة لزمانها أحسن من مستشفيات أوربا اليوم ! لأنها كانت واسعة جدًا وكان جريان الماء والهواء فيها
كثيرًا جدًا. وحينما أمر محمد بن زكريا الرازي أن يختار أحسن نقطة في بغداد من حيث الماء والهواء
لبناء البيمارستان، فما أجراه من اختيار يعترف به اليوم الباحثون في الأمراض المعدية، إذ عّلق في كل
نقطة من جهات المدينة قطعة لحم، وأوعز أن يبنوا المستشفى في النقطة التي كانت آخر نقطة تعفنت
.« فيها قطعة اللحم أي كانت آخرها عفونة وفسادًا
وكان المسلمون كما اليوم قد أسسوا للمجانين مصحات خاصة بالأمراض العقلية، وكان فيها
حوانيت لتوزيع الأدوية مجانًا.
كان المسلمون قد بنوا في القاهرة مستشفى كبيرًا كان فيها حدائق كبرى » : يقول « ماك كاب » وكتب
من الورود والأزهار والرياحين العطرة، وصحون أربعة فيها حياض كبرى فيها فورات أو نافورات
المياه. وكانت تستقبل المرضى الفقراء، وبعد العلاج كانوا يرفدون كل واحد منهم بأربع قطع من
المسكوكات الذهبية
وكان في مدينة قرطبة خمسون مستشفى وتسعمائة حمام وستمائة مسجد جامع
وبني في العصر المملوكي البيمارستان المنصوري الذي يعد من أشهر بيمارستانات مصر والإسلام،
فذاع صيته واشتهر، وهو الأنموذج المثالي للبيمارستانات الإسلامية، لذلك سنفصل القول فيه.
بنى هذا البيمارستان السلطان المنصور قلاوون الألفي، وذلك في القاهرة بين القصرين، فابتدأ بتشييده
وأما المارستان الذي بين القصرين » : في ربيع الأول عام ٦٨٢ ه - ١٢٨٣ م، وقد قال ابن بطوطة فيه
عند تربة الملك المنصور قلاوون فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أُعد فيه من المرافق والأدوية مالا
هو من حسنات الزمان، » : وقال عنه ابن أبي حجلة .« يحصر، ويذكر أن مجباه ألف دينار كل يوم
.« وتحتاج إليه الملوك، ويفتقر إليه الغني والصعلوك، فهو عون الفقير وجبر الكسير
 جعل البيمارستان المنصوري لتقديم الرعاية الصحية لمختلف فئات الشعب، فلم ُتقيد خدماته بفئات
معينة، بل أفاد منه الرجال والنساء والأغنياء والفقراء، والكبير والصغير، والجندي والأمير والوزير،
وأهل القاهرة ومصر وضواحيها، والمقيمون والوافدون، واسُتقبل فيه المرضى أيًا كانت أمراضهم.
وتؤكد هذه الرعاية وثيقة أصدرها الملك المنصور قلاوون عام ٦٨٤ ه بتقليد مدرس في هذا
وأبحنا التداوي فيه لكل شريف ومشروف، ومأمور وأمير، وساوينا في الانتفاع » : البيمارستان، فذكر فيها
به بين كل صغير وكبير، وعلمنا أن لا نظير لنا في ملكنا، ولا نظير له في إبقائه، فلم نجعل لوقفه
.« وشرطه من نظير
ولم تحدد مدة الإقامة في هذا البيمارستان، ولم تقتصر الرعاية الصحية فيه على المترددين والمقيمين،
وإنما شملت أيضًا الفقراء في بيوتهم، فقدمت لهم الرعاية المناسبة، و  صرف لهم ولغيرهم ما يحتاجونه
من الأدوية والأغذية والأشربة.
وانقسم أطباء البيمارستان إلى ثلاث فئات:
الطبائعيون: وهم أطباء الأمراض الباطنية.
الجرائحيون: وهم من يقومون بالعمليات الجراحية.
الكحالون: وهم المختصون بمعالجة أمراض العيون.
وكانت مهمة هؤلاء الأطباء الإشراف على المرضى مجتمعين أو متناوبين، فُتحدد مواعيد دوامهم
بدقة، يداوم الأطباء الكحالون صباح كل يوم كي لا يأتي مريض للعلاج ويرد، ونجد تعاونًا بين هؤلاء
الأطباء في مختلف فروع الطب، فمن الضروري مث ً لا أن يراجع الطبيب الكحال الطبيب الطبائعي للنظر
في علاج المريض الذي قد يعود مرض عينه إلى أسباب باطنية، وكان على الأطباء الدوام في
البيمارستان لي ً لا مجتمعين أو متناوبين.

٤ بيت الحكمة:
مكتبة عامة أنشأها الخليفة هارون الرشيد في بداية خلافته، وأوكل أمرها إلى ابنه المأمون،
وقد جلب لهذه المكتبة الكثير من أمهات الكتب اليونانية والفارسية والهندية، وكان وجودها هو
مبعث أمل للعلماء العرب للدخول في مجالات البحث والدراسة في علوم الأوائل.
ويعد الخليفة هارون الرشيد أول الخلفاء الذين اعتنوا بجمع ونسخ وترجمة الكتب من لغاتها
إلى اللغة العربية، وقد أوكل على إدارة هذه المكتبة الطبيب يحيى بن ماسويه، وقيل إن الرشيد
قّلده رئاسة هذه الدار، لترجمة الكتب الطبية التي أُحضرت من أنقرة وعمورية وبلاد الروم.
وكانت الكتب تحفظ بلغاتها الأصلية: السريانية اليونانية اللاتينية الفارسية الهندية
وإلى جانبها ترجماتها باللغة العربية.
وكان الباحثون والدارسون يلتقون في هذه المكتبة العامرة بالعلماء والمترجمين يطالعون
ويدرسون ويبحثون، وكثيرًا ما يقوم أحد العلماء بشرح بعض الكتب للدارسين، أو إلقاء
محاضرات وندوات علمية يجتمع إليها الناس.
كان فيها كما يقول القلقشندي من الكتب ما لا يحصى كثرة، ولا يقوم عليه نفاسة، ولم
تزل على ذلك إلى أن دهمت التتر بغداد، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب، ودهيت معالمها
وأعفيت آثارها.
وبيت الحكمة كانت أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، بل إنها كانت أول جامعة
إسلامية اجتمع فيها العلماء والباحثون، ولجأ إليها الطلاب، فكانت بذلك أول مركز علمي يحقق
للطلاب زادًا علميًا وفيرًا، ويخرج لهم من جهد القائمين عليها ثقافة مختلفة الاتجاه تشمل الطب
والفلسفة والحكمة وغيرها.
ولم تكن مهمة هذه الدار العتيقة التي وصل نشاطها العلمي إلى ذروته في عهد المأمون
العباسي منذ دخوله إلى حين وفاته(سنة ٢١٨ ه) تقتصر على ترجمة كتب اليونان والفرس
والهنود، بل كانت تقوم بدور التعليم والبحث العلمي، وكان بها طائفة من كبار العلماء في
القرنين الثالث والرابع الهجريين، لا سيما من كان ذا حظ وافر في معرفة لغة أو أكثر من
اللغات الأجنبية، كالسريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها. ونذكر منهم على سبيل
المثال: محمد بن موسى الخوارزمي (المتوفي ٢٣٦ ه) والكندي (ت ٢٥٢ ه) وحنين بن
إسحاق العبادي (ت ٢٦٠ ه) ويوحنا بن ماسويه (ت ٢٤٣ ه وأبو سهل الفضل بن نوبخت،
وأبو بشر متى بن يونس (ت ٣٣٩ ه و سهل بن هارون ت ٢١٥ ه) وأحمد ومحمد والحسن
أبناء موسى بن شاكر، وغيرهم ممن يطول المقام بذكرهم.
وقد كان العمل الذي يقوم به هؤلاء العلماء في بيت الحكمة هو الإشراف عليها وإدارتها
واستنساخ الكتب القديمة أو نقلها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية والتعليق عليها أو شرحها
إلى جانب إفادة الطلاب وراغبي العلم من أهل بغداد أو الوافدين إليها.
وليس من المغالاة إذا قلنا: إن كل أو جل ما ُترجم في دار الحكمة من كتب في الطب
و الصيدلة والفلك والرياضيات والمنطق والفلسفة، وكذلك الكتب التي أّلفها علماء هذه المؤسسة
العلمية أو غيرهم من علماء بغداد للتعليق على التراث القديم أو شرحه أو نقده أو تطويره،
انتقل إلى الحواضر الإسلامية في بلاد خراسان وما وراء النهر والشام ومصر والمغرب
والأندلس، وأثمرت بها نهضة علمية في تلك الميادين. كما أن كثيرًا من المكتبات العامة التي
أنشأت في الأقاليم المذكورة مثل مكتبة الزهراء التي ك  ونها الحكم المستنصر ( ٣٥٠
٣٦٦ ه) بقرطبة ودار العلم التي أنشأها الحاكم بأمر الله بالقاهرة سنة ٣٥٩ ه، ودار كتب
عضد الدولة البويهي (ت ٣٧٢ ه) في شيراز كانت عامرة بكثير من الإنتاج العلمي الذي
خرج من دار الحكمة ببغداد.
وفي خلافة المأمون ( ١٩٨ ٢١٨ ه) تطورت هذه المكتبة حين سمت بيت الحكمة أو دار
الحكمة، فأصبحت تضم جامعة يقصدها طلاب العلم من كل مكان، وقد تألفت من: مركز
للبحوث مراصد فلكية مكتبة عامة قسم للترجمة قسم للنسخ قاعات فسيحة
للمطالعة، وقاعات للمحاضرات.
ولم يمض عام ٢١٠ ه حتى أصبح في كل عاصمة أو مدينة من المدن العربية والإسلامية
يحضر طلاب العلم إلى المكتبة، ،« بغداد » مركز علمي يماثل ما هو موجود في العاصمة
ويحصل على ما يريد من الكتب، يقرأ ما يريد، ويستقبل من يشاء من المؤلفين والمترجمين.
وقد تعاقب على إدارة بيت الحكمة كل من سهل بن هارون، فكان يترجم الكتب عن
الفارسية، وسلم الخازن المسؤول عن الترجمات من اللغة السريانية والفارسية.
وفي هذا العام نفسه كان سلم الخازن على رأس مجموعة من العلماء: البطريق الحجاج بن
مصر، حنين بن اسحق؛ يقومون بجولة في البلاد الإسلامية، يتعرفون على المراكز العلمية
والمدارس ويزودونها بما تحتاجه من الكتب وينقلون منها الكتب التي لم يتم ترجمتها بعد وقبل،
لقد عاد سلم وصحبه ومعهم العديد من الكتب العلمية في مختلف العلوم والفنون التي أُدخلت إلى
بيت الحكمة وبدأ المترجمون أعمالهم.
وقد زارت أديبة ذلك الزمن السكسونية هورتسويزا قرطبة فوصفتها بأنها جوهرة العالم.
فكانت قرطبة في ذلك الحين مثار إعجاب الناس، وكان الرحالة القادمون من الشمال يتسامعون
بين الخشوع والتقدير أخبار المدينة. وكان يفد إليها الطلاب من كل جانب ومن جميع الملل
والنحل ومن كل قطر عربي وغير عربي، وممن اشتهرت دراستهم في جامعتها ومدارسها من
عظماء الرجال البابا سيلفستر الثاني، وفرانسيس لمبريه.
أما تزويد البيوت بمكتبات وولع الأندلسيين بشراء الكتب والمفاخرة بها فقد بلغ حدًا كبيرًا.
إن المأمون الخليفة العباسي أحدث في سنة ٢١٥ ه في » : يقول « ويل ديورانت » كتب
بغداد: بيت الحكمة، وكان فيه مرصد ومكتبة عامة، وصرف لهذا العمل مائتي دينار، والذي كان
يساوي ذلك اليوم ثروة كبيرة، وجمع إليه جمعًا من المترجمين الذين كانت لهم معرفة تامة
باللغات الأجنبية والعلوم المختلفة من أمثال: إسحاق بن حنين وبختيشوع وابن بطريق وابن
.« المقفع وحجاج بن مطر وسرجيس الراسي، وقرر لهم رواتب من بيت المال
الأستاذ « درابر » عن العلامة « دائرة معارف القرن العشرين » ونقل فريد وجدي في كتابه
من النسخة الفرنسية في « المنازعات بين العلم والدين » : بجامعة نيويورك الأمريكية في كتابه
طبعتها العاشرة التي ظهرت سنة ١٩٠٠ م ما ترجمته:
ُترجمت إلى العربية أهم المؤلفات اليونانية... ولكن عصر العلم الزاهر _ وبعد وفاة محمد »
في القارة الآسيوية لم يشرق إلا في خلافة المأمون... فإنه جعل بغداد العاصمة العلمية العظمى،
وجمع إليها كتبًا لا تحصى، وقرب إليه العلماء وبالغ في الحفاوة بهم ولقد دأبوا على جمع
الكتب بصفة منتظمة لأجل أن يتوصلوا إلى تكوين المكتبات، وقد قيل: إن المأمون نقل إلى بغداد
مئة حمل بعير من الكتب
في حين لم يكن يوجد في كافة أنحاء أوروبا مركز ثقافي واحد؛ كان للمسلمين في بلادهم
مراكز علمية وثقافية كثيرة، وكان لهم في مختلف فنون العلم أفراد أخصائيون خبراء ومهرة ،
وأثناء الحروب الصليبية فاضت هذه الأمواج الإسلامية الفكرية المشرقة إلى خارج حدود بلاد
الإسلام حتى ارتوت أوربا من ينابيع علوم المسلمين. و كتب غوستاف لوبون في ذلك يقول:
في ذلك العهد الذي لم يكن للكتاب والمكتبة أية قيمة أو معنى لدى الناس في أوربا، ولم
يكن يوجد في جميع الصوامع وعند جميع القسس في أوربا أكثر من خمسمائة كتاب ديني، كان
للدول الإسلامية ما يكفي من الكتب والمكاتب، ففي مكتبة بيت الحكمة ببغداد أربعة ملايين كتابا ،
وفي مكتبة الملوك بالقاهرة مليون كتابًا، وفي مكتبة طرابلس في الشام ثلاثة ملايين كتابا ، وفي
إسبانيا كان يصدر سنويا ما يقرب من سبعين إلى ثمانين ألف كتاب.
الفصل السادس
روائع الترجمة والمترجمين
حركة الترجمة العربية الإسلامية:
بزغ فجر الترجمة عند العرب بعد الإسلام فأشرقت شمس نهارها فأنارت العالم كله ، رأى
العرب في الترجمة رسول الفكر إلى الفكر تتخطى المكان وتتحدى مرور الزمن لأنها سلك
يربط بني الإنسان بعضهم ببعض على اختلاف مللهم وألوانهم ونحلهم، فش  جعوا حركتها وأسسوا
أول من حث على تعلم الألسنة والاضطلاع بالترجمة، فقد روى _ المدارس لها، وكان الرسول
محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة قول الرسول لزيد بن ثابت: أتحسن السريانية؟
قال: لا، قال: تعلمها، فتعلمها زيد.
لقد واجه العرب الأوائل الثقافات اليونانية التي كان الإغريق يفرضها على العالم القديم من
خلال المراكز العلمية والأديرة المنتشرة التي كانت تعنى بالكتب والترجمات لعلوم الأوائل،
فكانوا يحصلون على ترجمات لبعض الكتب باللغة العربية، حيث قام فريق من العلماء
السريانيين على ترجمة كثير من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية إلى لغتهم ثم إلى اللغة
العربية، وترجموا للخلفاء المسلمين بعض الكتب التي تعنى بالطب والتاريخ والنظم السياسية.
وعندما امتدت حدود الدولة الإسلامية من المحيط الأطلسي غربًا إلى حدود الصين شرقًا،
ومن البلاد التركية والرومية شمالا حتى المحيط الهندي جنوبا، كان يعيش في هذه البلدان شعوب
متباينة في الجنس واللغة والثقافة، وبعد انتشار الإسلام أصبح الشخص هنديًا أو فارسيًا أو روميًا
بحكم الولاء عربيًا.
لقد كانت المواجهة مع هذه الثقافات المختلفة أمر بالغ الخطورة ليس في بلاد اليونان أو في
القارة الأسيوية أو غيرها، بل في البلدان العربية التي كان يحكمها اليونانيون والإغريق مثل
الشام ومصر والعراق، وقد تأثرت شعوبها إلى حد كبير بالثقافات المختلفة، وحتى اللغات، فكان
هذا بحق امتحانًا للغة العربية.
لكن الإسلام بتعاليمه السمحة أحدث امتزاجًا بين هذه الشعوب المختلفة في الثقافة واللغة،
وبفضل من الله ثم بشيء من الحكمة والصبر والأناة تمكن الجميع أن يقهروا هذه المصاعب
بالتقارب والألفة والمحبة.
وعندما فتح العرب ، في القرن السابع الميلادي، العراق وسوريا ومصر، كانت العلوم
والفلسفة اليونانية سائدة في مختلف المراكز العلمية هناك، قبل ذلك كانت مدرسة الإسكندرية
الشهيرة قد انتقلت إلى سوريا، وبعد ذلك، حوالي عام ٩٠٠ م، انتقلت إلى بغداد، حيث كان ممثلو
هذه المدرسة - رغم كونهم من المسيحيين - يشاركون في المناقشات الفلسفية.
وفي حران كانت هناك مدرسة شبه فلسفية لطائفة الصابئة ، اقتدى ممثلوها ببغداد. ولكن
المدرسة السريانية في مدينة جنديسابور كانت أهم المراكز العلمية، وقد اشتهرت هذه المدرسة
في مضمار تدريس الطب بوجه خاص، منها تخرج الطبيب الخاص لهارون الرشيد، ومنها أيضًا
تخرج، خلال ما يقارب المائة عام، أخلافه ممن كانوا يزاولون مهنة الطب في البلاط، بفضل
هذه الاتصالات أصبح الخلفاء، وغيرهم من الزعماء المسلمين، يدركون مدى إمكانية الاستفادة
من العلوم اليونانية، فنظموا عملية نقل أهم مؤلفاتها إلى اللغة العربية من اللغة السريانية التي
كانت لغة التدريس في جنديسابور وغيرها من المراكز العلمية .
وتجدر الإشارة إلى أن بعض التراجم بدأت تظهر منذ القرن الثامن الميلادي، بيد أن حركة
الترجمة الفعلية لم تبدأ إلا في عهد المأمون، الذي أسس، لهذا الغرض، هيئة خاصة عرفت ب بيت الحكمة
ومنذ ذلك الوقت بدأ يتدفق سيل عارم من التراجم ، استمر طوال القرن التاسع والجزء
الأعظم من القرن العاشر، حتى أنجزت ترجمة كل المؤلفات اليوناينة، التي حظيت باهتمام
العرب. جرت الترجمات الأولى من اللغة السريانية، حيث أن عددًا كبيرًا من المؤلفات اليونانية
كان قد ترجم إلى هذه اللغة، كذلك كان من الأسهل العثور على أناس يعرفون اللغتين العربية
والسريانية، نظرًا لسعة انتشار هذه الأخيرة في العراق، بينما كانت معرفة اليونانية أمرًا نادرًا.
ولكن بمرور الأيام بدأت عملية النقل المباشر من اليونانية إلى العربية، ويربط معظم المؤرخين
هذا الانتقال باسم مسيحي نسطوري ، وهو حنين ابن إسحق.
وكان العديد من المؤلفات اليونانية الأساسية قد ترجم إلى اللغة العربية قبل عام ٨٠٠ م،
وخلال فترة من الزمن كان الاشتغال بالعلوم اليونانية ينحصر، بصورة أساسية، في المدارس
الطبية اليونانية، لكن المسلمين بدؤوا في القرن العاشر بوضع مؤلفاتهم الخاصة التي تبحث في
هذه المواضيع نفسها.
وكان من السهل الارتحال من إسبانيا إلى مراكز النشاط العلمي كالمدينة ودمشق وبغداد، وقد
كانت المؤلفات العلمية العربية الهامة تصل إلى إسبانيا خلال سنوات معدودة من ظهورها في
المشرق، ساهم علماء الأندلس وكّتابها مساهمة ملحوظة في تطوير الأدب
والعلوم العربية، تلك هي الموجة الحضارية التي غمرت إسبانيا مع الفتح العربي في مطلع
القرن الثامن.
ثانيًا - أهم مراكز الترجمة:
إن أهم المراكز العلمية القديمة أو المدارس التي كانت في مجموعها ذات أثر فعال
ومباشر في ازدهار حركة الترجمة ونقل تراث الأوائل إلى اللغة العربية في علوم الفلسفة
والطب والصيدلة والفلك والرياضيات وعلوم الطبيعة والحياة، هي: الإسكندرية وأنطاكية وحران
ونصيين والرها وجنديسابور.
فلقد كانت هذه المدارس بمثابة جسور عبرت فوقها العلوم من حضارات مختلفة، فامتزجت
فيها رياضيات وفلك بابل وهندسة مصر وعلومها الطبية وعلوم اليونان والهنود والفرس، ثم
شكلت ومنذ الفتح الإسلامي – قوسا جغرافيًا يبدأ بالإسكندرية ، ويمر عبر البحر المتوسط
بأنطاكية ونصيين وحران وجنديساور، لتنتهي المسيرة العلمية في خطوتها الأخيرة ببغداد، تلك
المدينة التي قدر لها أن تكون عاصمة الدنيا عدة قرون، ومركزًا حضاريًا جامعًا تلاقت فيه
الحكمة القديمة من يونانية ورومانية وفارسية وهندية لتتعانق مع إبداعات المسلمين الحضارية.
ولقد أدت مدرسة الإسكندرية - بوجه خاص - دورًا مباشرًا في إيقاظ الحركة العلمية في
العصر الأموي في مجالات الفلسفة والطب والرياضيات، والسبب الرئيسي في ذلك هو ان هذه
المدرسة انقضت تمامًا منذ القرن الأول الهجري عن متابعة رسالتها الثقافية بعد أن انتقل رجال
الفكر منها زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أنطاكية بالشام، وإلى حران وجنديسابور والرها
وقنسرين ورأس العين، وتفرق علمهم في البلاد، الأمر الذي جعل خلفاء بني العباس وغيرهم من
المهتمين بحركة الترجمة وإحياء علوم الأوائل أن يعتمدوا على مدارس جديدة أصبحت أكثر
أهمية وأكثر قربًا من مدرسة الإسكندرية. وتأتي مدرستا حران وجنديسابور في مقدمة المدارس
الجديدة، حيث كانت كل منهما تموج بالعلماء وتزخر بالأطباء، وأمدتا حركة الترجمة بجزء كبير
من مادتها العلمية، ومنهما جاء أبرز النقلة الذين ساهموا في ازدهار هذه الحركة، وكان أشهر
الأطباء في بغداد من نتاج هاتين المدرستين.
وكانت تلك المدارس مجتمعة السبب المباشر وراء قيام أعظم مركز علمي للترجمة والتأليف
والنشر أنشئ في تاريخ الإسلام الحضاري والثقافي على مدى خمسة قرون، ألا وهو بيت
الحكمة البغدادي الذي اجتمع فيه من أجلّ العلماء من الفلاسفة والأطباء والفلكين والرياضيين
وأصحاب الصناعات لترجمة الكتب التي تبحث في شتى العلوم والفنون والمعارف والصنائع.
ثالثًا الأدوار التي مرت بها حركة الترجمة:
مرت الترجمة في المشرق الإسلامي - وعبر أربعة قرون من تاريخها - بمراحل مختلفة
من التطور، ابتداء من القرن الأول الهجري حتى وصلت إلى قمتها في بغداد في منتصف القرن
الرابع الهجري.
والتقسيم الذي يعبر عن الواقع الفعلي لتاريخ هذه الحركة يتمثل في أربعة أطوار رئيسية،
هي:
الطور الأول : الترجمة في القرن الأول الهجري (العصر الأموي).
الطور الثاني: الترجمة في القرن الثاني الهجري (العصر العباسي). وينقسم إلى دورين:
الأول: زمن أبي جعفر المنصور.
الثاني: زمن هارون الرشيد.
الطور الثالث: الترجمة في القرن الثالث الهجري (العصر العباسي: عصر المأمون
والمتوكل).
الطور الرابع: الترجمة في القرن الرابع الهجري (العصر العباسي).
وهذا التقسيم لا يعني أن هناك حدودًا فاصلة تضع البداية والنهاية لكل دور؛ فالظواهر الفنية
والتيارات الأدبية والعلمية متداخلة، وفضلاً عن ذلك فإن الكثيرين ممن قاموا بالترجمة والنقل قد
عاصروا أكثر من دور من تلك لأدوار، مثل يوحنا بن ماسويه (ت ٢٣٤ ه) الذي خدم الأمين
والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل.
١ - الترجمة في القرن الهجري الأول العصر الأموي :
لم يؤد الأمويون دورا كًبيرا فًي حركة الترجمة، بل كان دورهم ثانويا إًبان الفتوحات الإسلامية؛
لأنهم كانوا حريصين على حماية الثغور وفتح البلدان وتأمين الدولة الجديدة، ما عدا الدور الذي أداه
خالد بن يزيد الذي ترك الإمارة والحكم و كرس جهده للطب وترجمة كتب الكيمياء والطب إلى
العربية، وظهر في هذا العصر الطبيب ما سرجويه، وكان ينقل من السريانية إلى العربية، ودارت
في هذا العصر مناقشات وجدال حول الإمامة والجبر والاختيار كانت بظهور الفرق
الإسلامية فيما بعد.
ويمثل العصر الأموي أول دور من أدوار حركة الترجمة، و كانت الترجمة في هذا العصر
ترجمة بدائية وضعيفة المستوى، إلا أن هذا العصر كان حجر الأساس لبناء هذه الحركة عمومًا،
كما أنه كان المنطلق الأول لها في أنحاء العالم الإسلامي مشرقة ومغربه.
فلقد عني الأمويون بنقل العلوم القديمة، أخص بالذكر منها علوم اليونان إلى اللغة العربية
بواسطة العلماء السريان، وقد اشتهر من هؤلاء في العصر الأموي يعقوب الزهاوي، ويؤثر عنه
أنه أفتى رجال الدين النصارى بتعليم أولاد المسلمين التعليم الراقي؛ إن لهذه الفتوى في زمنها
شأنًا كبيرًا فقد كانت العلوم وقفًا على الكهان لا يبوحون بها إلا لمن اتبع دينهم وسلك سبيلهم،
وقد نتج من امتزاج الأمويين بغيرهم من الأمم ولا سيما السريان واعتمادهم عليهم أن تشعبت
في المملكة العربية الإسلامية المعرفة، وتزاوجت العقول المختلفة كما تزاوجت الأجناس
المختلفة، فنتج من هذا التزاوج الثقافة العربية.
لقد خدم السريانيون العلوم بما ترجموا وما ألفوا وظهر في هذا العصر كثير من العلماء
وكان أكثرهم فلاسفة وأطباء معًا لأن دراستهم الطبية لم تكن منفصلة عن دراستهم الفلسفية.
وهكذا طرأ على الأدب والعلوم في العصر الأموي تبدل سببه استفادة العرب من فتوحهم،
ووقوفهم على آثار المدنيات لأمم ذات حظ من العلوم غير قليل، ولقد كان لكتاب الله، المعجز
بآياته وسحر بلاغته، أثره في فتق أذهانهم وصقل عباراتهم وتوحيد لهجاتهم كما كان للحديث
الشريف وتحريضه على طلب العلم أثره البالغ فيهم. ولقد تمت أول ترجمة من اليوناينة إلى
العربية في عهد الخليفة الأموي مروان بن الحكم بين سنتي ٦٤ و ٦٥ ه فترجم بأمره
ماسرجويه الطبيب البصري السرياني الموسوعة الطبية التي من تأليف القس أهرن ابن أعين
الإسكندراني، وهي كناش في ثلاثين مقالة أضاف إليها ماسرجيس - ما سرجويه - مقالتين.
وكان في الإسكندرية فيلسوف مسيحي أسمه أدفر، كان شغوفًا يعلم الكيمياء، وتتلمذ عليه
شاب روماني اسمه مورينوس وتعلم منه صناعة الكيمياء ثم أخذ الأمير خالد بن يزيد (ت
٨٥ ه) علم الكيمياء عن مورينوس المذكور وألف الأمير فيها كتبًا ورسائل.
وأما دواوين الأموال فإنها كانت بعد ظهور الإسلام بمصر والشام والعراق على ما كانت
عليه قبل الإسلام، فُنقل ديوان مصر من القبطية إلى العربية في إمارة عبد العزيز بن مروان
على مصر، كما ُنقل ديوان الشام من الرومية إلى العربية في سنة إحدى وثمانين من الهجرة،
وأما ديوان العراق فنقله صالح بن عبد الرحمن في زمن الحجاج.
وقد كانت الترجمة في تلك الفترة مقصورة على بعض العلوم الطبيعية كالكيمياء والطب،
دون أن يتعدى ذلك إلى العلوم العقلية كالمنطق وعلم النفس وما وراء الطبيعة، ولعل السبب في
ذلك يرجع إلى أن اهتمام الناس كان موجهًا بكليته إلى العلوم الدينية الإسلامية، وكانوا ينظرون
إلى العلوم التي تدرس في المراكز الثقافية (القديمة) على أنها علوم غير المسلمين، مما أدى إلى
انصرافهم عنها، وظلت العناية بها قاصرة على النصارى والصابئة واليهود على اختلاف
مذاهبهم ونحلهم.
ولعل الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي هو أول شخصية في الإسلام
يرعى ترجمة كتب الطب والكيمياء والفلك إلى اللغة العربية، كما أنه أول عربي يبحث في
العلوم العقلية ويظفر منها بمركز جدير بالنظر والاعتبار.
وكان خالد بن يزيد بن معاوية موصوفًا بالعلم حكيمًا شاعرًا، وله كلام في صناعة الكيمياء
والطب وكان بصيرًا بهذين العلمين متقنًا لهما وله رسائل دالة على معرفته وبراعته، ومما نسبوا
إليه من التصانيف في الكيمياء: السر البديع في فلك الرمز المنيع، وكتاب الفردوس ورسائل
أخرى. ولما توفي خالد بن يزيد سنة تسعين وقبل سنة خمس وثمانين وشهد له الوليد بن عبد
الملك وقال: ليلق بنو أمية الأردية على خالد فلن يتحسروا على مثله أبدًا.
وقد دفعه تحمسه للعلم والمعرفة إلى الحصول على مصنفات الإغريق والسريان، حيث أمر
بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية، وطلب
إليهم ترجمة العلوم وبالأخص كتب الكيمياء من اللغتين اليونانية والقبطية إلى اللغة العربية، وهذا
أول نقل في الكتب في الصنعة (الكيمياء) من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، وهذا أول
نقل في الإسلام من لغة إلى لغة. كما وُنسب إليه ترجمة كتب النجوم والطب وغيرها.
ومن المصنفات التي ترجمت من السريانية إلى العربية في هذا القرن كتاب (كناش) في
الطب، من تأليف أهرون بن أعين القس، قام بترجمته أشهر نقلة هذا القرن الطبيب البصري
ماسرجويه (اليهودي المذهب السرياني اللغة) ويسمى أيضًا ماسرجيس، ترجمه في أيام الخليفة
مروان بن الحكم (ت ٦٥ ه)، ثم حفظ في خزائن كتب الأمويين إلى أن أخرجه عمر بن عبد
١٠١ ه) ونشره بين الناس للانتفاع به. - العزيز ( ٩٩
٢ - الترجمة في القرن الهجري الثاني العصر العباسي
عني العباسيون بالعلوم عناية بالغة، فقد مال عدد من الخلفاء في العصور العباسية إلى العلوم
فاندفع الناس إلى تحصليها واقتناء كتبها، اقتبس العباسيون العلوم عن الفرس والهنود ولا سيما
عن اليونان بواسطة تراجمة كثيرون معظمهم من السريان وبعضهم من الهنود، وكان عصر
هارون الرشيد عصر العرب الذهبي، فأصبحت بغداد عاصمة العالم في الثقافة والسياسة
والاقتصاد.
بدأت الترجمة في هذا العصر في خلافة المنصور ونشطت حركة الترجمة من اليونانية إلى
السريانية وظهرت أسماء بعض المترجمين في هذا العصر أمثال سرجيوس الرأس عيني أو
الرسعني الذي ترجم آثار جالينوس في الطب والأخلاق وآثار أرسطو المنطقية إلى السريانية، وعبد
الله بن المقفع الذي ترجم من الفارسية إلى العربية حكايات كليلة ودمنة، وقيل إنه ترجم بعضكتب
أرسطو في المنطق، وازدهرت حركة الترجمة في عصر المأمون إذ إنه أسس في بغداد مدرسة
الحكمة أو بيت الحكمة سنة ٢١٧ ه، وائتمن يحيى بن ماسويه عليه، وخلف يحيى تلميذه الشهير
٢٦٠ ه، وكان حنين أشهر مترجم للمؤلفات - حنين بن إسحق في الفترة الواقعة بين سنة ١٩٤
اليونانية إلى السريانية والعربية دون منازع، وكذلك كان ابنه إسحاق بن حنين وابن أخيه حبيش بن
الحسن، ومن الأسماء التي لمعت في فن الترجمة يحيى بن البطريق (مطلع القرن التاسع الميلادي)
وعبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي (النصف الأول من القرن التاسع)، وهو الذي كان
مساع دا للفيلسوف الكندي وقد ترجم لأرسطو، وإليه يرجع الفضل في ترجمة كتاب الربوبية
(إثولوجيا) المنسوب __________إلى أرسطو، وكان قد وضعه أفلوطين الإسكندري، وكذلك لمع اسم قسطا بن
لوقا البعلبكي، وقد كان طبيبا وفيلسوًفا وفيزيائيا معروفًا، ترجم شروح الإسكندر الأفروديسي
ويوحنا فيلويون على كتاب الطبيعة لأرسطو، وله شروح جزئية للكون والفساد لأرسطو، وله
رسالة في الفرق بين الروح والعقل، وله بحوث في الشفاء شبيهة بعلم النفس المعاصر، وفي القرن
العاشر الميلادي، ظهرت أسماء مثل أبي بشر متى القنائي (ت ٣٢٩ ه) والفيلسوف النصراني
يحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق (ت ٣٦٤ ه) وتلميذه أبي الخير بن الخمار (ولد
٣٣١ ه). وقد ظهرت في هذا العصر مدرسة ال  رها وكانت تضم صابئة حران الذين كانوا يدينون
بالمعتقدات الكلدانية القديمة ويهتمون بالدراسات الرياضية والفلكية والروحية بالإضافة إلى
الأفلاطونية الفيثاغورثية المحدثة، ومن أشهر المترجمين في مدرسة الرها: ثابت بن قرة، وقد ترجم
العديد من المؤلفات الرياضية والفلكية.
و لقد وجدت مدارس تخصصت بالترجمة في العهد العباسي رعى عددًا منها الأفراد،
وأشرفت على بعضها الدولة إشرافا مباشرًا، وعهدت بإدارة إحداها إلى حنين بن إسحاق. وكان
من أبرز رجال العصر الذين اقتدوا بالخلفاء في تشجيع النقل في مدارسهم الخاصة الأبناء الثلاثة
لموسى بن شاكر.
ولقد اشتهر من التراجمة: آل بختيشوع، عمر بن فرخان الطبري، أيوب الزهاوي الأبرشي،
الحجاج يوسف بن مطر، هلال الحمصي، آل ماسيويه، حنين بن إسحق العبادي، أبو زكريا
يحيى بن البطريق، قسطا بن لوقا البعلبكي، أبو زكريا يحيى بن عدي، أبو علي عيسى بن
زرعة.
ولقد أنشأ الخليفة المأمون سنة ٣١٥ ه مدرسة للترجمة وعهد إلى حنين بإدارتها. وُنعرف
بهذا الرجل وأمثاله لدورهم البارز في هذا المضمار، فالعبادي: نسبة إلى قبيلة عباد العربية، ولد
حنين سنة ١٩٤ ه في الحيرة بالعراق، وقد تتلمذ حنين في بادئ الأمر على يوحنا بن ماسويه،
ثم تركه لكي يدرس لعدة سنوات اللغة اليونانية حتى حذقها تمامًا، وعندما حقق أمنيته قصد
البصرة كعبة اللغة العربية حينذاك، فأتقن فيها لغة الضاد، وبذلك أصبح متقنًا أربع لغات هي:
العربية لغته والسريانية ثم الفارسية واليونانية. رحل بأمر المأمون إلى كثير من البلاد في
العراق وسورية وفلسطين ومصر للحصول على نوادر المخطوطات التي تيسر له أن يحسن
ضبط الترجمات التي تولاها فيها.
كان حنين من أئمة الترجمة في الإسلام، اختير للترجمة وائتمن عليها و  وضع له ُ كّتاب
عددهم أربعون، عالمون بالترجمة، كانوا يترجمون ويتصفح حنين ما ترجموا، مثل أسطيفن -
اصطفن بن بسيل - وحبيش، وموسى بن أبي خالد الترجمان، ويحيى بن هارون. وكان يجيد
اللغتين السريانية والعربية، فإنه أتقن الإغريقية عندما عاود الظهور في بغداد، وف  ضل العمل
مستق ً لا، كما فعل بنو موسى، فترجم أعما ً لا في الطب والفلسفة والفلك والرياضيات والسحر،
كذلك أشرف على ترجمات ابنه إسحق، وابن أخته حبيش بن الحسن وحواريين آخرين، ولما
كان حنين هو الوحيد بين شركائه الذي أتقن الإغريقية، فإنه كان يقوم عادة بترجمة أولية إلى
السريانية أو إلى العربية في بعض الأحيان. وكان إسحق وحبيش يعرضان عملهما على حنين
لمراجعته وتصويبه، وقد أحكم حنين المراقبة على مريديه طوال حياته، إلا أن عملهم لم يقابل
إلا بتقدير بخس. من ناحية أخرى، كان حبيش مترجمًا جيدًا للمواد الطبية، لكنه تحمل مع آخرين
مسؤولية كاملة لترجمة المواد الفلسفية والرياضية التي تتضمن كل مؤلفات أرسطو تقريبًا. جمع
حنين قائمة أعمال جالينوس التي كانت متوافرة في عصره، وحدد منها حوالي مائة عمل ترجمها
بنفسه إلى السريانية أو العربية، وبالإضافة إلى هذه الترجمات، شمل إنتاجه الضخم ترجمات
لأبقراط وأطباء آخرين، كذلك صنف أعما ً لا أخرى من بينها كتب في طب العيون، وطبيعة
الضوء، والخيمياء.
إلى جانب دوره الحاسم كمترجم وعالم ومعلم، قدم حنين أهم إسهام في تقدم الثقافة العربية
بجهوده الناجحة في ابتكار معجم تقني للمفردات العربية والسريانية، واعترافًا منه بالحاجة
الضرورية إلى نصوص جيدة، فإنه عمل مع زملائه على مقارنة النصوص الحرجة والمقابلة
بينها، مع أخذ القراءات المختلفة في الاعتبار، قبل البدء في الترجمة، وقام حنين بتنقيح ترجماته،
بعد أن ظهر اختلاف في المعاني، وبهذه الطريقة أُسست منهجية يقاس عليها للترجمات التالية.
واشتهر معه ابنه إسحق بن حنين (ت ٢٩٨ ه)، وقد لحق بأبيه في النقل وكان يحاكيه في
إتقان الترجمة وفي معرفة اللغات وفصاحته فيها إلا أن نقله للكتب الطبية قليل جدًا.
واشتهر أبو الحسن ثابت بن قرة الحراني (ت ٢٨٨ ه ) سكن مدينة بغداد وكان الغالب عليه
علم الفلسفة دون الطب، وكان في دولة المعتضد، وله كتب كثيرة في فنون من العلوم كالمنطق
والحساب والهندسة والتنجيم والهيئة، وكان من مشاهير نقله العلوم في الإسلام.
لم يعمل ثابت بن قرة مستق ً لا، ولكنه أسس مدرسة للرياضيات والتنجيم، تابعها من بعده ابنه،
واثنان من أحفاده، وواحد من أبناء أحفاده، وكان من بين ترجماتهم أعمال أرشميدس
وأبولونيوس البرجي، وهي أعمال قيمة في الهندسة الرياضية والميكانيكا، فض ً لا عما تتضمنه من
معلومات خاصة بخبرات هندسية. وكان ثابت على دراية تامة بنظرية العدد الفيثاغورثية الجديدة
التي طورها الأفلاطوني الحديث نيقوماخوس الجرشي، ووضع النسخة العربية لكتاب
وأصبح ثابت منجمًا للخليفة المعتضد بعد أن ترك الخدمة ،« المدخل إلى علم العدد » نيقوماخوس
عند بني موسى، وتضمنت ترجماته عن الإغريقية والسريانية نسخًا منقحة من كتاب بطليموس
لأرسطو، وصنف كتابًا في « الفيزيقا » كما شرح كتاب ،« الأصول » وكتاب إقليدس « المجسطي »
لبيان الأسس المفاهيمية لفنون التنجيم. « طبائع النجوم (الكواكب) وتأثيراتها »
واشتهر من بين المترجمين قسطًا بن لوقا، وهو مسيحي من مدينة بعلبك في لبنان، عمل في
بغداد لبعض الوقت طبيبًا وعالمًا ومترجمًا، وذاعت شهرته عاليًا مثل حنين، توفي في أرمينيا
عام ٣٠٠ ه، ولا تزال بعض ترجماته موجودة، مثل ترجماته لبعض مؤلفات ديافنطوس
وثيودوسيوس وأوتوليكس وهايبكلس وأرستارخوس وهيرون. كما أّلف عددًا من الأعمال
الأصيلة معظمها في موضوعات طبية، لكنها شملت أيضًا عدة رسائل فلكية، وكتابين في شرح
إقليدس، ورسالة في الجبر، وكتابًا يفسر فيه مقالات دياقنطوس في الجبر، وكتبًا في « أصول »
ميزان القبان والموازين والمقاييس والمرايا المحرقة. وقد أجمع المترجمون وكتاب السير على
مدحه، والثناء على مهارته في ترجمة الأعمال الإغريقية إلى العربية. ويبدو، في ضوء
الترجمات الموجودة، أنهم أنصفوه تمامًا وقدروه حق قدره.
واشتهر حبيش بن الحسن الدمشقي المعروف بحبيش بن الأعسم: هو ابن أخت حنين بن
إسحق وتلميذه، وقد اشتهر بالطب والترجمة من اليوناني والسرياني وهو ناقل جيد النقل.
واشتهر اصطفان بن بسيل: وهو مترجم من مدرسة حنين بن إسحاق، يحمل اسمه الظن على
أنه كان من اليونان.
و أبو عثمان يعقوب بن سعيد الدمشقي: ترجم كثيرًا من كتب الرياضيين اليونان ومن ذلك
الجزء العاشر من أصول إقليدس، كان طبيبًا مشهورًا، ولما أسس الوزير على بن عيسى
بيمارستانًا جديدًا ببغداد سنة ٣٠٢ ه، لم يقتصر على توليته رئيسًا له، بل جعله أيضًا رئيسًا
على جميع بيمارستانات بغداد ومكة والمدينة.
واشتهر إبراهيم بن كبس: طبيب كان يدرس الطب في البيمارستان العضدي ببغداد سنة
٣٦٠ ه، ترجم كتبًا كثيرة إلى العربية وكان نقله مرغوبًا به.
وقد ساهم عدد من الخلفاء في رعاية الترجمة، ونبين دورهم فيما يلي:
٣ - الترجمة في القرن الثالث الهجري:
كانت النتائج الهامة التي تمخض عنها الدور الذي قام به كل من المنصور والرشيد في
٢١٨ ه) للسير في الاتجاه ذاته. - حركة الترجمة بمثابة الطريق المعبد الذي مهد للمأمون( ١٩٨
وتبدأ عناية المأمون بالترجمة بعد دخوله بغداد مع مطلع القرن الثالث الهجري الذي يعد
نقطة تحول في تاريخ الترجمة، لما آلت إليه من التطور والانتشار السريع في امتدادها إلى
ضروب العلوم المختلفة التي خضعت لها، وبلوغها آخر مراحل نضجها لم تبلغه طيلة تاريخها؛
وذلك بسبب التحولات ،« قرن الترجمة » الأمر الذي يمكن معه أن يطلق على هذا القرن اسم
الجذرية التي شهدها هذا الميدان بصفة خاصة، وما رافق ذلك نتائج بصفة عامة.
في هذا الدور تقاطر إلى بغداد المترجمون من أنحاء العراق والشام وفارس، وفيهم النساطرة
واليعاقبة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية واللاتينية و
الهندية، وكثر في بغداد الو  راقون وباعة الكتب، وتعددت مجالس العلم والمناظرة، وأصبح هم
الناس البحث والدرس، وظلت تلك النهضة بعد المأمون حتى ُنقلت أهم كتب القدماء إلى اللغة
العربية.
ولعل أهم ما يميز تلك المرحلة من تاريخ الترجمة أن الحصول على كتب الأوائل بأنواعها
أصبح مطلبًا ثقافية عامًا، وأن البحث عنها في بلاد الروم واستدعاء المترجمين لها، وإجزال
العطاء لهم لم يكن عم ً لا ملكيًا فقط (كما كان المأمون يفعل)، ولكن كان الأفراد الأغنياء يتولون
ذلك أيضًا، ويقوم به المترجمون أنفسهم. وبهذا الخصوص يقول ابن النديم - مث ً لا - عن محمد
وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر المنجم: - وكان أفراد هذه الأسرة من مشاهير علماء بغداد
وهؤلاء القوم ممن تناهى في طلب العلوم القديمة، وبذلوا فيها » - في علوم الرياضيات والفلك
الرغائب، وأتعبوا فيها نفوسهم، وأنفذوا إلى بلد الروم من أخرجها إليهم، فأحضروا النقلة من
ويذكر القفطي ما يفهم منه أن .« الأصقاع والأماكن بالبذل السني، فأظهروا عجائب الحكمة
الطبيب والفيلسوف حنين بن إسحق العبادي (ت ٢٦٠ ه) - وكان من كبار النقلة في بغداد -
دخل بلاد الروم لأجل تحصيل كتب الحكمة، وتوصل في » بحث عن الكتب لحسابه، وأنه
تحصيلها غاية إمكانه، وأحكم اليونانية عند دخوله إلى تلك الجهات، وح  صل نفائس هذا العلم،
ويذكر .« وعاد يلازم بني موسى بن شاكر، ورغبوه في النقل من اللسان اليوناني إلى العربي
القفطي أيضًا أن محمدًا بن إسماعيل التنوخي المنجم بلغ من شدة بحثه عن هذه العلوم أنه رحل
في طلبها إلى الآفاق، ودخل الهند، وأخذ عنها غرائب في علم النجوم والفلك.
وكما كان المأمون وغيره من الخلفاء في القرن الثالث الهجري ينفقون على الترجمة من
أموالهم كان الناس بدورهم يبذلون من غناهم، فيذكر ابن أبي أصيبعة أنه كان لدى حنين بن
وهي حروف كبار بخط » إسحق العبادي كاتب يعرف بالأزرق ينسخ له كتب بخط مولد كوفي
غليظ في أسطر متفرقة، وورقها كل ورقة منها بغلظ ما يكون من هذه الأوراق المصنوعة يومئذ
ثلاث ورقات أو أربع... وكان قصد حنين بن إسحق بذلك تعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه
ويروي حنين نفسه في رسالة كتبها أنه حين برز اسمه .« لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم
واغتنى صار يقضي الحوائج لسائر الناس، وينقل (يترجم) لهم الكتب بغير عوض ولا جزاء.
وفي دار بني موسى بن شاكر ببغداد كان يعمل - دون إبطاء - فريق كبير من المترجمين
من أنحاء البلاد، وقد عرف هؤلاء الأخوة الثلاثة (محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر)
بالبذل في سبيل التعريب والترجمة بقصد تشجيعها وتنشيطها، حيث كانوا يغدقون على النقلة كل
إن بني » : ما يحتاجون إليه من مال لنقل العلوم والمعارف، وفي ذلك يقول ابن أبي أصيبعة
المنجم كانوا يرزقون جماعة من النقلة - منهم حنين بن إسحق وحبيش بن الحسن الأعسم وثابت
.« بن قرة الصابئ وغيرهم - في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة
وكان بنو موسى بن شاكر الثلاثة، محمد وأحمد والحسن، بترتيب أعمارهم بدءًا من الأكبر،
أصحاب دور رئيسي في رعاية العلم والتقنية أيام حكم المأمون ومن خلفوه مباشرة، وكان أبوهم
موسى بن شاكر فلكيًا بارزًا ومرافقًا للمأمون وقت أن كان مقيمًا في خراسان قبل توليه الخلافة،
وعندما توفي موسى أصبح الإخوة الثلاث تحت وصاية المأمون الذي أرسلهم إلى بيت الحكمة
لاستكمال تعليمهم، وبعد أن تركوا بيت الحكمة، عهد إليهم المأمون ومن جاءوا بعده بمشاريع
مختلفة شملت أعمال المساحة الجيوديسية، كما أصبحوا مقاولين لمشاريع عامة. وربما كان هذا،
إلى جانب مباشرتهم أنشطة أخرى، سبباً في ثرائهم وقوة تأثيرهم، وأصبح محمد في أواخر أيامه
ضمن حكماء القصر، وقت أن انتقلت السلطة الحقيقية من الخلفاء إلى قادة جيوشهم الأتراك.
إ  ن الأعمال الفكرية لبني موسى بن شاكر تمثل إسهامهم الرئيسي في نشأة العلم العربي، وقد
خصصوا معظم ثروتهم وكرسوا جهدهم للبحث عن أعمال الكّتاب القدامى، وأرسلوا بعثات إلى
بيزنطة لجلب مثل هذه المؤلفات إلى بغداد. ويقال إن محمدًا قام شخصيًا برحلة إلى بيزنطة،
ورافق المترجم المشهور ثابت بن قرة محمدًا عند عودته إلى بغداد، وبدأ عمله في منزل محمد.
واعتاد الإخوة الثلاثة أن يدفعوا حوالي ٥٠٠ دينار شهريًا لمجموعة المترجمين الذين عملوا
في بيت عالية، والأرجح أنهم كانوا أكثر العوامل المستقلة الفاعلة في تشجيع استيعاب الأعمال
الأجنبية وتمثيلها بالعربية، لكنهم أبدعوا أيضًا بأنفسهم أعما ً لا ابتكارية مهمة، وتذكر المصادر
أنهم صّنفوا حوالي عشرين كتابًا شملت رسائل في الرياضيات والفلك والميكانيكا، لم يبق منها
سوى ثلاثة كتب، أحدها في الأغلب لأحمد، وهو كتاب قيم في الميكانيكا والآلات البارعة بعنوان
.« كتاب الحيل »
ويعد يوحنا بن ماسويه الطبيب البارز (ت ٢٤٣ ه) أحد رعاة حركة الترجمة الذين ساعدوا
على ازدهاره في القرن الثالث الهجري، وذلك بتدعيمها ماديًا وعن طريق تشجيع النقلة
المعاصرين له، فُترجمت باسمة الكثير من الكتب، وبخاصة الطبية منها، بالإضافة إلى دوره
كمترجم لعدد من مؤلفات اليونانية. ومن جهة أخرى كان ابن ماسويه أحد الذين ساهموا في نقل
المخطوطات اليونانية من القسطنطينية عن طريق البعثات التي كان الخليفة المأمون يبعث بها
إلى هناك لانتقاء أهم ما خّلفه اليونان من تراث في مختلف العلوم والعودة بها إلى بغداد، ثم
العمل على ترجمتها إلى العربية على يد يوحنا نفسه، أو على يد غيره من النقلة الأكفاء.