وإحنا داخلين على الشهر الثالث من أزمة وباء الكورونا، بدأت ملامح الأزمة الاقتصادية العميقة تظهر من خلال أخبار خطط تسريح مئات الآلاف من الشركات الأكثر تضرراً بسبب الأزمة زي شركات الطيران وكل الشركات المرتبطة بيها زي شركات تصنيع الطائرات وتصنيع محركات الطائرات وشركات السياحة والشركات اللي بتملك سلاسل المطاعم والمؤسسات المالية المرتبطة بكل القطاعات دي.


فكرة الاقتصاد في العالم قائمة على تتابع دورات الازدهار ودورات الكساد لأسباب كتير من بينها توفر السيولة وحجم النقد الموجود تبعاً لمعطيات حجم الاستثمار وحجم الادخار اللي بتلعب فيها أسعار الفائدة على الودائع أو القروض عامل مؤثر. وبالتالي ممكن نرسم منحنى لدورات الازدهار الاقتصادي والكساد مبني على معدل توفر حجم الدين ودة لأن حجم الدين بيجبرنا نستهلك أكثر مما نمتلك في أوقات الدفع، وبيجبرنا نستهلك أقل مما نمتلك لما يكون علينا السداد. الدورات الاقتصادية المبنية على حجم الدين بتمشي في مسارين: الأول على المدى القصير وبيمتد ما بين ٥ إلى ٨ سنوات، والثاني على المدى الطويل وبيحصل خلال مدة ما بين ٧٥ إلى ١٠٠ سنة..


في ٢٠٠٨ لما حصلت الأزمة المالية، كانت البداية من أزمة القروض العقارية في أمريكا واللي تطورت لانهيار مؤسسات مالية بحجم ليمان براذرز. ولما الأزمة حصلت كان التدخل المتوقع من البنوك المركزية في أوروبا وأمريكا هو خفض الفائدة إلى مستويات تقترب من الصفر وأحياناً الصفر نفسه، علشان يعمل سيولة في السوق. ولما الوسيلة دي بتفقد قدرتها على إحداث تغيير إيجابي في السوق بيتم اللجوء لأربع وسائل تانية وهي: ١. خفض الانفاق الحكومي فيما يعرف بالتقشف. ٢. إعادة هيكلة الديون واعتبار بعضها معدوم من خلال إعلان الإفلاس. ٣. إعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب. ٤. طبع فلوس جديدة.


التقشف مشكلته إن الإنفاق الحكومي لما يقل، قدرة الناس على الإنفاق بتقل وبالتالي الاستهلاك بيقل وبالتالي المزيد من المصانع والشركات إيرادتها بتقل وبتمشي ناس ونسب البطالة بتزيد وهكذا حتى الانتقال من مرحلة الركود إلى مرحلة الكساد. إعادة هيكلة القروض مشكلتها إن دة بيصنع مشكلة سيولة عند الدائنين بسبب عدم قدرة المدينين على السداد. طبع فلوس جديدة بيؤدي إلى أن تفقد العملة قيمتها وبالتالي يؤدي إلى التضخم في الأسعار. أما توزيع الثروات من خلال الضرائب المفروضة على الأغنياء لصالح الفقراء فلا يحدث لأن الأغنياء هما اللي بيتحكموا أو يتحالفوا مع ماكينة اتخاذ القرار بتحديد نسبة الضرائب.


لو حصل إن الوسائل الأربعة المذكورة فوق تم التعامل معاها بمهارة وتوازن وتم استثمارها في رفع نسبة الدخول وفي رفع أعداد الناس اللي عندهم وظائف، ممكن ساعتها نسبة النمو في الدخل تتخطى نسب الدين ويرجع الاقتصاد يشتغل والمنحنى الخاص بالخروج من الكساد يبدأ في الصعود. في العادة مرحلة التوقف عن النمو والكساد بتستمر من سنتين إلى ثلاث سنوات، بينما مرحلة إصلاح الاقتصاد وإعادة للعمل والخروج من الكساد بتستمر من ٧ إلى ١٠ سنوات. وبالتالي هناك عقد كامل تقريباً بيضيع في أوقات اقتصادية صعبة لحد ما الاقتصاد يعود مرة أخرى للنمو، ودة بيسموه الاقتصاديين: العقد الضائع!


في ٢٠٠٨ العالم تعرض لأزمة مالية كبيرة. الحكومات الغربية ومن بينها الحكومة البريطانية قررت اتباع سياسة التقشف. لكن ما حصلش إعادة توزيع للثروات من الفئات الأغنى للفئات الأقل. أسعار الفائدة كانت منخفضة ولكن الانتاجية والكفاءة الاقتصادية كانت أقل من قدرة الاقتصاد على الخروج من الديون الهائلة اللي اقترضتها الحكومات لإنقاذ البنوك من الانهيار!
ثم في اللحظة اللي العالم اعتقد إنه بدأ يخرج من العقد الضائع اللي أعقب أزمة ٢٠٠٨، رغم إن العلاج لم يكتمل، جاءت الكورونا وتوقفت الأرض وتوقف معها الاقتصاد وكدة بدأنا أول خمس دقائق في مرحلة الركود اللي من المحتمل أن تقلب بكساد طويل وهو ما يعني عشر سنوات كمان على الأقل من محاولات الخروج منه.


طيب أيه اللي ممكن يتم عمله لتجنب دخول الكساد أو إطالة مرحلة الازدهار..


اتباع ثلاثة قواعد بينصح بيها الاقتصاديين وهي: ١. ألا تجعل نسبة نمو الدين تكون أسرع من نمو الدخل لأن في النهاية الدين حيكون قادر على تدمير أي نمو اقتصادي. ٢. ألا تجعل مستوى نمو الدخل يكون أسرع من نمو الانتاجية لأن دة معناه انخفاض الكفاءة الاقتصادية وهجرة الوظائف للمناطق اللي بتتمتع بمستوى أجور أقل. ٣. العمل على رفع الانتاجية لأن على المدى البعيد دة اللي بيفرق في قدرة الاقتصاد على الصمود في مراحل الكساد وعلى المنافسة في مراحل الازدهار..


رغم إن الأمور الثلاثة معروفة لكل صناع السياسات الاقتصادية في العالم ولكثير من صناع القرار لكن القليل من النماذج هي اللي بتنجح فيها، ودة لأن فيه دول كتير، المتحكمين بصناعة القرار الاقتصادي بيستفيدوا من الاستيراد حتى لو على حساب تدمير الانتاجية محلياً من خلال خفض الكفاءة الاقتصادية. لبنان على سبيل المثال تعتبر نموذج مهم. بلد لا يتمتع بكفاءة اقتصادية لأن مستوى الأجور أعلى من الانتاجية وبالتالي الكفاءة أقل والقدرة على المنافسة أقل وبالتالي حجم الاستثمار الأجنبي أقل وصناع القرار بيستفيدوا من الوضع القائم وهناك نسب مرتفعة من الفساد المالي وبالتالي الأزمة الاقتصادية والمالية أكبر من قدرة الناس على الانفاق والعملة المحلية بتنهار أمام الدولار والتضخم نسبته مرتفعة جداً وبالتالي القدرة على المنافسة تقل زيادة، وكل دة يؤدي إلى حلقة مفرغة من الانهيار المالي والاقتصادي. في مارس اللي فات قررت الحكومة اللبنانية عدم سداد سندات تبلغ قيمتها 1.2 مليار دولار أمريكي بفائدة 6.375 في المئة من أجل حماية الاحتياطي من العملات الأجنبية.. دة معناه أن أي حد حيفكر ألف مرة قبل ما يسلف الحكومة اللبنانية من خلال شراء سندات حكومية، ولو حصل وقرر يسلفها حيكون بنسب فائدة مرتفعة للغاية لأن المخاطرة عالية. ودة معناه نسب أقل من تدفق النقد الأجنبي من خلال الاستثمار وبالتالي زيادة حدة الأزمة المالية والاقتصادية وانهيار أكبر للعملة المحلية.


الوضع الحالي للاقتصاد العالمي صعب وسوف يزداد صعوبة. شركات كبيرة جداً في صناعة الطيران بتقرر تسريح عشرات الآلاف من موظفيها زي بريتش أيرويز وفيرجين أتلانتيك، والتأثير بيمتد لشركات صناعة الطائرات زي بوينغ الأمريكية وأيرباص الأوروبية ورولز رويس البريطانية لصناعة المحركات، وطبعاً التأثير بيوصل لقطاعات السياحات في العالم كله! ودة معناه نسب بطالة أعلى وقدرة أقل على الاستهلاك وبالتالي سيولة أقل وانكماش في الاقتصاد ممكن يصل إلى ١٥ في المئة تقديرات الاقتصادي المصري محمد العريان.


الكلام دلوقتي إن الأزمة الاقتصادية اللي ممكن نطلع بيها بعد الكورونا حتكون أكبر من الأزمة المالية في ٢٠٠٨ واللي الاقتصاد العالمي مكانش تعافى بيها بشكل كامل. ولهذا فالاقتصادي البريطاني "تيم مور" قال إن الصدمة الاقتصادية الكبيرة اللي حتحصل في بريطانيا بسبب وباء الكورونا حتكون أعمق وأكبر في التأثير من أي حاجة اختبرها البريطانيين في ذاكرتهم المعاصرة! والكلام اللي قاله "تيم مور" ممكن نتخيله في بقية الدول في العالم طبعاً.
الغواصات الحربية لما تعرف إن فيه طوربيد بيتجه نحوها، بيحاول قائدها المناورة علشان يتفادى الطوربيد، لكن لما قدرته على المناورة تنتهي ويعرف إن الطوربيد حيلبس في الغواصة بيقول للبحارة على متنها: BRACE FOR IMPACT استعدوا للضربة، وبعدها يتم عزل المنطقة المضروبة من الغواصة وتغييم الضرر ومحاولة التعامل معاه.. الاقتصاد العالمي حالياً في مرحلة الاستعداد للضربة من طوربيد كورونا والتقديرات إن المنطقة المصابة حتكون كبيرة وإصلاحها حياخد وقت!