في عام 1924م في مصنع هاوثورن إليكتريك في شركة ويسترن إليكتريك التابع لشركة التلغراف والتليفون الأمريكية AT&T بدأ فريق العمل الإداري بقيادة "إلتون مايو" بإجراء مجموعة من التجارب على العاملين في الشركة لدراسة تأثير العوامل المادية والطبيعية المحيطة بالعمل، مثل: الإضاءة، وساعات العمل، والراحة، والإجهاد، والحوافز، والإشراف.
وقد كانت أول تجربة هي زيادة كثافة الإضاءة في محيط العمل؛ وقد أدى ذلك إلى زيادة الإنتاجية، ولكن العجيب أنه مع تقليل كثافة الإضاءة، زادت الإنتاجية أيضاً مما أدهش الباحثين، وقد تلى هذه التجربة مجموعة من التجارب الأخرى في تغيير العوامل المادية مثل: ساعات العمل والراحة، والإرهاق، وتقديم وجبات غداء مجاناً، والعجيب أن أيَّ تغييرات إيجابية أو سلبية، كانت تعكس ازدياداً في إنتاجية العاملين.
وبعد الاستفسار من العاملين عن السر وراء ازدياد إنتاجيتهم في كلتا الحالتين الإيجابية والسلبية، كان جوابهم أن السبب وراء زيادة إنتاجيتهم، هو شعورهم باهتمام إدارة المصنع بهم.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ المديرون يهتمون بأحوال الموظفين ورعايتهم والعناية بهم؛ مما ينعكس على أداء الشركة بالإيجاب والتقدم، وبدأت النظريات تتوالى في كيفية صنع بيئة مثالية محفزة للعمل والإنتاج والإتقان، وجاء علماء أفذاذ؛ ليرسموا ملامح وطرق صنع بيئة مثالية للعمل.
واليوم نجد شركات العالم الكبرى تتنافس في صنع بيئة مثالية محفزة للموظفين، وتعتبر تلك الميزة ميزة تنافسية كبرى بالنسبة لها، بل ويعتبرونها كفيلة ببقاء الشركة قادرة على النمو والتقدم في ظل التنافس الشديد، والأزمات الاقتصادية التي تحيط بالعالم في كل مكان.
تجربة فريدة:
إنها تجربة عملاق من عملاقة مواقع الإنترنت، إنه ذلك الموقع الذي يزوره ملايين من مستخدمي الإنترنت يوميًّا، بل ويعتبر من أقوى محركات البحث (Search Engine)، إنه موقع جوجل (Google).
ولهذه المؤسسة الكبرى تجربة فريدة في صناعة بيئة عمل محفزة، فقد أدركت جوجل (أنها تعتمد على الموظفين اعتماداً كليّاً في استمرار تقدمها على منافسيها، ولذا فقد أولت جوجل راحة الموظفين وتلبية احتياجاتهم أهمية قصوى؛ ولذا تصدرت مؤخراً الدراسة التي قامت بها مجلة "فورتشن" الأميركية حول أفضل مئة شركة للعمل فيها، وحصلت على المركز الأول بلا منازع.
ففي حرم الشركة الذي يقع في ولاية كاليفورنيا تتوفر جميع احتياجات الإنسان، حيث ينتشر في أرجائه 11 مقهى ومطعماً يقدمون مختلف أنواع المأكولات للموظفين مجاناً وطوال النهار.
وفي حرم الشركة أيضاً تنتشر حمامات السباحة، والصالات الرياضية، وصالات الألعاب الإلكترونية، والبلياردو وغيرها من وسائل ترفيهية، يرتادها الموظفون بين الفينة والأخرى، ففي جوجل لا توجد هناك ساعات معينة للعمل، والإنتاجية تقاس بالنتائج، وليس بالحضور والانصراف، كما تقدم جوجل خدمات الغسيل والكي مجاناً للموظفين، وهناك حلاقين ومراكز تجميل ومحلات للتدليك والعلاج الطبيعي، وكل هذا مجاناً!
وفي جوجل ليس هناك زي رسمي، فالموظف حر فيما يرتديه أثناء العمل، حتى وصل الحال ببعض الموظفين أن يعملوا بلباس النوم، أو "البيجاما" وهو أمر غير مستغرب من أناس يفضل بعضهم النوم في مكتبه الذي جُهِّزَ بغرفة خاصة لذلك، بالرغم من أن إدارة الشركة تشجع الموظفين على الموازنة بين حياتهم الشخصية والعملية.
يقول أحد المسؤولين في جوجل بأن إدارة الشركة تواجه صعوبات في إقناع الموظفين لمغادرة مكاتبهم في المساء والذهاب إلى بيوتهم، فهم يحبون عملهم أكثر من أي شيء آخر، وبالرغم من أن هذا الأمر يكلف الشركة أموالاً إدارية طائلة، كاستخدام الكهرباء والمأكولات وغيرها، إلا أن الشركة ترفض تقليص الصرف على هذه الجوانب؛ فراحة موظفيها هي أهم شيء بالنسبة لها.
بدأت جوجل قبل ثماني سنوات تقريباً بتمويل قيمته مليون دولار، واليوم تبلغ قيمة جوجل السوقية 150 مليار دولار، وهي على الرغم من ذلك لازالت تعمل بنفس الروح والثقافة المؤسسية، التي كانت تعمل بها قبل ثماني سنوات، حتى أصبح مشاهير العالم كرئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر، والفائز بجائزة نوبل للسلام عام 2006م محمد يونس وغيرهم يفدون على حرم الشركة؛ ليتزودوا بالطاقة الإنسانية التي تنبع من موظفي جوجل الشغوفين بالإبداع والابتكار).
والآن ماذا بعد جوجل؟
ولا تظنن ـ عزيزي المدير ـ أنه يهمنا أن نحاكي جوجل في كل ما تفعله، ولكن الذي يهمنا أن نعتني بصنع البيئة المثالية للعمل؛ لأنها اليوم أصبحت محور بقاء منظماتنا ونموها، ومن خلالها ستسطر ستصنع فريقًا ناجحًا وتحول نجاح مؤسستك من نجاحك مؤقت إلى نجاح دائم؛ لأنك ستخرج أفضل ما في الآخرين، تمامًا كما يصف بيتر دراكر نجاح أندرو كارنيجي فيقول: (لقد نقش على قبر أندرو كارنيجي مقولة تقول: "هنا يرقد رجل كان يعرف كيف يستعين في عمله بأشخاص أفضل منه").
رحلة بيئة العمل المثالية:
وسوف تأخذك هذه السلسلة، سلسلة "بيئة العمل الفعالة" في رحلة مقصدها هو إنشاء بيئة عمل مثالية وناجحة وفعالة، وذلك من خلال ثلاث محطات رئيسية، وهي:
1. المحطة الأولى: أهمية بيئة العمل المثالية: ونستعرض فيها الفوائد الخمسة لبيئة العمل المثالية، وهي الثمرات الخمس لإنشاء بيئة عمل فعالة في المؤسسات والمنظمات والهيئات.
2. المحطة الثانية: معايير بيئة العمل المثالية: وفيها نعرض إلى أهم معيارين لبيئة العمل المثالية وهما:
أ#. الرضا الوظيفي للعاملين.
ب#. وممارسات إدارة الموارد البشرية.
3. المحطة الثالثة: الطريق إلى بيئة العمل المثالية: وهو دليل إرشادي عملي واقعي لكيفية إنشاء بيئة عمل مثالية في أي منظمة أو هيئة أو مؤسسة، من خلال ثلاثة دعائم وهي:
أ#. دور القيم في إنشاء بيئة العمل المثالية.
ب#. دور القيادة في إثراء بيئة العمل المثالية.
ت#. دور الموظف في الوصول إلى بيئة العمل المثالية.
أفعال وليست أقوال:
وهذا هو أهم الشروط حتى تنجح ـ عزيزي المدير ـ في إنشاء بيئة عمل مثالية، فتحقيق ذلك لن يكون بكثرة الكلام والادعاءات، بل يحتاج ذلك إلى جهد وإجراءات تنفيذية في أرض الواقع، تنبت لنا شجرة البيئة المثالية؛ لكي يستظل بها موظفوك في عملهم، وتبدد كل المخاوف التي تحيط بمستقبلهم الوظيفي، وتذكر دائماً قول جوته: (المعرفة وحدها لا تكفي، لابد أن يصاحبها التطبيق، والاستعداد وحده لا يكفي، فلابد من العمل).
وأخيرًا:
وفي ختام الحلقة الأولى من تلك السلسلة، تذكر دائمًا ـ عزيزي المدير ـ أن صناعة البيئة الفعالة في مؤسستك تعني أن تبذر بذور النجاح، لتنبت شجرة التميز، التي ستقطف ثمارها أنت وشركتك، وستظل الأجيال من بعدك تقطف ثمارها أيضًا، فكما يقول أحد أعظم رجال الأعمال في العصر الحديث وأحد أكثر الأشخاص ثراء في العالم وارين بوفيت: (هناك إنسان ما يجلس تحت شجرة ما؛ لأن أحدهم غرس تلك الشجرة منذ وقت طويل).
أهم المراجع:
1. المفاتيح العشرة للنجاح، د.إبراهيم الفقي.
2. محاضرة عن "بيئة العمل في جوجل"، كلاوس شواب.
3. 25 قصة نجاح، رؤوف شبايك.
4. أفكار دراكر اليومية في الإدارة، بيتر دراكر.
5. الإدارة .. المفهوم والممارسات، قسم إدارة الأعمال، كلية التجارة، الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين.

بقلم: محمد أحمد العطار