(أصحاب العقول العظيمة يجب أن يكونوا مستعدين دائمًا ليس لاغتنام الفرص فحسب، ولكن صنعها أيضًا).
تشارلز كاليب كولتون
يعتبر أندرو جروف وبيل جيتس المهندسين الإداريين الرئيسيين للثورة الرقمية Digital، وبالرغم من أن الشهرة ذهبت إلى جيتس بسبب ثورته، ضمن الأسباب الأخرى، فإن جروف يستحق المرتبة الأعلى، ومما لا شك فيه أن جروف وجيتس عباقرة في التكنولوجيا، ولكن جروف كمدير تجاري قاد الموجة التي لا مثيل لها من الإبداع العظيم ـ والتي كان أبرزها المعالج الصغير Microprocessor ـ الذي أوجد نجاح إنتل Intel وأدى إلى تحقيق مبيعات أكثر بكثير من مبيعات ميكروسوفت، فلنتعرف على قصة حياتة وذلك من خلال العناصر التالية:
أولًا ـ بدايته:
سئل ألبرات أينشتين: (ما الهدف من الحياة الإنسانية؟)، فأجاب: ( لخدمة الآخرين، بالطبع).
روبين سبكيولاند.
لقد سطر جروف سجلًا لا يقدر بثمن بالنسبة للأمور التي تحرك إنتل وأعطى نصيحة واضحة ومشجعة للقادة الجدد الذين يريدون أن يحذوا حذوه، ليس هناك أعلى مرتبة من جروف في مجال الإدارة كمدير أو كمفكر استراتيجي أو كمرشد.
ولد أندرو جروف المعروف بـ " أندري " في المجر سنة 1936 تحت اسم اندراس جروف، وعندما دخل الألمان المجر خلال الحرب العالمية الثانية توارت عائلته عن الأنظار ثم عادت إلى الظهور بعد الهزيمة الألمانية، ومع ذلك بقيت المجر حتى وهي تحت الحكم السوفياتي دولة غير مضيافة، وبغلت ذروة الاحتلال السوفياتي للمجر في انتفاضة سنة 1956 التي قمعها السوفيات بوحشية بالغة، كان جروف في ذلك الوقت طالبًا وساهم في الثورة، لكنه وجد من الحكمة أن ينتقل إلى الولايات المتحدة.
أقام جروف مع عم له في نيويورك وبدأ يدرس الهندسة الكيماوية في " كلية المدينة " ثم تطورت حياته الناجحة على النمط الأميركي القليدي، وتألق جروف في دراسته، وعمل خادمًا من أجل دعم نفسه خلال المرحلة الدراسية، وعندما احتل المرتبة الأولى في صفه في سنة تخرجه انفتحت له أبواب جامعة ساوذرن كاليفورنيا في بيركلي حيث حصل في سنة 1963م على الدكتوراه، وتزوج جروف من امرأة مجرية ولديهما ابنتان.
قام جروف على نحو غير اعتيادي بدمج مهنته التجارية مع مهنته الأكاديمية، وفي الوقت الذي كان يعمل فيه كواحد من أنجح المدراء التنفيذيين في شركة " إنتل " فقد كان جروف أستاذًا في دراسات الإدارة الاستراتيجية في كلية إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، وكان في وقت سابق باحثًا في شركة فايرشايلدا كاميرا لكنه عمل في الوقت ذاته محاضرًا في بيركلي، ولقد أصبحت شركة " فايدشايلد " اسمًا أسطوريًا في تاريخ الإليكترونيات الصغيرة.
تعود جذور " فايرشايلد كاميرا " إلى التطور الشهير للترانزيستور في مختبرات بيل في سنة 1948م تحت إدارة وليام شوكلي، بعد مساعدة شوكلي في إقامة مختبر قام ثمانية من أعضاء فريقه بالتخلي عنه وأطلقوا مشروعهم الخاص، دُعي هذا المشروع مشروع " الخائنين الثمانية "، وحصل القائمون عليه على مليون ونصف المليون دولار من رجل الأعمال شيرمان فايرشايلد، ثم بدأوا ينتجون الموصلات الصغيرة، وقد ازدهر المشروع بشكل ملحوظ، لكن في سنة 1967م وبعد عشر سنوات من الشهرة المتزايدة والمشاكل الداخلية بدأ " الخونة " يذهبون كل في طريقه، وفي العام نفسه ترك المؤسسة روبرت نويس وغوردون مور علمًا أنهما كانا يعتبران من أفضل وأبرع المسؤولين فيها.
ولابد من القول إن الحياة الوظيفية البارعة لجروف غير منفصلة عن الإنجازات العظيمة لهذين الرجلين، ويعتبر نويس الأب لـ " الدائرة المدموجة "ـ وهي قطعة السيليكون التي تحتوي على العديد من الترانزيستورات، وهي في صدارة الأجهزة الإليكترونية التي غيرت العالم، وكان مديرًا عامًا في " فايرشايلد " بينما كان مور مديرًا في شركة الهندسة " آر أند دي ".
ولكن جروف لم يكن في سنة 1968م خبيرًا صناعيًا وبالكاد كان مؤهلًا ليكون " مدير العمليات " في إنتل، ومع ذلك فقد كان هو الرجل الذي قام بتحقيق التقدم لنفسه ولشركته، نظريًا، فإن بوب غراهام، وهو أيضًا من " فايرشايلد " ربما كان على وشك الإمساك بالوظيفة رقم ثلاثة في الشركة، لكن تأخر غراهام في القدوم إلى منصب مدير التسويق جعل جروف يستأجر " عشرات المهندسين والمدراء .... وصار ولاؤهم الأول له "، ( من كتاب Inside Intal 1996 لمؤلفه تيم جاكسون )، ويقول جاكسون إن جروف أخذ مسؤوليات أكثر من المعتادة، والواقع أنه عندما تبدأ شركة ما عملها فإن توزيع المسؤوليات تبقى عملية غير واضحة، ولذا فإن الشخص الحاذق، الحيوي، المتيقظ للتفاصيل، والذي هو على استعداد للقيام بالأشياء التي تركها الآخرون خلفهم، بإمكانه أن يصبح قويًا بشكل أكبر من متطلبات دوره الوظيفي، وبدون شك كان أندي جروف " رجل التفاصيل الأول ".
ثانيًا ـ أفضل مدير في العالم:
(العمل جزء من الحياة تمر فيه لحظات النجاح دون أن نلاحظها، اغتنم أكبر عدد ممكن منها، واحتفل بها).
وارين إي. بوفيت.
تعتبر السيرة الذاتية لأندري جروف من سنة 1968م قصة " إنتل " وكيف تطور ليكون " أفضل مدير في العالم "، وهو اللقب الذي أعطته إياه مجلة " فورتشن "، كان جروف في سنة 1974 ـ وهي السنة التي أطلقت فيه إنتل " المعالج الصغير 8008 " ـ مساعد الرئيس التنفيذي والرجل الثالث.
وفي ذلك الحين كان نويس أصبح المدير العام والوجه الأمامي للشركة، وهو الأمر الذي جعله أقل إنهماكًا في القرارات التكنولوجية والاستراتيجية، أما مور فقد كان الرئيس الأعلى التنفيذي بينما تولى جروف الإشراف على جميع الأمور الأخرى.
وفي سنة 1979م تم ترقية جروف إلى منصب الرئيس، وفي سنة 1987 تولى منصب المدير التنفيذي علمًا بأنه مع طول ذلك الوقت كان نويس ومور قد شارفا على الستين من عمريهما وحققا اكتشافات هائلة في مجال التكنولوجيا مثل أول فيشه chip للذاكرة وأول DRAM أي Dynamic Randon Access Memory أي: " الإستخدام العشوائي للذاكرة الديناميكية "، وأيضًا أول معالج صغير للبيانات، ومن المهم أيضًا القول إن جميع هذ الابتكارات تم استغلالها تجاريًا بشكل مربح، وهو الأمر الذي يستحق جروف عليه الثناء.
ومع خروج هذه الأدوات من المصانع، ارتفعت مبيعات وأرباح " إنتل " على نحو كبير للغاية، ولكن يجب القول إن هذا النجاح لم يكن سهلًا ولم يتحقق بدون جهود مضنية أو بدون أزمات، وعندما يتعلق الأمر بالجهود أوم التهديدات الجدية، كان جروف العنصر الذي يتحدى ويحارب ويصرخ والشوكة التي لا تخفف من الضغوط من أجل تحقيق النتائج المهمة لمكتبه المؤلف من غرفة صغيرة، كان جروف يحمل معه إلى الاجتماعات قطعة خشب صغيرة مكتوب عليها: " هل هناك سؤال أم خطاب؟ ".
ثالثًا ـ مفكر عملي:
(هناك دائمًا طريق مضئ في أصعب الظروف، فقط إذا تحرى المرء العمل الجاد والنظرة الثاقبة، فالأمر يرتهن برمته بمستوى تصميمك).
ليز موراي.
لم يقطع جروف خلال حياته المهنية علاقاته مع الأكاديميين ولجأ أيضًا إلى كتابة الكتب والمقالات في الصحف، وكان كتابه الأول Physics and Technology of Semiconductor Devices 1967 ، عن الحسابات والرياضيات، وفي سنة 1983م نشر كتابه High Output Management الذي لم يتطرق فيه إلى إنجازاته وأفكاره وإنما جعل منه كتابًا منهجيًا حول كيفية تفعيل الكفاءة الإدارية إلى الحد الأقصى.
في كل وضع صعب كان جروف يدمج بين القساوة الضرورية والتأقلم النادر، وكعادته فإنه في كتابه يقلب عمق النظر إلى نظرية دقيقة مبنية على الحقائق، وهذا المزيج ساعد على خلق ثروة كبيرة لمستثمري " إنتل "، ومن الطبيعي أن جروف ساهم في جني هذه الثروة ـ ففي سنة 1996م وحدها ـ جنى جروف نحو 95 مليون دولار من الأسهم، وفي العام التالي أصبح الأمين العام بالإضافة إلى المدير التنفيذي الأعلى، وفي سنة 1998م تخلى عن منصب المدير التنفيذي الأعلى لمصلحة كريغ باريت، وكان ذلك مفهومًا لأن جروف وصل إلى سن الثانية والستين وكان يعاني من سرطان البروستاتا.
وقد وفر مرض جروف عرضًا آخر على شخصيته الرائعة، لقد قام بإجراء الأبحاث الشاملة حول آخر المعلومات المتوفرة عن هذا السرطان قبل أن يتخذ قرارًا تجاه أفضل علاج له، ثم قام بنشر رواية كاملة وصريحة عن التجربة في مجلة " فورتشن "، وبإظهاره هذه الدرجة من التجديد بينما يهدده الموت فإن جروف أظهر شجاعة فائقة وفضولية علمية كبيرة.
كانت هذه المزايا مهمة في الحياة العملية لجروف، لم يكن مؤلف المعجزات التكنولوجية التي جاءت بها " إنتل " لكنه جعلها تحدث عبر أخذ وضبط المخاطر العظيمة علمًا أن إحدى " عجائبه" كلفت نحو بليوني دولار، ولا شك أن أجيالًا من المدراء ومن منتقدي إنتل سوف يشعرون بأنهم مدينون له لوسائله وفلسفته الإدارية التي يصفها بنزاهة ودقة بالغة.
وأخيرًا نختم بما قاله روبرت هللر: " قام جروف بتحليل خاص به ( لمعرفة ما الذي يقوم به المدراء "، وخلال يوم طويل أكثر من 12 ساعة، أمضى ساعة على الغذاء مع زملاء له في ( إنتل) وثلاثة أرباع الساعة إما وحيدًا أو مع شخص آخر وست ساعات في اجتماعات وساعتين في إعطاء محاضرة "توجيهية لموظفين محترفين" إعطاء وجمع المعلومات والتصرف كنموذج لهم، أما الأوقات في المكتب فقد كانت من أجل جمع المعلومات وصنع القرارات وحث الناس لسلوك اتجاه معين "، هكذا يعطي لنا أندرو جروف كيف يكون يوم المدير، فإما هو مع موظفيه يساعدهم في شئون عملهم، أو في مكتبه لجمع المعلومات لمساعدة الموظفين أيضًا، وهكذا يعطينا أندرو جروف نموذجًا مثاليًا للمدير الناجح على مستوى الشركات، فعليك عزيزي القارئ أن تتعلم منه.
أهم المراجع:
1- سلسلة عمالقة الإدارة .. الرواد الذين غيروا عالم الإدارة، أندرو جروف.
2- أفضل ما قيل عن الالتزام بالامتياز، كاثرين كارفليس.
3- الفوز، جاك ويلش وسوزي ويلش.
4- اضغط الزر وانطلق، روبين سبكيولاند.
5- لليوم أهميته، جون سي. ماكسويل.

بقلم: مصطفى كريم