يمثل المتقاعدون إحدى شرائح المجتمع السعودي التي تتنامى عاما بعد عام، ورغم ان هذا القطاع كلف الدولة والمجتمع الكثير بما انفق على تعليم وتدريب أفراده الا انه لم يستثمر بالصورة الامثل، فعند احالة الموظفين الى التقاعد المبكر او الاجباري فإن هذا يعني هدرا للطاقات المنتجة وتعطيلا لفريق من الموارد البشرية وخصوصا تلك الفئة من هؤلاء المتقاعدين الذين مازالوا قادرين على توظيف معارفهم واستخدام حصيلة خبراتهم، في وقت لا تزال نصف القوى العاملة غير سعودية. وقبل ايام اكتمل انضمام 21 ألف موظف مدني وعسكري في السعودية الى قائمة المتقاعدين ليرتفع عدد المستفيدين من خدمات التقاعد في البلاد الى 621 ألفا. «الشرق الأوسط» رصدت اوضاع شريحة المتقاعدين التي اصبحت اليوم بمنأى عن العمل والانتاج وهي قادرة عليه، كما تطرقت الى احدث دراسة تتناول الاوضاع الاجتماعية لغالبية المتقاعدين مع التركيز على الوضع المعيشي لهم وخصوصا الشريحة الدنيا منهم التي تقع تحت خط الفقر في مجتمع ميسور حيث ان قرابة 32 في المائة من المتقاعدين لا تتجاوز دخولهم في الغالب الحد الأدنى للمعاش التقاعدي وهو 1500 ريال. بعد انقضاء 33 عاما مع الطباشير ودفاتر التحضير وكراسات الواجبات ووسائل الايضاح والاقلام الملونة وضع المعلم «عبد الله. ص» حدا للركض اليومي لهذه المهنة، فبدلا من ان يستيقظ الساعة السادسة كل صباح متوجها الى مدرسته الابتدائية بجنوب الرياض ليعلم الصغار الحروف الهجائية والمد بأنواعه الثلاث والشدة والحركات ويتلو عليهم سورا من القرآن الكريم، اصبح المعلم الذي عرف في مدرسته باسم معلم الصبية واحدا من أشهر بائعي الخضار في سوق عتيقة بالرياض، بعد ان قرر بعد اكثر من ثلث قرن التقاعد من سلك التدريس ليحصل على راتب تقاعد شهري قدره 9650 ريالا، يمثل حصيلة ركضه طوال العقود الثلاثة الماضية، ولأن ظروف الحياة اصبحت صعبة فقد خصص هذا المبلغ للصرف على كماليات المنزل الذي يضم 9 أفراد 6 منهم يملكون هواتف نقالة باسم والدهم تصل مبالغ فواتيرها اكثر من 6 آلاف ريال في الفترة الواحدة، والباقي خصصه لشراء اللحوم والفواكه والخضار للمنزل شهريا واعطى بطاقة الصراف الى زوجته لتتصرف بمبلغ التقاعد كيفما تشاء.
وكان المعلم قبل التقاعد بأيام يستيقظ فجرا ليزور سوق الجملة للخضار والفواكه القريب من مدرسته ويعود محملا سيارته (البيك أب) بأنواع مختلفة من الخضار والفواكه ليبيعها على زملائه المعلمين بهامش ربح بسيط، وعند تقاعده قبل اسابيع اصبح له محلا في السوق، وبدلا من ان ينادي طالبا ليقرأ كلمة «قرأ، كتب، رفع، دجاج، إبرة، أُخت»، اصبح يردد «منقا هندي، خوخ تركي وتفاح أميركي، خيار سكر وعنب طائفي وبرتقال مغربي وموز يمني وكيوي وليمون ينضح ماء»، ليتجمع حوله المشترون ويدفعون له مبالغ تضيق جيوبه الثلاث عن استيعابها، وحينها يتذكر القلم الأحمر والصغار وبقايا الحبر الأحمر والأزرق في جيبه الامامي وهم يتحلقون حوله لتصحيح كراساتهم، وممحاة السبورة المليئة بالطباشير الملونة التي كادت ان تسبب له مرضا صدريا عندما ينفضها كل اسبوع. هذا المعلم نموذج نادر للمتقاعدين الذين فضلوا ترك اعمالهم اما بقوة النظام (التقاعد الاجباري) او بالتقاعد المبكر، لكنهم ظلوا حبيسي جدران منازلهم مكتفين بالراتب التقاعدي دون ان يعوا ان التقاعد هو مرحلة جديدة من عمر الانسان تقتضي منهم ان يخضعوا لتجربة جديدة من خلال البحث عن اعمال جديدة تدر عليهم دخلا آخر في ظل ظروف الحياة والمسؤوليات والاعباء التي تقع على كاهلهم. في المقابل يقول المهندس أحمد الغامدي الذي فضل التقاعد المبكر بعد 21 سنة من العمل الحكومي انه بعد اسابيع من التقاعد وجد نفسه في وضع لا يسر، فقد تحولت مهنته الى سائق للأسرة يقوم بايصال الأبناء الى مدارسهم، ثم يعود الى المنزل ليتناول الفطور مع زوجته وهو ما افتقده طوال العقدين الماضيين، حيث كان يتناول افطاره في العمل قبل تقاعده.
ويضيف، أن يومه اصبح طويلا كونه لا يحب القراءة ولا يمتلك مكتبة في منزله فيضطر الى ركوب سيارته والدوران لقطع الوقت، معتبرا ان هذا الامر لن يطول فهو يفكر بفتح محل تجاري ليتسلى به ويساعده في زيادة دخله من راتبه التقاعدي الذي يبلغ 6500 ريال، وقد هداه تفكيره الى فتح محل لطحن الحبوب بعد ان علم ان محلا بالقرب من منزله يملكة عجوز وله خبرة في انواع القمح والحبوب الاخرى يجد اقبالا كبيرا من طالبيها، ويتمتع المحل بدخل جيد مما اغراه على تقليد مثل هذا النشاط التجاري ليقوم بوزن القمح والفول بدلا من اعماله السابقة عندما كان يستخدم الناظور والمسطرة والفرجار في انهاء أعماله. ويختصر «خالد. ع» المتقاعد منذ شهرين معاناة المتقاعدين الذين لم يفكروا بايجاد عمل لهم بعد تقاعدهم بقوله: لقد زاد وزني 5 كيلوغرامات بسبب الفول الذي اتناوله كل صباح مع رغيف من الخبز الشعبي المعروف باسم التميس، ثم الحقه بعد ساعات بصحن أرز مع لحم الحاشي، ثم عشاء في ساعة متأخرة مع الزملاء السابقين في احدى الاستراحات التي استأجرناها طوال العام، ليكون قاسمها المشترك «المندي». اما المهندس عبد الرحمن الفضلي الذي تقاعد مبكرا بعد 22 عاما من الركض في مصلحة المياه والصرف الصحي بالرياض ويعمل حاليا متعاقدا مع شركة الاتصالات السعودية فيقول: ان اقدامه على التقاعد المبكر هو نوع من التجديد وتغيير مجال الخبرة. وارجع اسباب التقاعد المبكر الذي يقدم عليه الكثير من الموظفين سواء كانوا عسكريين او مدنيين الى البحث عن تغيير الخبرة ومجال العمل، او تحسين الوضع المادي من خلال الالتحاق بوظيفة او عمل يدر دخلا جديدا يفوق المرتب، الذي كان يتقاضاه قبل التقاعد او مرتب التقاعد، ووجه الفضلي نصيحة للموظفين الذين ينوون التقاعد المبكر او الذين يتقاعدون بقوة النظام، بعدم الركون بعد التقاعد بل يجب عليهم البحث عن عمل آخر سواء في القطاع الخاص او أي عمل فردي. وقال مازحا بأن اغلب المتقاعدين الذين يتوقفون عند التقاعد ولا يبحثون عن عمل آخر يصابون بالخرف المبكر او بـ«الهذراة» في التعبير الشعبي السائد. من جانبه اعتبر عبد الله الشبيب الذي تقاعد قبل عامين ان التقاعد الذي كان شبحا مخيفا لدى السعوديين في العقود الماضية اصبح اليوم سمة حضارية، فكثير من الدول ترى في المتقاعدين انموذجا للعطاء والبذل بعد سنوات من الركض، مشددا على ان المتقاعد يجب ان ينظر الى واقعه الجديد نظرة أمل وتفاؤل، وأن يبحث عن عمل آخر لاستمرار الحيوية، محذرا المتقاعدين من جعل التقاعد مشجبا للركون والاستسلام وان يظل المتقاعد حبيس جدران المنزل. وارجع السبب في اقدام الكثيرين الى طلب التقاعد الى صعوبة الحياة وعدم قدرة الموظفين على تحمل اعبائها ومتطلباتها، مما يجعل البعض يقدم على التقاعد طلبا لتحسين وضعه من خلال ايجاد عمل آخر، اضافة الى القضاء على ملل الوظيفة السابقة وخصوصا للذين يخدمون سنوات طويلة وفي عمل يأخذ طابع الرتابة اليومية. مؤكدا، ان مربط الفرس في التقاعد المبكر هو ضمان وجود فرصة اخرى بعد التقاعد لتجديد العمل واكتساب خبرات جديدة وتحسين الوضع المادي للشخص. وأوضح ان ظروف الحياة ومتطلباتها والاعباء المالية على رب الأسرة جعلت الانسان يفكر في التقاعد المبكر والبحث عن عمل آخر يدر دخلا، وقال مازحا ان الناس كانوا قبل عقود يقدمون العزاء للمتقاعد، اما الآن فان الامر اصبح مختلفا فالاقارب والاصدقاء والزملاء يحتفون بالمتقاعد، ويعتبرون انه انعتق من وضع سابق الى وضع جديد اكثر اشراقا وأملا. ويذكر علي السليمان الذي تقاعد قبل شهر من عمله كموظف في احدى الوزارات الخدمية بأنه لم يقدم على هذه الخطوة الا بعد ان امّن لنفسه عملا في احدى الشركات، حيث كان يعمل محاسبا في دائرة حكومية لمدة 27 عاما، ويتقاضى حاليا راتبا تقاعديا وسيدخل في حسابه الشهر الحالي راتب مضاعف من عمله الجديد في احدى الشركات الخاصة. ولا يشعر العامل السعودي ابو ابراهيم، الذي تقاعد مؤخرا براتب لا يتجاوز 1500 ريال، حيث عمل حارسا في احدى المدارس لمدة 22 عاما بالضيق وهو يبحث عن منزل يستأجره لايواء اطفاله الـ7، فهو يردد دائما «الرزق على الله ولن نموت جوعا»، وقبل ايام قامت احدى الجمعيات الخيرية بعد ان علمت بظروفه باستئجار منزل له وتأثيثه وهو يأمل ان يحصل على سكن خاص يملكه.
* 21 ألف موظف دخلوا قائمة المتقاعدين
* انضم 21 ألف موظف مدني وعسكري في السعودية الى قائمة المتقاعدين حتى شهر سبتمبر (ايلول) الماضي ليرتفع عدد المستفيدين من خدمات التقاعد نحو 621 ألف مستفيد. وتقدر المبالغ التي تصرف لهم شهريا بـ1250 مليون ريال، من خلال فروع كل من البنك العربي الوطني وشركة الراجحي المصرفية وبنك الرياض البالغ عددها 218 فرعا. وكانت الحكومة السعودية قد أولت منذ نصف قرن تقريبا اهتماما بشريحة المتقاعدين عبر استصدار مرسوم ملكي بانشاء ما يعرف بصندوق التقاعد او المؤسسة العامة للتقاعد واتبعته بسلسلة من الاجراءات والخطوات الهادفة الى توفير كل ما يلزم للمتقاعدين من امور مالية وصحية واجتماعية. ويحظى البنك العربي الوطني بعلاقات وطيدة مع عملائه من شريحة المتقاعدين، كما يدرك أهمية هذه الشريحة المتميزة من قاعدة العملاء، حيث تستحوذ هذه الفئة من العملاء جل اهتمام المسؤولون في البنك، الذين يحرصون على استغلال كل الامكانات المتاحة لتوفير كل ما من شأنه راحتهم وخدمتهم.
* أوضاع لا تسر أوضحت أحدث دراسة ميدانية عن المتقاعدين وتناولت أوضاعهم وخدماتهم وكيفية الاستفادة من خبراتهم والخصائص الديموغرافية والوظيفية لهم، أن قرابة 53 في المائة من عينة الدراسة تتراوح أعمارهم حين التقاعد بين 51 ـ 60 سنة، و40 في المائة لم تتجاوز أعمارهم 50 عاماً، وفي وقت الدراسة التي صدرت هذا العام عن معهد الادارة واعدها كل من الدكتور علي السلطان أستاذ الادارة العامة بالمعهد وابراهيم بن طالب عضو هيئة التدريب بالمعهد، فان 35.6 في المائة من المبحوثين تتراوح أعمارهم بين 51 ـ 60 سنة وقرابة 80 في المائة لم تتجاوز أعمارهم 64 عاماً. وأشار الباحثان بخصوص عدد سنوات الخدمة عند التقاعد إلى ان 35 في المائة من العينة تقل خدماتهم عن 30 عاماً، ونحو 30 في المائة تتراوح خدماتهم بين 30 واقل من 40 عاماً، ومكملي سنوات الخدمة 40 عاماً لا تزيد نسبتهم عن 3 في المائة من العينة.
وأظهرت الدراسة ان نحو 24 في المائة من أفراد العينة يعولون اقل من 5 أفراد، و45 في المائة منهم يعولون بين 5 الى اقل من 10 أفراد و25 في المائة يعولون من 10 الى اقل من 15 فرداً، وان من يعولون أكثر من 15 فرداً لا تزيد نسبتهم عن 6 في المائة، اما الذين وضحوا تخصصاتهم الأكاديمية خلال الدراسة فقد وصلوا قرابة 48 في المائة، منها 32 في المائة في العلوم الاجتماعية والانسانية وقرابة 16 في المائة في العلوم التطبيقية. وبخصوص الوظيفة للمتقاعدين بينت الدراسة ان قرابة 29 في المائة من المبحوثين يعملون في مستوى اشرافي واستشاري قبل التقاعد، وان قرابة 48 في المائة من العينة كانوا يشغلون وظائف تنفيذية، كما ان الجانب المتعلق بتطبيق طبيعة العمل قبل التقاعد يوضح أن قرابة 22 في المائة من العينة يعملون في حقل التعليم والتدريب، في حين أن قرابة 19 في المائة يعملون في المجالات الادارية التنفيذية منها والقيادية، وجاءت المراتب الوظيفية التي شغلها المجيبون على عينة البحث قبل التقاعد على نحو 1.66 في المائة شغلوا المراتب 14 ـ 15، و19.50 في المائة شغلوا المراتب 11 ـ 13، و36.51 في المائة شغلوا المراتب 6 ـ 10، و30.29 في المائة شغلوا المراتب الخامسة فما دون. أما الرتب العسكرية التي شغلها المجيبون من عينة البحث قبل التقاعد جاءت وفقاً للنسب التالية: 1.59 في المائة شغلوا الرتب من عميد ـ فريق، 6.36 في المائة شغلوا الرتب من ملازم ـ عقيد، 92.05 في المائة شغلوا الرتب من جندي ـ رقيب أول. وفي ما يتعلق بمكان العمل أوضحت الدراسة ان قرابة 88 في المائة يعملون في المدن، وقرابة 6 في المائة يعملون في القرى، و6 في المائة يعملون في الهجر وضواحي المدن.
* التقاعد المبكر
* ذكر الباحثان أن دوافع التقاعد المبكر لدى المدنيين والعسكريين (قرابة 32 في المائة من المدنيين و16 في المائة من العسكريين) اشاروا الى ان الدافع الأول للتقاعد المبكر الرغبة بالعمل الحر، غير ان قرابة 18 في المائة من المدنيين و30 في المائة من العسكريين اشاروا الى ان تحسين مستوى الدخل هو الدافع الأول للتقاعد المبكر. وحول الخدمات المقدمة من المؤسسة العامة للتقاعد وافق 84 في المائة من المبحوثين على انتظام صرف المعاشات الشهرية للمتقاعدين بسهولة ويسر من قبل البنك العربي الوطني، وان 51 في المائة تقريباً يوافقون على حرص المصلحة على زيادة مزايا المستفيدين من خدماتها، و42 في المائة من العينة تقريباً يرون وجود حاجة لتأسيس فروع للمؤسسة في المناطق المختلفة من البلاد لتقديم بعض الخدمات الضرورية. وفي ما يتعلق باتجاهات المبحوثين حول كفاية الحد الأدنى للمعاش التقاعدي 1500 ريال لا يرى 88 في المائة من عينة الدراسة ان هذا المعاش يوفر حد الكفاية المعيشية للمتقاعد وأسرته، وان 36 في المائة من المبحوثين تقريباً لا يرون ان المؤسسة العامة للتقاعد تربط مزايا المتقاعدين بالقدرة المالية للصندوق، وذكر قرابة 73 في المائة من عينة البحث ان خدمات المؤسسة في الوقت الحاضر تنحصر بمجرد صرف المعاشات الشهرية للمتقاعدين. وبخصوص الخدمات المتوقعة من المؤسسة العامة للتقاعد المح قرابة 90 في المائة من المجيبين ان الخدمات المطلوبة والمرغوبة من قبل المتقاعدين هي الخدمات الصحية، كما طالب قرابة 90 في المائة من المبحوثين المؤسسة بايجاد سبل تخفيض لتأمين الاحتياجات الضرورية للمتقاعدين واعفائهم من أي نوع من انواع الرسوم الحكومية، وأن قرابة 89 في المائة من العينة يطالبون مؤسسة التقاعد بايجاد سكن يناسب احتياجات المتقاعدين، وتوفير فرص عمل وورش وتدريب للراغبين بالعمل من المتقاعدين، و70 في المائة يطالبون المصلحة بافساح حق المشاركة في رسم السياسة الادارية والاستثمارية ودخول ممثلين عن المتقاعدين في عضوية مجلس ادارة المؤسسة، كما اجمع 90 في المائة على ضرورة تأسيس جمعية للمتقاعدين.
الرياض: بدر الخريف وتركي المقباس
رد مع اقتباس
