كثيرة هي المواضيع التي تزخر بها الساحة الوطنية بعضها مهم والبعض الآخر هامشي، إلا أن هناك صعوبة لدى البعض في التفريق بينها، فأصبح هناك خلط بين الأولويات حتى أن بعض القضايا تأخذ حيزا كبيرا من الانتباه والنقاش والمداولات والوقت دون أن يكون لنتائجها تأثير كبير على مصالح الأمة العليا أو حتى الدنيا. ويبدو أن بعض الموضوعات تأخذ أهميتها من الصراعات الفكرية والفلسفية الدائرة وبشدة بين أطراف وتحزبات في المجتمع حيث تشكل ساحة للتنافس في جذب انتباه عموم المجتمع وتأكيد المواقف والإفصاح عن التوجهات والرؤى. وهكذا تحولت قضايا وموضوعات إلى رموز وعناوين براقة تستخدم في تأجيج نار الصراع والتناحر بين الأطراف الفكرية بدلا من أن تكون مستندة إلى المصلحة العامة وما يفيد المجتمع من خلال نقاشات موضوعية تعتمد على الحقائق والأرقام. وهذا يبدو واضحا عندما تطرح قضايا فنية صرفة لا تتطلب النقاش والاختلاف إذ إنها قضايا محسومة بناء على حسابات دقيقة ومعايير كمية ونتائج مطلوبة أو أدلة شرعية صريحة تتعلق بثوابت وأحكام قطعية. إلا أن البعض يأبى إلا أن يناكف ويحاور ويتوسع في الموضوع ويحمله ما لا يحتمل محاولة في الإعلان عن توجه فكري وإرسال رسائل واضحة للمعسكر الآخر في أن لهم اليد الطولى وأنهم يحكمون السيطرة على مجريات الأمور وأن قيمهم وتوجهاتهم وفلسفتهم هي التي تسود وأن منهجهم الأحق بالاتباع وأن ليس على الآخرين إلا التراجع والانصياع. وفي ظل هكذا مناخ تربى الناس في النقاش على أساس تحزبي وتفكير نمطي دون إعمال العقل وحساب العواقب والربط بين المدخلات والمخرجات والحكمة في الموازنة بين الأمور. لقد طغى الحماس المنفلت والعاطفة الجياشة والتفكير المنغلق على أسلوب النقاش حتى تحول إلى أشبه ما يكون بحوار الطرشان، فكل فريق لدية أحكام مسبقة عن الآخر كأنها طود كبير وسد منيع يحول دون الاتصال وتبادل المعلومات والأفكار والتعلم بين الأطراف المختلفة فيم يحقق المصالح المشتركة ويرتقي بالوطن إلى مستويات أعلى من النضج الحضاري. هذا النوع من التنافس الذي يعتمد على مبدأ " أنت تربح، إذن أنا أخسر!" وبالتالي يكون هم كل طرف الحرص على عدم ربحية الآخر! بدلا من توجيه التفكير والطاقات والموارد نحو البحث عن الربحية وتحسين الوضع بغض النظر عن مواقف الآخرين. إنها بلا شك منافسة مدمرة ومهلكة تقضي على الحرث والنسل وتجعل المجتمع كمن يطلق النار على قدمه! المشكل هنا هو أن التفكير وجه نحو التحطيم والتهميش وتسطيح آراء الآخرين بدلا من البحث عن الجوانب الإيجابية والمصالح المشتركة وحسن الظن والتفكير الجماعي.
وقد يتساءل القارئ الكريم عن المقصود في القرار الفني والقرار الجماعي والفرق بينهما. القرار الفني قرار لا يرتبط بالآراء والتفضيلات والتوجهات والقيم، وإنما هو قرار موضوعي صرف يرتكز على معايير مهنية، فنية، علمية يحتمل التوافق بين الأطراف أكثر من الاختلاف، بينما القرار الجماعي أو ما يمكن تسميته السياسي فهو على العكس تماما فليس ثمة اتفاق بل تفاوت في وجهات النظر والمصالح والرغبات والاحتياجات والقيم بين المشتركين في صنع القرار، وبالتالي فالصح والخطأ والمنفعة والمضرة مسألة نسبية تختلف وتتفاوت من فرد إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى. ولنضرب مثلا يوضح هذا الفرق، لو كانت هناك مجموعة من الناس في غرفة وكان الجو حارا ومكيف الهواء معطلا قد لا يكون من الحكمة التداول والنقاش فيما بينهم حول المشكلة وطريقة حلها، إذ إن المشكلة وحلها واضحان وهو إصلاح مكيف الهواء. قد يقول قائل إن هناك حاجة في مناقشة تحديد من يصلح مكيف الهواء. هذا يقود إلى الحديث عن أسلوب ومنهج عملية صنع القرار في تحديد متى يكون بالمشاركة ومتى يلزم أن يكون إجراء روتينيا. ولذا هناك قرارات تتطلب تداخل جميع الأطراف المعنية بالقضية إذا كانت تهم شريحة كبيرة من الناس والموضوع محل اختلاف في وجهات النظر ويمس قيما وثوابت لدى أفراد المجتمع وليس قرارا فنيا يستلزم رأي خبير أو متخصص.
أحد الموضوعات الفنية التي أقحمت في نقاش ومداولات مجلس الشورى وتحول إلى قرار جماعي / سياسي هو تحديد يومي الجمعة والسبت نهاية لعطلة الأسبوع بدلا من الخميس والجمعة. صحيح أن الناس لا يحبذون تغيير ما ألفوه ويرغبون في الاستمرار عليه وهو أمر طبيعي، لكن أن يتحول ذلك إلى ثوابت راسخة في قلوبهم وعقولهم ويتمسكوا بها حتى ولو على حساب منافع مرجوة ومصالحة محققة للمجتمع، فهذا ما لا يستقيم مع الحكمة ولا يتوافق مع العقل. الكثيرون ممن يرفضون تغيير يومي الإجازة، لا يبحثون في نقاشهم المنافع والمصالح والنتائج المرجوة، وإنما تكون مبرراتهم وحججهم على أساس رمزي شكلي في أن هذا التحول فيه الخروج عن الهوية أو اتباع الآخرين! ولو فكر الواحد منا مليا لوجد أن هناك الكثير مما يمكن تفسيره على إنه اتباع الآخرين من المأكل والملبس والمركب والسكن والأثاث وحتى التعليم والصحة وغيرهما من السلع والخدمات التي هي في الغالب من نتاج حاضرة أخرى. التمسك بالثوابت والقيم لا يعني بأي حال من الأحوال التمسك بالقشور والمظاهر الهامشية وإنما الأصل هو في سلوك وأخلاقيات الفرد تجاه ما يدور حوله من أحداث وطريقة تفاعله مع الناس والحيوان والجماد. إن الفهم الصحيح للإسلام والفكر المستنير يقود إلى السلوك القويم ويجعل الفرد أنموذجا يحتذى به وداعيا للآخرين لاتباع منهجه عن قناعة، بدلا من أدلجة التفكير ومحاصرة النفس والآخرين بالقول لا بالعمل، بالفكر لا بالسلوك، ليتحول تفكير الشخص إلى الجمود والسكون دون البحث عن حلول وبدائل جديدة واستكشاف أوضاع وآفاق أرحب واستشراف المستقبل والوعي التام بالوضع الحالي وما نرغب أن نكون عليه في المستقبل. لا يلزم التوقف كثيرا عند أطروحات لا تمت للواقع بصلة ولا تستطيع تفسير ما يجري حولنا ولا تساعد في العبور للمستقبل. إن مجرد التفكير في أنه لا يلزمنا التجديد والتغيير والبحث عن الأفضل هو أمر في غاية الخطورة، وقد يوقف عجلة التنمية والترقي الاجتماعي وأهم من ذلك يأتي من ينعتنا بالتخلف ولا يرى في نظامنا الاجتماعي وأسلوب حياتنا ما يستحق الاتباع. وهكذا نفقد مقوما أساسا في التأثير في الآخرين وفي مجريات الأمور الحقيقية وليس الشكلية.
لقد حان الوقت أن نستوعب أننا في السفينة نفسها وبالتالي يلزمنا التفكير الجماعي الذي يطور ويقوي الوطن اقتصاديا واجتماعيا. هذا يتطلب رؤية واقعية لما يدور حولنا من مستجدات في إطار القيم الإسلامية والاجتماعية التي تحفز وتعزز العمل المشترك وتنشد حلولا ناجعة وأوضاعا مربحة للجميع. يجب أن يكون الاختلاف على أساس من النوايا الحسنة وضمن الحوار النافع الذي يحقق المصلحة العامة وليس الحوار المبني على الإقصاء وتسفيه الآخرين وسوء الظن. إن الظروف المحيطة بنا لا تسمح بالنزاعات والتراشق الكلامي بل يلزم أن يكون لدينا وعي ودراية تامة أننا مستهدفون من الخارج وإن السبيل الوحيد لمواجهة التحديات هو الاجتماع على رفعة الأمة وعزتها تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الأمة". حينها فقط ندرك أن بعض الموضوعات يجب ألا تستغرق الجهد والوقت والاختلاف مثل نقاش ومداولات تغيير نهاية الأسبوع التي هي قضية فنية بحتة.