من الحالات الشائعة في أي مجتمع أن يجد الموظف نفسه في مؤسسة تحمل قيما ولها ممارسات تخالف القيم التي يحملها والممارسات التي يؤمن بها، وقد تكون هذه القيم خاصة بقيادة المؤسسة أو تكون أمرا من صلب فلسفة المؤسسة واستراتيجيتها، وهذه القيم ليست دائما أخلاقية أو دينية أو أيديولوجية، فقد تكون مهنية بحتة أو تكون ذات علاقة بالكيفية الأمثل لتسيير أمور المؤسسة وتحقيق نجاحها.
ولقد تناولت كلاسيكيات الثقافة العربية هذه القضية مرات عديدة، وإن كان التركيز عادة على الأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية بحكم أن الحزب أو المؤسسة الإعلامية تظهر آراؤها على الملأ وتمثل جزءا من صميم عمل المؤسسة، ويكون على العضو في الحزب السياسي (أو الحركة السياسية أو الدينية) أو الموظف في المؤسسة الإعلامية أن يدافع عن المؤسسة التي ينتمي إليها في النقاشات العامة, حيث يفترض الناس عادة أن الموظف في مؤسسة ما لا بد أن يعتنق أفكارها.
لكن هذه المسألة في الحقيقة عامة في كل المؤسسات، مثل الوزارات الحكومية والجامعات وحتى المؤسسات الصغيرة، ويكون على الموظف أن يتخذ قرارا بين مغادرة المؤسسة أو مجاراتها بحثا عن لقمة العيش أو السعي للتغيير سواء كانت آليات التغيير صحيحة أم خاطئة.
هناك دراسات علمية كثيرة حول هذه القضية، قضية صراع القيم Conflict of Values، وذلك لأن هذه القضية من أكثر القضايا التي تؤثر في ولاء الناس للمؤسسة التي يعملون فيها وإخلاصهم لأهدافها. تخيل أن الموظفين في وزارة ما يرون أن المبادرة الأساسية للوزير الجديد هي مبادرة خاطئة وتدمر ما أنجزوه خلال السنوات الماضية، هذا الشعور العام وخاصة إذا كان عميقا ومبنيا على منطق عقلاني معين، كفيل بإفشال تلك المبادرة في غالب الأحوال.
بعض التناقضات يصل إلى جذور الأفكار ولا يمكن علاجه، وأشهر القضايا التي يطرحها البحث العلمي كمثال دائم التكرار هو الإجهاض، وذلك لأن مؤيدي السماح القانوني بالإجهاض ينظرون إليه من زاوية حرية الإنسان الشخصية، ومعارضوه ينظرون من ناحية الحفاظ على روح الإنسان، وهي قيم من الصعب مناقشتها وتغييرها لدى الأشخاص.
ولكن معظم التناقضات في الحقيقة ليست كذلك، ولذا فإن الدراسات الإدارية ترى أن الحل الأمثل لهذا الشعور الذي قد يوجد في كل مؤسسة على وجه الأرض هو وجود قنوات واسعة للحوار والاتصال من الأعلى إلى الأسفل (الإدارة إلى الموظفين) أو من الأسفل إلى الأعلى (الموظفين إلى الإدارة) أو الاتصال الأفقي (بين الموظفين أنفسهم).
في كثير من الدراسات التي أجريت في المؤسسة تجد أن الانطباع الذي يحمله الموظفون عن مؤسساتهم والقيم التي تحملها الإدارة خاطئ، فهم قد يرون مثلا أن الإدارة لا تحب التغيير بينما الإدارة تبذل كل جهد لإيجاد أفكار جديدة للخروج من مشكلاتها أو أن المدير متحيز لفئة معينة، بينما هو في الحقيقة لم يكن منتبها أثناء تعيين الموظفين وترقيتهم إلى أنه يوجد ما يكفي من التنوع بينهم.
لكن المسألة تصبح أكثر صعوبة في المؤسسات الحكومية، لأن المؤسسة الحكومية تنبثق ممارستها عادة من سياسة عامة للدولة قد لا يمكن شرح تفاصيلها للموظفين (سواء كانت صحيحة أو خاطئة)، مما يجعل الموظف في حالة من الحيرة أو الرفض للسياسات الإدارية التي يطبقها. على سبيل المثال قد لا يعرف الموظف لماذا عليه أن يأخذ صورة من إثبات هوية كل شخص يراجع إدارته، وهو في الغالب يطبق ذلك كروتين، وطالما ينتقد هو شخصيا هذا الروتين أمام المراجعين.
لهذا السبب خصص عدد من الحكومات الغربية (الكندية والسويدية على سبيل المثال) مواقع إنترنت تفصل أسباب كل قرار وكل روتين وفي الوقت نفسه تعطي الفرصة للموظفين لاقتراح أفكار أفضل لمعالجة التحديات التي خلقت هذه القرارات لعلاجها.
القضية تصبح أكثر صعوبة في المؤسسات العسكرية لأن الولاء للقائد أساس مهم جدا في العمل العسكري، وبينما كانت المدارس العسكرية القديمة تميل لفلسفة الإسكندر الأكبر الذي بدأ فلسفة الطاعة العمياء للجنود (وهذا ما زال متبعا في معظم الدول العربية)، فإن المدارس العسكرية الحديثة صارت تسمح للجنود بالتعبير عن آرائهم وتحاول أن تشرح لهم بالتفصيل أسباب القرارات العسكرية، دون التضحية بمبدأ الطاعة مهما كان الثمن.
أحد الباحثين الغربيين حدد الأسباب الرئيسية لوجود الخلاف بين المؤسسة والفرد في القيم, في التالي: سوء الفهم المتبادل، عدم الثقة، الصور الذهنية الخاطئة، أسلوب الاتصال العدواني أو الهجومي، وأخيرا رفض التفاوض حول القيم.
في العالم العربي يحمل الناس نظاما معقدا (وإن فقد الارتباط المنطقي في كثير من الأحيان) من القيم والمبادئ، وفي الوقت نفسه تقع المؤسسات تحت ضغط مراعاة الكثير من العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية في قراراتها، وهذا يؤثر بحدة في ولاء الناس لمؤسساتهم، مما يجعل هذه القضية من القضايا المهمة التي تحتاج إلى نظر ومراعاة من الإداريين وقادة المؤسسات على اختلاف أنواعها.
ما أصعب العيش وسط فوضى الأفكار!