د. هيثم كريم*
*باحث أكاديمي

تنطلق الدراسة من اشكالية اساسية تتمثل في اختلال العلاقة بين متغيرين هما (الاجور والرواتب) ومتغير تكاليف المعيشة المرتفعة في العراق، وعليه فهناك عدم يقين بالآثار المستقبلية المترتبة على اختلال التوازن بين تلكما المتغيرين وعدم وضوح السياسات والاجراءات الاقتصادية من جانب الحكومة في تحقيق التوازن المنشود.


ومن هذه الاشكالية ننطلق للبرهنة على الفرض القائل: بانه كلما بقيت العلاقة غير المتوازنة بين معدلات الاجور والرواتب من جانب وبين تكاليف المعيشة من جانب اخر، ادى ذلك الى اثار سلبية تنعكس على مجمل عملية التنمية الاقتصادية المستقبلية في العراق.
وبدءا لابد من تعريف الاجور بانها " اجمالي ما يتقاضاه الفرد العامل مقابل الجهد الذي يبذله في العمل وتظهر اهمية الاجور كعامل اساسي في زيادة رضا الفرد عن عمله وبالتالي في تحسين استخدام الموارد البشرية في المؤسسة ".
وان هيكل الاجور والرواتب يتحدد في معظم الدول حسب الاهمية وهناك جملة من العوامل التي تؤثر في هذا الهيكل منها " بيئة وطبيعة سوق العمل من حيث الطلب والعرض، هيكل الاجور في القطاع الخاص عموماً، تكلفة المعيشة داخل البلد)، والاخير هو الذي يهمنا في هذه الدراسة اذ ينبغي خلق حالة توازن ولو جزئية بين الاجور والرواتب ومستويات الاسعار وتكاليف المعيشة، وهذا ما يعاني منه هيكل الاجور في العراق اذ ليس هناك حالة الموازنة بينهما وهذا ترك وسيترك اثارا سلبية كبيرة وعليه لابد من التعرف على اهم تلك الاثار الاقتصادية المترتبة على اختلال العلاقة بين الاجور وتكاليف المعيشة:
اولاً: اختلال العلاقة ستؤدي الى ضعف الادخارات وتثبيط عملية التنمية الاقتصادية:
هناك علاقة مترابطة في اطار النظرية الاقتصادية ما بين الادخار والاستثمار ، حيث انه كلما ازدادت الادخارات ازداد معدل الاستثمار وبالعكس كلما قلت الادخارات قل الاستثمار، واننا في العراق نشهد انخفاضا في معدل الادخار وبالتالي قلة ان لم نقل انعدام الاستثمارات وهذا يعود اصلا الى قلة الدخل الفردي للمواطن العراقي (قلة الاجور والرواتب)، وبالمقابل نجد بان الميل الحدي للاستهلاك مرتفع اي ان جل ما يحصل عليه المواطن العراقي من اجور او رواتب يتم انفاق الجزء الاكبر منها على الاستهلاك وهذا يعني عدم وجود ادخار في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة في العراق، وتكون النتيجة انعدام الادخار بسبب (قلة الاجور والرواتب) وبالتالي انعدام الاستثمار.
وعليه لابد من للحكومة العراقية ان تعمل على خلق ادخارات محلية يتم توظيفها في اقامة مشاريع استثمارية صغيرة ومتوسطة تعمل بدورها على امتصاص جزء من البطالة المستشرية في العراق، وحتى نخلق ادخارات لا بد من زيادة معدل الدخل الفردي الحقيقي للمواطن العراقي (الاجور والرواتب)، وبشكل يكون معه قادراً على تلبية متطلبات معيشته بشكل عصري ولائق وفي الوقت نفسه يكون قادرا على الادخار ومن ثم الاستثمار.
ثانياً : اختلال العلاقة تدفع باتجاه الهجرة الى الخارج:
ان الاختلال الكبير بين الاجور وتكاليف المعيشة في العراق يعد احد العوامل المضافة الى الهجرة من العراق ففي ظل المرحلة الممتدة من 1980-2003 عانى الشعب العراقي حالات كثيرة من التهجير سواء القسري او الارادي بسبب الحروب التي خاضها العراق (حرب ايران والكويت) فضلا عن حالة الحصار الاقتصادي التي افرزت دوافع قوية للهجرة من اجل العمل وعليه فاننا اليوم وبعد تغير النظام السياسي في العراق بدخول القوات الامريكية نلاحظ بان الهجرة قد ازدادت ويمكن ان نحدد اهم سببين لها هما:
1- تدني مستويات الاجور والرواتب مقابل ارتفاع تكاليف المعيشة في العراق وخاصة بالنسبة الى الكفاءات العلمية واصحاب الايدي الماهرة، فالبيئة في العراق اصبحت بيئة طاردة وغير حاضنة لهم ، لذا نلاحظ ارتفاع معدلات الهجرة الى خارج العراق بحثاً عن مستوى معاشي لائق.
2- عدم الاستقرار السياسي وتدهور الحالة الامنية في العراق الذي اعتبر احد أهم دوافع الهجرة حيث العنف المنظم الذي طال الكفاءات العراقية ساهم ويساهم في زيادة هجرتهم الى خارج العراق.
ومن هذا يمكن القول بان استشراء ظاهرة العنف السياسي الى جانب تدهور المستوى المعاشي الناتج عن اختلال العلاقة بين تكاليف المعيشة وبين الاجور والرواتب في العراق دفعا معاً باتجاه تعاظم ظاهرة الهجرة الى الخارج ما تنطوي عليه هذه الظاهرة من اثار سلبية في مجمل عملية التنمية في العراق مستقبلاً فضلاً عن انها ستحد من امكانية دخوله بشكل فاعل الى عصر التكنولوجيا والمعلوماتية في ظل هجرة العقول العراقية إلى الخارج.
ثالثاً: اختلال العلاقة تدفع باتجاه زيادة معدلات الفساد في العراق:
باتت ظاهرة الفساد بجميع اشكاله تعد مشكلة اخذت تتزايد في الاتساع واحتلت اهمية كبيرة على جداول الاعمال الدولية والوطنية، لما لهذه الظاهرة من اثار خطيرة على التنمية بابعادها كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...الخ، اذ ان هناك علاقة مترابطة بين تخفيض الفساد وتحقيق التنمية الاقتصادية.
كما ان اختلال العلاقة بين معدلات الاجور والرواتب وبين ارتفاع تكاليف المعيشةقد ادى الى لجوء بعض ضعاف النفوس الى القيام بعملية الفساد الاداري وبجميع اشكاله تحت مبرر ان الرواتب غير كافية ولابد من الحصول على موارد مالية اضافية لتغطية نفقات المعيشة المرتفعة، وعليه يمكن القول بان الفساد بات يعتبر التحدي الاكبر الذي يواجه الحكومة العراقية في ظل وجود بيئة حاضنة لهذا الفايروس المستشري بشكل كبير في مؤسسات الدولة العراقية ولا يمكن القضاء عليه الا من خلال سياسات اصلاح اقتصادي تطال في جانب منه تصحيح العلاقة غير المتوازنة بين الاجور والرواتب بحيث تتماشى مع تكاليف المعيشة السائدة في العراق.
رابعاً: زيادة معدلات الفقر و العنف في العراق:
في وقت ترتفع فيه تكاليف المعيشة في العراق التي تنعكس في ارتفاع أسعار السلع والخدمات وبشكل أسرع من ارتفاع معدلات الاجور والرواتب الاسمية ومداخيل الفئات الكادحة الأخرى فان هذا يؤدي الى هبوط الأجور الحقيقية، وتعاظم ظاهرة الفقر في العراق، نعم ان هيكل الرواتب والاجور الاسمية ارتفع في العراق الا انه في الوقت نفسه نلاحظ ارتفاعا كبيرا في الاسعار عموما وهذه الارتفاعات اسهمت في تآكل الزيادة الحاصلة في مدخولاتهم، وبعبارة اخرى انخفاض القيمة الحقيقية لتلك الاجور والرواتب، لذا فان معظم شرائح المجتمع العراقي وخاصة الموظفين يعانون من تدهور المستوى المعاشي رغم زيادة مدخولاتهم النقدية وهذا يعود بنا الى المرحلة السابقة اذ كانت المدخولات النقدية غير متوازنة مع تكاليف المعيشة في ظل وجود حصار اقتصادي، لذا فان الزيادات الحاصلة في معدلات الاجور والرواتب قد التهمتها زيادة تكاليف المعيشة، ففي السابق مثلا كانت قنينة الغاز بسعر خمسة دنانير الان ثلاثة اضعاف سعرها القديم، ومن جانب اخر لتر البنزين 150 فلسا، الان 250-350 دينارا، ويمكن ان نقيس على بقية السلع والخدمات، لذا نقول بان الزيادات التي حصلت في معدل الرواتب والاجور انحسرت في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة ما حدا بنا للعودة الى مرحلة الدخول في حلقة الفقر الجديدة، وهذا الفقر تزامن مع ارتفاع معدلات البطالة ما دفع وسيدفع باتجاه زيادة موجات العنف في العراق التي تعاظمت بشكل كبير في الآونة الاخيرة، ويمكن القول بان العنف في العراق هو نتيجة وليس سببا لمتغيرات كبيرة واختلالات عميقة في بيئة العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذا لابد من صناع القرار في العراق ادراك حقيقة الاختلال الكبير بين تكاليف المعيشة وبين سلم الاجور والرواتب في العراق وتوفير فرص عمل جديدة وتخفيض نسب الفقر اذا اردنا ان نحقق استقرارا امنيا وكما قال روبرت مكنمار (بان الامن هو التنمية).

خامساً: انخفاض الاجور يدفع الى قتل الابداع:
ان الاجور الضعيفة تقتل الابداع وتعرقل الانتاج بجميع انواعه اذ ان الاجور والرواتب تعتبر دافعا اساسا لتنمية القدرات الابداعية لدى الفرد وحافزاً لزيادة انتاجية العامل او الموظف وعليه فان انخفاض الاجور والرواتب بشكل لا يتناسب مع تكاليف الحياة العصرية سيدفع الى لجوء الموظف او العامل نحو مجالات اخرى من اجل زيادة مدخولاته وبالتالي فان ذلك سيؤثر في قدراته الابداعية اولاً وعلى انتاجه كماً ونوعا ً والعكس صحيح.
ما العمل ؟
1- ينبغي تغيير النظرة الى جداول الاجور والرواتب واعادة هياكلها في العراق، وتحقيق توازن حقيقي بين تكاليف المعيشة وبين سلم الرواتب والاجور الممنوحة للمواطن العراقي.
2- تقريب الاجور بين القطاعين العام والخاص وعدم رفعها في القطاع العام لان في ذلك عزوفا عن تطوير القطاع الخاص الذي يعد شريكا اساسيا في تحقيق التنمية في اي بلد من بلدان العالم وبعبارة اخرى ان رفعها وزيادتها في قطاع الدولة سيؤدي الى لجوء الكثير الى قطاع الدولة الذي هو يعاني من حالة ترهل كبيرة ويشكل اداة لاستنزاف ميزانية الدولة، طالما يهيئ لهم دخلا جيدا، والعزوف عن المشاريع الخاصة وبالتالي قتل روح الابداع وهذا ما لا نرجوه في العراق مستقبلاً اذ اننا بأشد الحاجة الى النهوض وتطوير قطاع خاص عراقي ليعمل وبشكل متوزان مع القطاع العام في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.
3- خلق الرضاء النفسي والمالي عند الموظف والعامل وبشكل تنحصر معه امراض الفساد الاداري والاتجار في الممنوعات او القيام باعمال عنف وغير ذلك من الامراض المجتمعية وهذا يتم من خلال خلق بيئة عمل ملائمة لجميع مواطني الشعب العراقي.
4- يجب تحقيق نوع من المساواة في الاجور والرواتب وهذه مسألة مهمة جداً فليس من المعقول ان يكون موظفان ويعملان في نفس الدائرة احدهما يتقاضى 3000 الف دينار والاخر ربما يعمل اقل منه ويتقاضى مليونا ونصف المليون، فالاثنان يأكلان ويشربان ويركبان السيارة ويستخدمان الموبايل وغير ذلك من الاحتياجات، لكن نقول لابد من تحقيق المساواة في توزيع الرواتب مع مراعاة بعض الامتيازات والحوافز لاصحاب الخدمة الطويلة او حملة الشهادات العليا وطبيعة العمل القائمين عليه ودرجة خطورته فهم يعيشون الظرف نفسه.