هذا كتاب يرسم فيه مؤلفه – فضيلة الشيخ فتح الله گولن – طريق ارتقاء القلب الإنساني في معارج المعرفة الإلهية التي هي أرقى معارف الإنسان قاطبةً، وكُلُّ معرفة دونها مدينةٌ لها، وظلٌّ من ظلالها، وأثرٌ من أثارها. وقد استعان الشيخ في رسم معالم هذه الطريق بتجاربه الذانية، وبتجارب جمهرة من فضلاء مَنْ سلك هذه الطريق نفسها من عظماء الصوفية الملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

والتصوف – على الرغم من كونه تجارب نفوس في طريق التزكية، ومعاناة أرواح يضنيها الشوق إلى الله، تختلف من متصوف إلى آخر – غير أَنَّ مجموع هذه التجارب والخبرات المتراكمة والتي تناقلها الصوفية بعضهم عن بعض عبرَ قرون متتالية تحولت إلى علم له أصوله وقواعده ومصطلحاته. مثلما أن لكل علم له أصوله وقوعده ومصطلحاته وتجاربه.
وقد وقف الشيخ عند هذه المصطلحات، وشرح مدلولاتها اللغوية، ومعانيها الإصطلاحية، ومفاهيمها عند أرباب التصوف أنفسهم. ومن خلال هذه المنهجية استطاع أن يجعل القارئ في الصورة الحقيقية للتصوف كما هي دون أي التباس قد يؤدي إلى عدم إدراك مراميه وفهم مقاصده الإصطلاحية التزكوية.
والكتاب بعد ذلك يمكن أن نعدّه نوعاً من أنواع الدراسة للقلب الإنساني في أحواله ومقاماته وسيره وسلوكه إلى الله تعالى، كما أنه في الوقت نفسه دعوة لأرباب القلوب لكي يفيدوا مِمّا يقوم عليه هذا السلوك من خُلُقٍ وأدبٍ، وأذواق وأشواق، في رؤية قرآنية وسنَّة نبوية لا تحيد عنهما. ويمكننا متابعة الاستاذ المؤلف في رؤياه للتطور الروحي للسالك، حيث تبدأ أولى خطوات السلوك عنده بمعرفة النفس التي بين جنبيه، وتجلية جوهرها الإلهي. فالنفس آية من آيات الله تعالى لذلك أقسم بها بنص القرآن، فَفَهْمُهَا وإدراكُ ما تنطوي عليه من لطائفَ وأبعاد غيبية وشهودية دليل على أن السالك قد خطى الخطوة الأولى في طريق السلوك.
وتأتي الخطى بعدها متتاليات مترادفات؛ من تخلية وتحلية وتزكية، أو إنْ شئتَ قلتَ؛ من إسلام وإيمان وإحسان، وإنْ شئتَ قلتَ؛ هو علم اليقين، عين اليقين، وحق اليقين، أو إنْ شئتَ قلتَ؛ هو استغراق بالكلية في حب الله، وهيام به، وعشق قد يبلغ بصاحبه أحياناً حد الشده.
كُلُّ هذه الأحوال والمقامات، واردات وفيوضات تتنـزل على قلب المريد، فتنقله من حال إلى حال، ومن قبض إلى بسط، ومن قهر الجلال إلى باحة الجمال، ومن فرح بالوارد الموجود إلى حزن على المفقود منه، ومن خوف من الإعراض إلى إطمئنان بالإقبال، وهكذا تظلُّ تتقلب النفس في هذه الأحوال والمقامات حتى تبلغ في خاتمة المطاف إلى مقام "الرضى" وعندئذ تكون هي المعنية بقوله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . إرْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي)(الفجر؛ 27-30).
وفضيلة الشيخ بكيانه كله، وبوجوده بأجمعه، روح عظيم فياض بالمعارف الإلهية، لقد ذهب بعيداً وبعيداً جدّاً في ارتقاءاته الروحية، إلاَّ أنه لم يَنْسَ لحظةً واحدةً أنه صاحب قلم مسؤول عن إيمان أمة، وعن حياتها الروحية والحضارية، فما ابتعد إلاّ اقترب، وما غاب إلاّ حضر، وما ارتقى إلاّ ليرتقي بأمته، وما عرفَ إلاّ ليعرّف أمتَه، فهو دائم الرواح بين الله تعالى وبين خلقه، بين سمائه وأرضه، بين عروج وهبوط، وهبوط وعروج، لكنه مع الأمة دوماً في أوجاعها ومعاناتها.
لقد قرأ لعمالقة التصوف الكبار، من عرب وفرس وترك، وكان له من وجدانه الشاعري، وحِسّهِ المرهف خير مِعْوَانٍ على ذلك، فشرب من الكأس نفسها التي شربوا منها، وخاض البحار نفسها التي خاضوها، وعانى ما عانوا، وَوَجَدَ مثلَ وَجْدِهِمْ، واتَّقَدَتْ شمسُ المحبة في قلبه كما اتَّقَدت في قلوبهم، وسكب الغزير من الدموع كما سكبوا، وأَنَّ، وَحَنَّ، وفاض وَجْدُهُ، والتهب شوقُه، وعلا نشيجُه، واحترق قلبه، إلا أنه ظلَّ ممسكاً بميزان الشريعة ليفرق بين مقبولها ومرفوضها، وها هو يؤكد ذلك بقوله: "ففي أمثال هذه المواقف، فالحذر واليقظة وموازين السنة النبوية هي الأساس. أما رجال الحق الذين غلب عليهم الحال وهم مخمورون بحظوظ المشاهدة، فقد يتلفظون بأمور مخالفة لهذه الحقيقة. ففي أمثال هذه المواقف، ينبغي البحث بإنصاف عن نيّاتهم وعدم الاستعجال في إصدار الحكم عليهم".[1]
وقلب الصوفي – كما يصفه الشيخ عن دراية – يظلُّ في سُموٍّ وارتقاء إلى آخر مدياته حتى يقف عند ينابيع العطاء الرباني في بهجة وهيام يزداد لهيبه في قلبه كُلَّ يوم قوةً على قوة.
فصاحب هذا القلب يتحول إلى إنسان عظيم النفس غير الذي كان، ويشعر أن روحه مفعم بعوالم سامية الجمال تتخذه موئلاً وسكناً، فيتسع بذلك قلبه حتى ليحتوي العالم بأسره، ويعلو عقله حتى ليشرف على سرِّ الواحدية والأحدية ذات الومضات والتجليات في الأنفس والآفاق، وهو في انطراح دائم بذلة ومسكنة وعجز بين يدي الله تعالى منتظراً الإشارة والرمز وومضة الهداية إلى الطريق.
ورجال القلوب بهذه المثابة هم تاج الجنس البشري، إذا تكلموا أراقوا في كل كلمة من كلماتهم حياةً، وفي كُلّ خاطرة من خواطرهم روحاً، فيخلفون في الأسماع دويّاً مستديماً، تبقى أصداؤه في حنايا الصدور طوال الحياة، وهؤلاء هم الأمل الذي ظلَّ الشيخ فتح الله يهدهده في كتاباته حيث يقول: "فالذين يريدون تذوّق هذه النشاوى الروحية اللامتناهية إلى الأبد، يُنظّمون هجرات فائقة جادة في كل حين، مما لا يريده الله إلى ما يريده ومما نهى عنه إلى ما أمر به ومما لا يحبه ولا يرضاه إلى ما يحبه ويرضاه. فيعيشون في فرار إليه تعالى، لا يقرّ لهم قرار إلاّ بإسناد كل شيء إليه سبحانه، وهذا هو الاعتصام الحقيقي".[2]
والقلب – كما يراه الشيخ – كونٌ روحي عظيم يقوم قبالة هذا الكون المشهود بسماواته ونجومه وكواكبه، ولكنه حين يغلق نوافذه من دون القرآن يصبح خليطاً من قوى عمياء يصدم بعضها بعضاً ويحطم بعضها بعضاً، بل الحياة نفسها من دون القرآن تقفر وتجدب ويصعب تقبلها، وربما ينتهي عذاب الإنسان في هذه الحياة إلى نوع من أنواع الانتحار الفكري والجسدي، وكثيرون هم الناس الذين يولون الأدبار في هلع من الحياة لأنهم عجزوا عن فهمها وإدراك مراميها، وكثيرة هي النفوس المرتعشة لأنَّ قبساً من نور القرآن لم يدلف إليها.
وأنت – أيها الانسان – أتستطيع أن تصوغ نفسك صياغة جديدة...؟ أن تهدمها وتشكلها من جديد...؟ أن تعدمها ثم ترتقي بها نحو كمال جديد للوجود...؟ نعم... القرآن يستطيع ذلك... إنه يستطيع أن يجعلك تتسع وتمتد بحيث تتجاوز بما لا يقاس بمصيرك الإنساني الذاتي... بل يجعلك تحسُّ بسمؤوليتك عن الحياة برمّتها، وعن جنس الانسان بأكمله، بل يجعلك قادراً على أن تنشئ حقائق جديدة لم تكن تخطر على بال أحد، وأن ملكات عظيمة معطّلة فيك يمكنك أن تبعث فيها الحياة وتنميها لتبلغ بك غايات هي ما وراء الموت والحياة، والخير والشر، والأرض والسماء. حتى أن الأبدية نفسها تظلُّ لا تشغل من وجودك إلاّ بعض هذا الوجود، فإذا بك تصير بهذه الخليقة الجديدة إنساناً فوق الانسان، وإيماناً فوق الإيمان ويقيناً فوق اليقين، وإلى هذا يشير الشيخ فتح الله فيقول:
"القلب، كالقلعة الحصينة لصحة الفكر واستقامته وصحة التصور ووضوحه وصحة الروح ونقائها، بل حتى لصحة البدن وسلامته. فمشاعر الإنسان المادية والمعنوية تحتمي بهذه القلعة وتُصان بها. لذا فالقلب الذي يحوز هذه الأهمية لا بد له من موضع مراقبة وحَجْر صحي ومنتجع. ذلك لأنه لطيفة عسير جداً ضمادها إذا جُرحت بل أعسر منه إحياؤها إذا ماتت. لذا يوصينا القرآن الكريم بهذا الدعاء: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) (آل عمران: 8) والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بهذا الحَجر الصحي والحماية حيث يدعو مراراً صباح مساء متضرعاً إلى الله تعالى: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)".[3]
وقد وضع الشيخ في هذا الكتاب – على الرغم من كونه دراسة موضوعية لعالم التصوف – شيئاً من ذاته، وشيئاً من روحه وفكره، وفهمه لروح التصوف وجوهره.
إنه يعلمنا كيف نشحن النفس بقوى الإيمان وطاقاته في مواجهة محن الزمان، وهو يريد من المسلم أن يكون عظيم النفس، هائلاً في عظمته، مهيباً في سموه، خارقاً في قوة روحه، وأنْ يظلَّ تعطشه إلى الحياة متأججاً في قلبه، وإذا ما خانته نفسُه رجع إلى الله متضرعاً: رجعت إليك فانقذني من نفسي، إكسر قيودي حطّم سجون ذاتي، ارفعني إليك، خذني مني إليك...!
وبعد:
فهذا الكتاب مرآة للروح تنعكس على صفحاته، وتعكسه على الآخرين، والروح لا جهات لها، فمن أين أتيتها فقد أتيتها، وكذلك من أين دلفتَ إلى هذا الكتاب فقد دلفتَ إلى الكتاب كله، وإلى روح صاحب الكتاب، ومنْ هنا هذا الاقتران الحميمي التجانسي بين الروح والقرآن، فكلاهما من عالَم الأمر، بل القرآن نفسُه هو روح نزل به روح على روحٌ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو إن شئت قلتَ على قلبه، فالروح والقلب في المصطلح الصوفي واحد كما ورد في الكتاب، وهو الساري في أوصال الوجود والباعث فيه الحياة، كسريانه في الإنسان المنطوي على العالم الأكبر.
والصوفي الحق – كما عند الشيخ – قرآني الروح، سنِيُّ السلوك، فلا عروج ولا ارتقاء إلاّ فيهما ومنهما، فإذكاء نار العداء بين الذين يسمون أهل الشريعة وأهل الحقيقة أجّجَ في السابق ويؤجج اليوم صراعات خطيرة بين المسلمين، وهو وَهْمٌ يجب الانتباه إليه، ولعلّ الله تعالى يقيض رجالاً من رواد الحقيقة ورجالاً من رواد الشريعة ليتداركوا هذا الأمر الخطير ويردموا ما بين المسلمين من هُوّات واسعة عميقة.
وأحسب أن هذا الكتاب هو محاولة في هذا الشأن وللتقريب بين المسلمين وإشاعة الود والسلام بينهم.
اللّهُم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحيّنا ربّنا بالسلام وأدخلنا دارك دار السلام بالسلام برحمتك ياذا الجلال والإكرام.
آمين والحمد لله رب العالمين، وصَلِّ اللّهُمَّ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي السلام، والسلام.