هناك العديد من العوامل والأسباب التي دعت إلى ولادة فكرة الاندماج والتي أخذت في الانتشار منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال ما شهده الاقتصاد الدولي من متغيرات، كان في مقدمتها القرارات الدولية التي انبثقت عن معاهدة (بريتون وودز) المتضمنة زيادة التعاون الاقتصادي الدولي، وتوطيد العلاقات النقدية والمالية الدولية والتي نجم عنها ظهور الدولار الأمريكي بوصفه الوحدة الأساسية للقياس في المبادلات التجارية والتدفقات المالية الدولية ثم بعد ذلك ظهور سلة أو سوق العملات الأوروبية، وأخيراً اتفاقية التجارة الدولية، كل ما سبق وغيره كان له أثره في التوجه نحو الاندماج على المستوى الدولي.
لقد تمتع الدولار بمكانة دولية مرموقة خلال الفترة من إبرام معاهدة (بريتون وودز، 1944م) إلى عام (1971م) وذلك اعتماداً على التفوق الاقتصادي للولايات المتحدة خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها بتحويل الدولارات إلى ذهب. والراجع إلى حجم الأرصدة الذهبية التي كان يمتلكها هذا الاقتصاد حيث شكلت نسبة (64.5%) من مجموع الأرصدة الذهبية في العالم عام (1949م). بالإضافة إلى ضخامة المساعدات والقروض التي قدمتها الولايات المتحدة إلى دول أوروبا الغربية واليابان من خلال ما سمي (مشروع مارشال) لغرض استعادة وضعها الاقتصادي وتعمير ما دمرته الحرب إذ بلغ حجم هذه المساعدات (13- 15) مليار دولار خلال الأعوام (1948- 1952م) فضلاً عن إنفاقها العسكري الكبير.
ولكن عندما قررت الولايات المتحدة وقف تحويل الأرصدة الدولارية إلى ذهب أنهار النظام النقدي الدولي القائم على الدولار وبدأت الاضطرابات النقدية تزداد اتساعاً وأسعار صرف العملات المختلفة تزداد تذبذباً وكان من الصعب الاستمرار في ظل نظام الصرف الثابت لذا تم إقرار نظام الصرف المعوم (floating exchange system) خصوصاً بعد مؤتمر جامايكا (1976م) فأصبحت الدول حرة في اختيار نظام الصرف الملائم لها، وعلى الرغم من ذلك ظل الدولار من أبرز تلك العملات وأكثرها قبولاً وتداولاً على النطاق الدولي.
وبهذا كان الاقتصاد الرأسمالي الدولي الآلية الرئيسية لربط اقتصاديات الدول المختلفة من خلال الدولار والعملات المساعدة، إذا انطوت هذه الآلية على عملية توحيد قيم السلع والخدمات، الأمر الذي سهل عملية التبادل التجاري الدولي، كذلك توحيد قيم رؤوس الأموال الدولية ومن ثم إمكانية تدويل التدفقات المالية الدولية وتوجيه الأسواق المالية المختلفة نحو التقارب والاندماج فيما بينها.
أما فيما يخص السوق الأوروبية فلقد أسهمت هذه السوق في إيجاد نوع من السيولة الدولية من خلال توفيرها للعملات الأوروبية، إذ أنها تعد سوقاً عالمية حرة، تعمل على توفير رؤوس الأموال الضخمة لدول العالم كافة، وكذلك أسهمت بشكل فعال في خلق سوق مضاربية على تلك العملات وتحديداً الدولار، الأمر الذي أدى إلى اتساع حجم الأموال في هذه السوق التي أخذت تتحرك بسرعة عالية وتدر أرباحاً كبيرة، لذا فقد تم وصفها بحركات رؤوس الأموال الساخنة (Hot money). ولقد عدة هذه السوق نواه أساسية لنشوء ظاهرة الاندماج بين الأسواق المالية الدولية، فهي تعمل بالأسلوب نفسه الذي أخذت تعمل به الأسواق المالية الدولية، ولاسيما في مجال استقطاب الأموال بقدرة تنافسية تفوق الأسواق المالية الوطنية.
وفيما يخص التحركات السريعة لرؤوس الأموال الدولية وأثرها في الاتجاه نحو الاندماج فمن الملاحظ أن رؤوس الأموال الدولية أخذت تنساب بشكل كبير في نهاية خمسينات القرن الماضي وبداية الستينات من نفس القرن فيما بين الولايات المتحدة وأوربا الغربية وتحديداً سوق العملات الأوروبية مدعومة بما اتخذته الحكومة الأمريكية في عام (1965م) وعام (1969م) من قرارات كان من أهمها وضع سقوف على أسعار الفائدة وهو ما يسمى بالقرار (Q)، وتقييد مستوى الإقراض المحلي، ووضع ضوابط على انسياب رؤوس الأموال الأمريكية للخارج، كل هذه الإجراءات وغيرها دفعت الشركات الأمريكية إلى أن تزيد من اقتراضها الخارجي للحصول على الموارد المالية مما زاد من تحرك الأموال الدولية باتجاه الولايات المتحدة بحثاً على الربح وعن معدلات فائدة أعلى. ولم يقتصر الأمر على الولايات المتحدة بل امتد للأسواق الأوروبية، كما أن مصادر الأموال لم تقتصر على أوروبا بل أن هناك رؤوس أموال هرولت نحو الأسواق الأمريكية والأوربية من معظم الدول المنتجة للنفط.
كل ذلك وغيره كان له أكبر الأثر في أن تتدفق رؤوس الأموال بشكل كبير جداً فيما بين الاقتصاديات المتقدمة من خلال أسواقها المالية وازدياد سرعة هذه التدفقات وضخامتها يعتبر مؤشراً لزيادة التقارب فيما بين الأسواق المالية الدولية وتوجهها نحو الاندماج.
ويمكن القول أن التحديات والمتغيرات الدولية المتمثلة في العولمة وتدويل التنمية الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية تدفع بالشركات والمؤسسات لتغيير مرتكزات إستراتيجيتها الاقتصادية حتى تصبح هذه المؤسسات أكثر تهيئة لمجابهة تحديات العصر، إذ أن المرحلة القادمة تطلب وجود مؤسسات الأموال العامة لديها القدرة على جذب المزيد من الاستثمارات لحظيرتها لتوسيع قواعدها الإنتاجية، وتنويع منتجاتها من السلع والخدمات لزيادة حجم العروض. وتحت زخم العولمة وشراسة المنافسة نجد أنه من البديهي أن المؤسسات لا تستطيع الاستمرار في تقديم منتجات ذات جودة تنافسية إذا لم تستطيع الصمود والتطوير، ولا سبيل أمام المؤسسات الضعيفة في هذه الحالة سوى الاندماج وتقوية تركيبتها الهيكلية لاسيما وأن تحرير التجارة يؤدي إلى إلغاء الدعم الذي تتمتع به هذه المؤسسات.
إن إلغاء الدعم يدفع بالمنتجين الأكثر كفاءة لزيادة الإنتاج وزيادة حجم المعروض من السلع والخدمات، إذ يتيح تحرير التجارة الخارجية إمكانية ترسيخ مبدأ الجماعية وعدم التميز في المعاملات التجارية بين كافة بلدان العالم. وقد أثبتت التجارب التي تمخضت عن اندماج بعض المؤسسات والمصارف التي أعلنت عن اندماجها مدى سلامة وصحة قراراتها الاقتصادية، إذ أدت عملية الدمج إلى خلق مؤسسات عملاقة وقوية ساعده على تعظيم هامش الربح لدى هذه المؤسسات وتخفيض تكلفة نفقاتها ومن ثم زيادة قدرتها التنافسية على مستوى العالم. (العاني، 2002م :131-138).