الجنين (ولادة المبادئ)


للأديب -عبدالله بن علي السعد


لابد أن يقضي المبدأ فترة في الصدور، يتم خلالها تكونه وتشكيل صفاته، تماماً كالجنين في الرحم، ثم تكون الولادة يصاحبها ألم، وأمل.

المبادئ كالأطفال، تبدأ صغيرة ثم تكبر، يراها أصحابها وهي تنمو أمام أعينهم، ويراها الناس في مختلف مراحل الحياة، وقد تعمر فلا تموت بحسب المبدأ. والإسلام بدأ برجل ثم بأوائل مثلوا كافة الطبقات، فمن الرجال والنساء والأطفال، ثم دويلة صغيرة خائفة، ثم دولة قوية آمنة، ثم خلافة راشدة، ثم أمة كبيرة.

يتم تكون الجنين في الرحم من خلال تخصيب بويضة بحيوان منوي، والمبدأ يتكون من خلال التقاء الفطرة بالواقع، فتحوي الفكرة صفات المبدأ الرئيسية، ثم يأتي التعامل مع الواقع فيضع لمساته السلبية أو الإيجابية، وذلك بحسب التكوين التربوي للبيئة المحيطة، والممارسات التربوية اليومية، والواقع ومعطياته من خير أو شر. كشأن أمر المجددين على رأس المائة عام، يبعثهم الله، فيهيئون بروح عالية، وهمة طموح، ووضوح في الرؤية، ومنهجية. ثم يخوضون تجارب الواقع فيقارنون ويميزون ويحللون ويسجلون، فيفندون الحق والباطل، ويرسمون المسار، وأظهر صورة ابن تيمية رحمه الله

ويظل الجنين في الرحم فترة الحمل، ويتحقق له بذلك البيئة المناسبة التي تؤهله لمواجهة الحياة، ويتطور تشكله وخلقه حتى يصل إلى صورته النهائية، وكذلك المبادئ، ترعاها الصدور وتحقق لها الحماية لحين الولادة، فيظل المبدأ يتشكل ويتغير حتى يأخذ الصورة النهائية له، ويستعد للخروج إلى الحياة والتعبير عن نفسه.

في الرحم يتغذى الجنين على الأم، ويوفر الحبل السري جسر الإمدادات الحي المتصل بين الجنين وأمه، والمبادئ تقتات على أصحابها (رجالاً أو نساءً)، وتقتات (على) وليس (من)، بمعنى أنها لاتأخذ فضول الحياة من أصحابها، بل تأخذهم، تأخذ أرواحهم وأفكارهم ودمائهم. فتجد أصحابها يبذلون وقتهم وجهدهم ومالهم وراحتهم من أجل نشر مبادئهم. وكلما كان بذلهم لمبدئهم أكبر كانت فرصة الحياة أكبر. وكم عدد من مات في المدينة من الصحابة رضي الله عنهم؟ وبالمقابل تشهد قبورهم على دعوة بذلوا من أجلها. فأهل اليمن قتلوا في خراسان، ومصر، والمغرب، وأوربا. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي سجون كما حصل للإمام أحمد، وغربة كحال المرابطين على الثغور، وزهد في الدنيا وتقديم للآخرة.

ساعة الولادة ساعة مميزة، تحوي نقيضين، تحوي ألم الطلق، وفرحة الولادة، وكذلك ساعة إعلان المبادئ، تحوي ألم الإعلان وتضحياته، وفرحة الانتصار. ليست المسألة مكاسب فقط، بل لابد من خسائر تصيب أصحاب المبادئ. فالغربة، والجوع، والخوف، والوحدة، وافتقار الحاجات الأساسية وأقل وأكثر من ذلك قد تكون ضريبة المبدأ. والفرحة، والتمكين، والتعبد، وغير ذلك قد تكون صور السعادة. إن ألم الأم حين الولادة لايوصف، ولكن نظرة السعادة في عينيها لايمكن وصفها أيضاً. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، فصورة التسليم في صلح الحديبية كانت مؤلمة، ولكن التمكين والنجاح الذي حصل بعدها وضح الحكمة في أمر الله. ولابد من دماء تسير كما حصل في القادسية، من أجل أن ينتشر الإسلام ويتم التمكين والانتشار.

حين يصل الجنين يعلن عن وصوله بصرخة، وللمبدأ أيضاً كلمة لابد أن يقولها حين وصوله. فتكون المفاصلة، والمنهجية المستقلة التي تستفيد من كل الصور الإيجابية، وتعطي رأيها في الصور المخالفة، فليس الأمر ذوبان في قوالب معدة، بل هو تصور عن الكون والحياة.

يظل الجنين متعلقاً بأمه، توفر له الرعاية والغذاء، وكذلك المبادئ ترتبط بأصحابها وتحتاج الحماية والدعم منهم. وبدر وأحد شواهد قتالية، وجيش العسرة والنفقة، شواهد بذل مالية، والثبات رغم الإغراء كمحاولات تغير منهجية الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيادة والمال، والعذاب كحال صغار الصحابة رضي الله عنهم من الفقراء والمستضعفين أمثال بلال شواهد منهجية.

يعتمد الجنين على الأبوين في بداية الحياة، يوفرون له الغذاء والأمن، وكافة الاحتياجات النفسية، وبالمقابل يحملهم في النهاية، ويكون السند لهم، في دائرة تدعوا إلى الرهبة، ويعيش المبدأ عالة على أصحابه في بدايته، فينفقون عليه ويحمونه ويسعون لنشره، وفي النهاية يكبر ويزدهر، ويموتون في ظلاله. تماماً كبداية الإسلام، فالهجرة وترك الديار، وموت الرجال، والجوع والخوف والتعذيب، كلها بدايات للدعوة. والنهاية تمثلت في النصر والتمكين، والأمن والرخاء، والدولة والاستقرار، وراية تحمي المسلمين.

بقي أمر أخير قد يشكل فرقاً بين الجنين والمبدأ، وهو أ، الجنين سيكبر ويموت، بينما المبدأ قد لايموت.. الأمر يتوقف على المبدأ وخصائصه.. وفي الوقت الذي يقاتل أصحابه لنشره يتلقاه آخرون، فيحملونه بعد موت هؤلاء، وهكذا تدور الدائرة وتستمر الحياة.

منقول بتصرف