لم تحظَ "الأحوال الفكرية" للتجمعات البشرية بنصيب وافر من اهتمام واضعي الحوليات، وراصدي الأحداث، ومصنفي الوقائع، الذين انصرفوا مباشرة إلى ما ترتبه الصراعات السياسية، والتفاعلات الاجتماعية، والمنافسات الاقتصادية، من يوميات، تظهر عياناً بياناً، للقاصي والداني، وتفرض نفسها على إيقاع الحياة، الذي يتسارع بلا هوادة.

ويعود طغيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي على الفكري من زاوية المتابعة والرصد إلى عدة أسباب، أولها، الشعور العام بأن الأحداث المرتبطة بكل من السلطة والشركة والهيئة الاجتماعية أشد تأثيراً على معيشة الناس من عملية إنتاج الأفكار ونقلها. وثانيها، أن السياسي والاقتصادي أكثر بروزاً وأسهل تتبعاً من الفكري الذي يسري في أغلب الأحوال سرياناً ناعماً وخفياً، حتى في أقصى حالاته ضجيجاً. فنحن نستطيع أن نرصد بكل سهولة تأثير تراجع سعر الدولار أو النفط أو أسهم البورصة على أوضاع الناس، ويمكننا أن نقيس في يسر رد فعل الجمهور حيال قرار إجراء انتخابات أو اعتقال معارضين أو إبرام اتفاق مع دولة خارجية، بينما يصعب أن نعرف بدقة وإحكام ما فعله كتاب في العلوم الإنسانية أو رواية أو ديوان شعر في أذهان الناس وأذواقهم ومشاعرهم. وثالثها، أن تأثير الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي أسرع من تأثير الأفكار المجردة والآداب والفنون.

ولكن هذا لا يعني أبداً الاستهانة أو التهوين من دور الأفكار في صناعة مسارات البشر ومصائرهم، فتاريخ النهضة في أي زمان ومكان يبين بجلاء أن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي سبقه ارتقاء فكري، حدد الإطار المعنوي العام لمشروع التقدم الإنساني، ورسم ملامح القيم أو الأيديولوجيا التي تمنح السلوكيات والتصرفات في المجال المادي تبريراً، وتعين لها أهدافها وغاياتها.

ولهذا فإن الوقوف على حركة الفكر العربي في وقت معين ينطوي على أهمية قصوى في تحديد ما إذا كان العرب على عتبة الخروج من مأزقهم الراهن، وما إذا كان بوسعهم أن يحصلوا مشروع نهضة جديدا من عدمه. لكن من المؤسف أن هناك إهمالا شديداً في بناء مناهج واقترابات لقياس الحالة الفكرية العربية وتحليلها وتفكيكها، على رغم أن هناك العديد من الاقترابات التي تساعد في تصنيف الأفكار وتحليلها، والإحاطة بأطراف المعارك والقضايا الفكرية. وهذه الاقترابات منها ما يذهب مباشرة إلى معالجة هذا الأمر، ومنها ما يهتم بجوانب أخرى لكن عطاءه وفوائده يمكن أن تمتد إلى ما نحن بصدده في هذا المقام.

1 - النقد الثقافي: وهو يعني نقد الخطاب وكشف أنساقه، والبحث عما وراء "الأدبية"، أو ما خلف جماليات النص وبلاغته، بحثاً عن المضمر الأيديولوجي والقيمي. ويعني أيضاً، كما يذكر عبدالله الغذامي، استعمال المعطيات النظرية والمنهجية في علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والنفس وغيرها في تحليل النص من دون التخلي عن مناهج النقد الأدبي، وعدم الاقتصار على المنتج الثقافي النخبوي وتجاوزه إلى الثقافة الشعبية بمختلف تجلياتها المكتوبة والشفاهية والطقوسية.

2- التاريخ الثقافي: ويستلهم مناهج علم التاريخ في رصد حركة الثقافة، بما يساعد على عدم الإغراق في التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لا يمكن حصرها، ويؤدي الزعم بتتبعها جميعاً إلى التشتت والبعثرة. ويقتضي، كما يقول يوهان هويزنجا في كتابه "أعلام وأفكار" هذا الاقتراب الارتفاع فوق الصغائر إلى الإمساك بالخيوط الرئيسة والخطوط العريضة للظواهر الثقافية المتتابعة، أو النظر إليها نظرة كلية، تشبه نظرة الطائر إلى الغابة، إذ لن تقوم لدراسة التاريخ الثقافي قائمة إلا حين يتجه العلماء والنقاد إلى تحديد أنماط الحياة والفن والفكر مجتمعة.

3 ـ التحليل الثقافي: وهو اقتراب معرفي يمنحنا نظرة أكثر شمولية وإحاطية للظواهر، ويسد عجز المناهج السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في سبر أغوار الكثير من الظواهر الإنسانية الجديدة مثل "الصحوة الإسلامية" و"الانبعاث القومي". ويتوزع هذا الاقتراب -حسب ما يذكر السيد يسين- على أربعة مداخل، أولها ذاتي، ويركز على المعتقدات والاتجاهات والآراء والقيم التي يعتنقها أفراد المجتمع، وينظر إلى الثقافة باعتبارها صياغة ذهنية ذاتية، تساعد الفرد على تحديد رؤية للعالم وتفسير للواقع المعيش. والثاني بنيوي، وينصرف إلى الأنماط والعلاقات القائمة بين عناصر الثقافة ذاتها. أما الثالث فتعبيري ويركز على الصفات الاتصالية للثقافة سواء من زاوية المعلومات أو الرسائل والشفرات، وكيفية إدراكها في حال تفاعلها مع البناء الاجتماعي بوصفها ظاهرة جمعية. والرابع هو المدخل المؤسسي وينظر إلى الثقافة باعتبارها تتشكل من فاعلين وتقوم على أكتاف منظمات وهيئات في حاجة إلى موارد بشرية ومادية.

4 - المذهب الثقافي: ويرمي إلى بناء نموذج إرشادي، أو إطار للتفكير، ورؤية للعالم، مثل البنيوية والوظيفية وغيرهما. وأهم زاوية للمعالجة يمنحها لنا هذا المصطلح هي أن المجتمعات المتماثلة في درجة نموها الاقتصادي يمكن أن تكون متمايزة تماماً من الناحية الثقافية، فكل مجتمع يميل إلى أن يكون "كلا ثقافياً" فريداً وأصيلا. كما أن أي ثقافة تنطوي على قيم مهيمنة وأخرى ثانوية، وقيم راسخة وأخرى متغيرة.

5 - الأزمة الثقافية: وتنطلق هذه النظرية، التي رسم ملامحها الأساسية الألماني هانز بيتر درايتزل من أن الثقافة لا تحلق في فراغ وإنما هي تتفاعل طيلة الوقت مع مختلف ركائز القوة في المجتمع، وتسعى إلى الحفاظ على أنماط الإنتاج المتواجدة، عبر إمدادها بتبريرات ترسخ شرعيتها، وتوفر أساليب ومضامين التنشئة الاجتماعية، معرفياً وقيمياً وتوجهاً، والتي تجعل الفرد مرتبطاً بهذه الأنماط، ومدافعاً عنها، علاوة على تقديمها تفسيرات محددة لمسار الحياة الإنسانية. وحسب درايتزل فإن الثقافات تعاني دوماً من ثلاث أزمات محددة هي: أزمة الهوية، وأزمة الشرعية، وأزمة العقلانية، وهي أزمات يعاني منها العرب المعاصرون معاناة شديدة، كما هو ظاهر للعيان.

*نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية بقلم عمار علي حسن