I- المشروع

1- السياق والغايات

"...علينا أن نجعل من هذه الذكرى الذهبية للاستقلال، وقفة تاريخية لتقييم الأشواط التي قطعتها بلادنا على درب التنمية البشرية، خلال نصف قرن، بنجاحاتها وصعوباتها وطموحاتها، مستخلصين العبر من اختيارات هذه المرحلة التاريخية، والمنعطفات الكبرى، التي ميزتها، مستهدفين من ذلك ترسيخ توجهاتنا المستقبلية، على المدى البعيد بكل ثقة ووضوح، مبرزين بكل تجرد وإنصاف، الجهود الجبارة، التي بذلت لوضع المغرب على سكة بناء الدولة الحديثة. وتلكم خير وفاء للذكرى الخالدة لصانعي استقلال الوطن".

بهذه العبارات أعطى جلالة الملك محمد السادس، في خطابه بمناسبة ذكرى 20 غشت 2003، الانطلاقة لمشروع جماعي وتشاركي للدراسة والتأمل والنقاش، يهم إنجاز تقويم استرجاعي لمسار التنمية البشرية بالمغرب، منذ الاستقلال، واستشراف آفاقها، على مدى العشرين سنة القادمة. ولقد تمت بلورة هذا المشروع في صيغة تقرير يحمل عنوان "50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025".

وتتمثل الغاية الأولى من هذا المشروع في تغذية النقاش العمومي وفتحه على أوسع نطاق، حول السياسات العمومية التي يتعين تفعيلها في المستقبل القريب والبعيد، وذلك في ضوء الدروس المستخلصة من إخفاقات الماضي ونجاحاته.

ترتكز دوافع هذه الدعوة للنقاش على القناعات الثلاثة التالية :
• إن مصير بلادنا يوجد بين أيدينا، فبلادنا في مفترق الطرق، وتتوافر اليوم على وسائل انخراطها الحازم في طريق طموح وطني كبير، يتقاسمه الجميع ويتمفصل حول التنمية البشرية. وللقيام بذلك يتعين المجموعة الوطنية اعتماد اختيارات منسجمة وتسريع الوتيرة وتعميق أوراش الإصلاح، وتحقيق القطيعة التامة مع الممارسات والسلوكات التي ظلت تعيق التنمية في بلادنا ؛
• إن فضائل النقاش العمومي، لا تقدر بثمن، ولا شيء يمكن أن يعوض، في مجال تدبير الحياة السياسية جدال وتلاقح الأفكار والمفاهيم والتحاليل، طالما كان الهدف هو خدمة المشروع الوطني المتقاسم بين الجميع ؛
• إن الممارسة الديمقراطية الموطدة، هي وحدها التي يمكن أن توجه بلادنا نحو السير الثابت على طريق النجاح. فممارستها بمثابرة، مدعمة بتحمل كل واحد منا لمسؤولياته، مع تحلي الجميع باليقظة، يجعل منها لا مجرد ترف فكري أو حلما يستحيل تحقيقه.

يتسم هذا التقرير بكونه يتأسس على مبادئ المشاركة والتبني الوطني والاستقلالية العلمية والتحريرية، حيث انخرط في إعداده ما يفوق مائة من الكفاءات الجامعية والإدارية وفعاليات المجتمع المدني.

إن المفهوم المحوري لهذا المشروع، يتمثل في "التنمية البشرية". وهو يوفر فرصة متميزة للإحاطة بمجموعة كبيرة من الموضوعات والأسئلة، المترابطة، في الغالب، مع بعضها البعض، مما يجعل من الصعب تناولها بمقاربات أحادية التخصص. وبذلك، فإن توظيف هذا المفهوم، حديث الاستعمال نسبيا، والذي ما يزال في طور التعميق، قد أثرى، بالتأكيد، الأشغال المنجزة، في إطار التقرير.

أنجزت أشغال التقرير في خضم مرحلة يشهد خلالها المغرب إطلاق أوراش مهمة للإصلاح، كما تجتاز فيها بلادنا فترة تاريخية، تميزها العديد من السيرورات الانتقالية: ديمقراطية وسياسية وديموغرافية ومجتمعية واقتصادية وثقافية. إنها مرحلة التساؤلات العميقة القادرة على بلورة المشاريع الكبرى، وعلى تجديد المشروع الوطني وتسريع وتيرة التنمية البشرية ببلادنا.

وفي هذا الصدد، فإن التقرير ظل يستحضر الأبعاد المحددة للتنمية البشرية التي تعتبر بدورها محددة ليس فقط بالرهانات والاختيارات السياسية ولكن أيضا بالسياقات المختلفة والظرفيات الداخلية والخارجية التي تشرط هذه الاختيارات. وهكذا فإن محاولة القيام بقراءة لماضينا وتاريخنا في ضوء المرجعية القانونية والإثنية والمفاهيمية، المتداولة اليوم، دون مراعاة الطابع النسبي للسياسات العمومية، بالنظر إلى مختلف سياقاتها وتياراتها التنموية المعتمدة، حين بلورتها ؛ إن عدم الأخذ في الاعتبار كل ذلك كان من الممكن أن ينزلق بالتقرير في اتجاه عدم الإنصاف والوفاء بالأمانة إزاء الفاعلين في تلك الحقبة.

يقترح تقرير "50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025" قاعدة معرفية مدعمة بالدلائل والحجج، لتغذية النقاش، مع استخلاص العبر والدروس من التجربة الماضية للبلاد، ومقترحا بعض مسالك التفكير لاستشراف العقدين المقبلين. ولذلك فهو يتوخى مساهمة وطنية، تحركها الروح الوطنية ومراعاة شروط الموضوعية.

وتتمثل رسالته الرئيسية في التأكيد على أنه بفضل هذه النظرة التأملية في نصف قرن الماضي، سيكون بإمكان المغرب، المتصالح مع نفسه ومع ماضيه، والقوي بنجاحاته المحرزة، والمستفيد من العبر المستخلصة من إخفاقاته، والمعتمد على نسائه ورجاله وشبابه وقدمائه ؛ أن يسلك، بكل ثقة وطمأنينة، السبيل الواعد لتنمية بشرية أفضل.

2- سيرورة المشروع وإنتاجاته

انطلقت سيرورة إعداد هذا التقرير، منذ شهر دجنبر 2003، بإحداث لجنة مديرية وأخرى علمية. وقد كلفت اللجنة المديرية بالإشراف العام على المشروع، أما اللجنة العلمية فقد أنيطت بها الجوانب العلمية والمنهجية.

ولإنجاز هذا المشروع، تم اعتماد دفتر عام للتحملات من قبل اللجنة المديرية، في شهر أبريل 2004، قصد تنظيم أشغاله والتخطيط لإنجازه. وفي هذا الإطار، تشكلت عشر فرق للعمل، عكفت على معالجة الموضوعات التالية :

الديمغرافيا والساكنة ؛
المجتمع والأسرة والنساء والشباب ؛
النمو الاقتصادي والتنمية البشرية ؛
المنظومة التربوية، المعرفة، التكنولوجيا والابتكار ؛
منظومة الصحة ونوعية الحياة ؛
ولوج الخدمات الأساسية والاعتبارات المجالية ؛
الفقر وعوامل الإقصاء الاجتماعي ؛
الإطار الطبيعي، البيئة والمجالات الترابية ؛
الأبعاد الثقافية والفنية والروحية ؛
الحكامة والتنمية التشاركية.

وعلاوة على ذلك، تم تأليف ثلاث فرق أفقية، اشتغلت على الجوانب الآتية :
مجمل تركيبي للتطور التاريخي للمغرب المستقل ؛
دراسة استشرافية للمغرب، في أفق سنة 2025، وكذا دراسة المقارنة للمغرب بعينة تتكون من 14 بلدا خلال المرحلة الممتدة بين 1955 و 2004 ؛
بحث حول قيم المغاربة.

ولقد استعانت هذه الفرق، التي قام بتنشيطها أعضاء من اللجنة العلمية، بشبكة تضم باحثين وخبراء، أنجزوا دراسات متخصصة، في العديد من محاور الموضوعات المدرجة في المشروع. كما تم تنظيم اجتماعات ونقاشات ولقاءات للتفكير الجماعي، على امتداد مراحل إنجاز المشروع. واتسمت النقاشات المتبادلة بحرية التعبير وبإرادة خدمة الوطن، مما جعل منها إسهاما أساسيا في البحث عن الموضوعية والسعي لبلوغ الجودة المتوخاة.

وتتألف محصلات المشروع من سلسلة من الوثائق، تتجسد في ثلاث دوائر تؤسس كل واحدة منها الأخرى. وهي كما يلي :
▪ 75 إسهاما فرديا كل واحد منها موقع من طرف معده. وقد تم تجميعها في 8 مصنفات موضوعاتية ؛
▪ 16 تقريرا موضوعاتيا وأفقيا، معدة من قبل 13 فريق عمل، تعود إليها المسؤولية في مضمون تلك التقارير ؛
▪ التقرير العام، الذي يقوم بتركيب النتائج الكبرى للدراسات الموضوعاتية والأفقية، دون أن يكون مجرد تجميع لها. ويوطد هذا التقرير العبر المستخلصة من التقويم الاسترجاعي، كما يحاول أن يرسم صورة استشرافية لآفاق سنة 2025. على أن اللجنة المديرية للمشروع تتحمل المسؤولية المتعلقة بخطه التحريري. وفضلا عن ذلك، تم إرفاق التقرير العام بملحق في شكل أطلس مبياني، يبرز تطور ما يفوق مائة مؤشر مفتاحي، على مدى الخمسين سنة الفارطة.

وقد تم إعداد هذه الوثيقة، التي لا تقدم كل محاور ومحتويات التقرير العام ولا تعوض الغنى المميز للتقارير الموضوعاتية والمساهمات الفردية، من أجل تقديم مجمل تركيبي لما هو أساسي في التقرير.

ولأن هذه الوثيقة موجهة لعموم الرأي العام، فقد روعي في إعدادها أسلوب ومنهجية يجعلانها في متناول الجميع.

II - تقديم تركيبي للتقرير العام

يتمحور التقرير العام حول مفهوم "الإمكان البشري"، الذي يعد، في الوقت ذاته، محرك التنمية البشرية وغايتها. وفي ضوء ذلك، تم تقويم ما حققته بلادنا، دولة ومجتمعا، من تقدم وما اعتراها من نواقص، وذلك من خلال خمسة محاور استرجاعية لمسار المغرب. وهي :
• تطور الإمكان البشري للمغرب كشعب : الديموغرافيا والساكنة، المجتمع والتراث الجماعي، المكون الطبيعي والثقافي ؛
• تحرير الإمكان البشري للبلاد كدولة، : المسار المؤسساتي، البناء الديمقراطي والحكامة ؛
• تثمين الإمكان البشري، باعتباره حياة وتجليات : الصحة، التربية، ولوج الخدمات الأساسية، الحماية الاجتماعية ومحاربة الفقر ؛
• تعبئة الإمكان البشري، من حيث هو قوة عمل وإنتاج للثروات : الاقتصاد والشغل ؛
• الإمكان المادي والطبيعي، بوصفه إطارا وموردا للتنمية البشرية : تدبير الموروث الطبيعي والمادي، المجالات الترابية والبنيات التحتية.

وبعد دراسة التطورات ومكامن العجز والمكتسبات، في مختلف الميادين، يقترح التقرير وصفا مجملا لحالة المغرب خلال سنة 2005، مثيرا، في سياق ذلك، التساؤلات الكبرى المطروحة عليه، ويقف على اتجاهات الوازنة لتطوره الحالي، والتي سيكون لها تأثير على مستقبل البلاد، كما يحدد " بؤر المستقبل" التي تحمل العديد من الإشكاليات الكبرى التي تستدعي انعطافات حاسمة من أجل تشييد مغرب أفضل.

وبعد ذلك، يعرض التقرير رؤيتين متقابلتين لبلادنا، في أفق سنة 2025، بحسب مدى قدرتنا على إنجاح الانتقالات الحالية، والانخراط الموفق في الإصلاحات الجديدة، التي ما أحوجنا إليها.

وفي الأخير، يقدم التقرير بعض المسالك الاستراتيجية ومحاور التجاوز الممكنة، في صيغة مجموعة من الاقتراحات التي تشكل قاعدة مساعدة على بلورة أجندة 2025، التي يتعين أن تكون ثمرة نقاش واسع بين كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين ببلادناس.

بيد أن التقرير تعمد تجنب الغوص في خطاب برنامجي واستشرافي محكم، وذلك من منطلق الوعي بأنه يعود للفاعلين السياسيين بلورة هذه البرامج والدفاع المشروع عنها.




1. تطور الإمكان البشري بالمغرب
الساكنة، التحولات الاجتماعية والدينامية الثقافية

بالرغم من تاريخ مؤلم في بعض الأحيان، ومتسم بفترات انطواء وركود، ظل الشعب المغربي وما يزال متشبثا بجذوره، منفتحا، بصفة عامة، على محيطه، ومستشعرا لنداء المستقبل. وهكذا، فقد اتسمت ساكنة البلاد، في الوقت نفسه، بتنوع كبير، وبقدرة فائقة على الاندماج والتلاحم. لقد تمكنت روافده المتعددة ولاسيما منها، الأمازيغ والعرب واليهود والأندلسيون والأفارقة من التعايش ومن تنمية وعي بالانتماء الجماعي. كما أن مختلف هذه المكونات عرفت كيف تبدع وسائل لتجاوز التوترات، من أجل أن تعيش جنبا إلى جنب، ولتتساكن مع الاختلاف الإثني واللغوي والديني، ولتصنع تاريخا مشتركا، هو تاريخ المغرب.

ولم يعمل المسلسل الطويل، الهادف إلى طي ملف الوحدة الترابية إلا على إعطاء دفعة قوية للإحساس الوطني. وإذا كان المغرب، وما يزال، يبذل جهودا قصوى واستثنائية، بعد مضي خمسين سنة من نيله للاستقلال، فإنه يظل ملتئما بالإجماع حول الملكية، بوصفها الضامنة لسيادته ولوحدته الترابية المنسجمة والمعبأة والثابتة.

ينبع غنى الإمكان البشري للبلاد، بالأساس، من وحدته المتراصة داخل تنوعه الكبير. وقد تجلت هذه الوحدة، بوضوح، من خلال الحماس الكبير للحركة الوطنية بزعامة جلالة الملك محمد الخامس ؛ ذلك الحماس الذي عبأ جميع مكونات الشعب المغربي، ومكنها من التغلب على كل محاولات التفرقة.

ولم تتمكن الاجتياحات السابقة ولا الفترة الاستعمارية، التي لم تدم إلا خمسين سنة، مفضية إلى إلى خلخلة البنيات الاجتماعية، لا من الإضرار باستمرارية المغرب كدولة وأمة، ولا من التأثير على وحدة شعبه، اللتين تمت المحافظة عليهما عبر القرون، بالرغم من التغيرات التي طرأت على حدوده. ولقد فرض العمق التاريخي للدولة على المستعمر أن يتلاءم مع هذه المعطيات، لإنتاج شكل للحماية يراعي، نسبيا، خاصية المجتمع والشعب المغربين.

ومنذ الاستقلال، عرف الشعب المغربي كيف يجمع بين التشبث بهويته المتعددة والتصميم، على الانخراط في الحداثة، وعلى احتلال مكانته داخل العالم المعاصر، مع استمراره تحت ظل المؤسسة الملكية، في إغناء وتطوير شخصيته، بخصائص ثقافية أصيلة، وفي ممارسة تقاليده الاجتماعية الخاصة، كما يشهد على ذلك غنى وحيوية تراثه الروحي والثقافي.

إن تعابير هذا التراث، الناجمة عن إرث متجذر في تاريخ يمتد عبر آلاف السنين، هي متعددة المعالم سواء تعلق الأمر بالآثار الأنثروبولوجية، أو بالإنجازات المعمارية، أو بالصناعة التقليدية، أو بفنون الطبخ واللباس، أو بالأساليب الأدبية، المكتوبة منها أو الشفوية أو الخطية، أو الموسيقى والتعابير الجسدية أو المنتوجات الفنية بجميع أشكالها. فقد استطاع المجتمع المغربي، على مدى خمسين سنة، أن يحتفظ بأجزاء كاملة من هذا التراث، مع إخضاعه لدينامية تجديدية، من الناحية الفنية والثقافية. وهكذا، فسواء تعلق الأمر بالأشكال التعبيرية التقليدية أو بالأجناس الحديثة ) مسرح، سينما، فنون تشكيلية وموسيقى( ؛ فإن المغرب شهد ظهور العديد من المواهب اللامعة داخل البلاد وخارجها.

ومع ذلك، لا بد من الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن التراث الأنثروبولوجي والمعماري ما يزال عرضة لشوائب الزمن وللأضرار البشرية، بالرغم من إدراج العديد من المواقع والمعالم ضمن لائحة التراث الثقافي العالمي. وينطبق نفس الشيء أيضا على العديد من أنواع المهارات والمعارف الحدسية المحلية، التي ما تزال مهمشة ومهددة بالاندثار.

2.1. التحولات الديموغرافية والاجتماعية

عرف المغرب على مدى الأربعين سنة التي تلت استقلاله، نموا ديموغرافيا مرتفعا، يميل حاليا نحو الاستقرار. مما جعله أمام تحدي احتواء هذا النمو، على المدى البعيد، وذلك بوضع برامج للتنمية الاقتصادية والخدمات الأساسية، ولاسيما منها التربوية والاجتماعية، الكفيلة بأن تكون في مستوى الحاجيات المتزايدة للساكنة، من أجل تحسين مستوى عيشها، أو على الأقل للحيلولة دون تدهورها.

وبسبب التطور الذي طرأ على الحياة الأسرية والسلوكات الإنجابية لدى النساء المغربيات، وبفضل ارتفاع مستوى التعليم والتحولات المجتمعية وبرامج التخطيط العائلي، التي انخرطت فيها شرائح كبيرة من الساكنة النسوية، تمكنت البلاد من التحكم في نمو ساكنتها. ومن ثم، توجد بلادنا اليوم في وضعية انتقال ديموغرافي، يتجسد في تباطؤ وتيرة تزايد عدد السكان، بفعل الانخفاض المستمر لنسب الوفيات وتراجع معدل الإنجاب. وهكذا انتقل معدل الحياة من 47 سنة في 1962 إلى 71 سنة في 2004، نتيجة انخفاض نسبة وفيات الأطفال وتحسين التأطير الطبي، وتحسن شروط التزود بالماء الشروب، وتعميم برامج التلقيح.

أما بالنسبة للإنجاب، فقد تراجع من 7 أطفال للمرأة الواحدة سنة 1962 إلى 2،5 سنة 2004. ويرجع ذلك، أساسا، إلى التقدم الحاصل في تمدرس الفتيات وتوسع التمدين، الذي سبب في تأخر الزواج، وكذا إلى سياسات التخطيط العائلي.

يشكل التغيير الحاصل في بنية أعمار الساكنة إحدى التعبيرات العميقة والحاسمة عن الانتقال الديموغرافي. ففي الأعوام القادمة، سيتزايد عدد الأشخاص البالغين سن العمل سنويا، باطراد، كما سيصبح عدد السكان النشيطين، ولعشر سنين أخرى، أكبر من أعداد الساكنة غير النشيطة، مما سيطرح تحديات جدية أمام منظومتنا التربوية ومقاولاتنا وقدرتنا على خلق وصيانة بيئة أكثر ملاءمة لخلق مناصب كافية للشغل.

وفي أصل التحولات الكبرى التي شهدها المغرب، توجد أيضا، ظاهرة التمدين التي ارتفعت نسبتها من 29 % سنة 1960 إلى 55 % سنة 2004. وإذا كان هذا التحول قد طرأ لصالح المدن، التي يفوق عدد سكانها 100.000 نسمة، فإن اتجاه التطور الذي حصل خلال العشرين سنة الأخيرة كان مطبوعا بإعادة الانتشار، لحساب المدن المتوسطة والصغرى، سواء فيما يخص التوزيع الجغرافي أو ما يتعلق بوتيرة النمو. وتظل هذه الظاهرة متسمة بتفاوتات واضحة أهمها : التمركز في بعض المدن الكبرى، والطابع الساحلي، الذي يتجسد في هيمنة الساحل الأطلسي، وبخاصة في المحور الممتد بين القنيطرة والجديدة، وعدم التناسق، الذي يتجلى في وجود مناطق حضرية، إلى جانب مناطق ظلت قروية، إلى حد كبير، وكذا من خلال انتشار السكن الغير اللائق، والخصاص الملاحظ، في المرافق الجماعية، مما أفضى إلى ترييف بعض المجالات الحضرية.

ومع توسع التمدين، وتكريس التعاملات النقدية، وتعميم اقتصاد السوق، والتقدم النسبي في مجالي الصحة والتربية، وولوج وسائل الإعلام العصرية، والتفتح على الأفكار والنماذج المتداولة في أنحاء العالم، اتجه المجتمع المغربي إلى اعتماد وتطوير طرق جديدة للحياة والعمل، والاستهلاك والسلوك. وهكذا، انتقلت الأسرة تدريجيا، من بنية ممتدة وأبوية إلى بنية نووية، وفي بعض الأحيان إلى بنية عائلية، ذات رب أسرة واحد. كما أن النساء قطعن أشواطا مهمة في تحقيق حريتهن، وبدأن يشتغلن خارج البيت ويقمن بتنمية مشاركتهن في الحياة العامة.

وتأكدت ظاهرة الحركية السوسيو-جغرافية، وتراجع التضامن التقليدي، بالرغم من كون عدد كبير من المغاربة ظلوا متمسكين بالقيم الأسرية، عن اقتناع أو لضرورة سوسيو-اقتصادية. وفي السياق نفسه، ظهرت قنوات جديدة للتعبير، وبرز فاعلون جدد في هذا المجتمع المتحول، من بينهم، على الخصوص، حركة جمعوية، أضحى نشاطها يتزايد باطراد، خلال العشرين سنة الأخيرة.

وعلى مستوى آخر، فقد هم التحول، في الآن ذاته، التراتبات وأشكال الحركية الاجتماعية، حيث أدت إلى تبلور طبقات وسطى. هذه الأشكال الجديدة للتباين وللتراتبية الاجتماعية، التي عرف تشكلها في عهد الحماية، ستشهد بعض التجدد، من خلال الأنماط الجديدة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي، غير أن هذه السيرورة لم تمكن بلادنا من التوفر فعليا على طبقة وسطى منسجمة، ذات وعي مشترك بالانتماء، وقادرة على أن تلعب دورا محركا في الدينامية الاجتماعية.

أما العالم القروي، فإنه ظل معزولا، بشكل ملحوظ، عن مجموع هذه الديناميات سواء تعلق الأمر بمستوى التنمية الاقتصادية أو بمستوى التنمية البشرية أو بالنظر إلى التحولات الاجتماعية. وبذلك فإن الفوارق بين المدن والقرى تبدو صارخة، وتستدعي أجوبة اقتصادية واجتماعية.

كل هذه التحولات، التي تم الحديث عنها، واكبتها تحولات عميقة أخرى، على مستوى مرجعيات القيم. وتحدث هذه التغيرات، أساسا، عبر ترسبات معقدة، لا من خلال قطيعات واستبدالات. وهكذا، فالبلاد تعرف انتقالا تتعايش ضمنه مرجعية تقليدية إلى جانب قيم ناشئة ؛ ذلك أن العديد من المغاربة يعيشون ازدواجية أو التباسا، حيث يغيرون القيم والمواقف والسلوكات "المحافظة" جدا، أو على العكس من ذلك "الأكثر حداثية"، حسب السياقات والمواقع والمصالح. وهناك من يرى في هذه الظاهرة مهارة وقدرة على التكيف، تسير في اتجاه متلائم مع الحفاظ على الهوية والانخراط الإرادي في الحداثة. في حين يرى آخرون في هذه الظاهرة نوعا من الرجعية، أو على الأقل ترددا في الانخراط بجرأة في التيار الراهن للقيم الكونية. ومن ثم، فمن المرجح أن المجتمع المغربي يشهد هذين النموذجين من التفكير والسلوك، وأن تشكله المستقبلي رهين بقدرته على التخلي عن الماضوية المفرطة في المحافظة، وعلى تحديث ذاته في العمق، دون التضحية بالسمات المميزة لإرثه وهويته.


3.1. المرأة والشباب والجالية المهاجرة

إن هذا الوصف العام للإمكان البشري بالمغرب لن يكتمل إلا إذا تم الأخذ بعين الاعتبار، وعلى نحو خاص، ثلاثة مكونات كبرى :

الجالية المغربية المهاجرة إلى الخارج : إذا كانت الهجرة المغربية نحو أوروبا قد تمت بشكل متأخر، بالمقارنة مع بلدان الجنوب الأخرى، فإن عدد المغاربة المقيمين بالخارج (M.R.E.) لم يفتأ يتزايد، خلال نصف القرن الماضي. وبذلك أضحت هذه الجالية تشكل اليوم إحدى أهم الجاليات الأجنبية في بعض بلدان الاستقبال، كما تمثل إمكانا مهما لبلدها الأصلي. وفي هذا الصدد، فقد عرف "مغاربة العالم" نهضة ملحوظة منذ منتصف التسعينيات، تنحو نفس منحى آليات اشتغال كبرى شبكات الجاليات عبر العالم. وفضلا عن تدفق التحويلات بالعملة الصعبة، يمكن للمغرب أن يستفيد من كل مكونات جاليته، على مستوى الإشعاع الخارجي، وتكوين لوبيات اقتصادية ومالية، ونقل العلوم والتكنولوجيا والإغناء الثقافي ؛

المرأة المغربية : لعبت المرأة دورا مهما في تطور الإمكان البشري ؛ فبعد الفترة التي كانت فيها مهملة تماما في عملية التنمية البشرية للمغرب المستقل، استطاعت بفضل كفاح طويل قطع أشواط مهمة لا ينكرها أحد اليوم ولا أدل على ذلك من إصلاح مدونة الأسرة وقانون الجنسية. وقد جاءت هذه المبادرات المتقدمة لتتوج النشاط الدؤوب لحيوية الحركة النسائية ونضالها وتشبثها بحقوقها. ولقد كانت هذه الحركة في نفس الوقت نتيجة طبيعية لانفتاح السياسي والديمقراطي كما لعبت دورا مؤثرا في هذا المسار ؛ وبالفعل فلقد قامت الحركة النسوية بدور طلائعي في مجال توسيع دائرة المشاركة المواطنة في النضج السياسي، وفي تثبيت هوية المجتمع المدني. كما أنها أسهمت في النقاش الديمقراطي حول القضايا التي تهم فعليا وضع المرأة لكنه تجاوز، في العديد من المناحي، هذا النطاق ليتحول إلى نقاش أوسع حول الحقوق والحريات وتكافئ الفرص.

الشباب : من غريب المفارقات أنه بالرغم من كون الشباب يمثل النسبة الأكبر من السكان، فإن سياسات المغرب المستقل، باستثناء بعض الجهود المتميزة على الصعيد القطاعي، لم تدمج أبدا، وعلى الوجه الأمثل، الشبيبة ضمن المعادلة الشاملة للتنمية. فمحدودية الآفاق، والصعوبات التي تعترض تحقيق الذات، والتكوين المحدود والبطالة، ومختلف أشكال العوز والحاجة ؛ كلها معطيات تدفع إلى تنام الشعور بالإحباط واليأس. ولعل الظواهر المعبرة عن الشكل المأساوي، في بعض الأحيان، الذي تتخذه الهجرة السرية، ومحنة العاطلين من بين حملة الشهادات ؛ كلها تشهد على الاختلالات الكبيرة في استثمار الموارد البشرية الوطنية. وهكذا، فإن هذا الرصيد الثمين يظل مهددا بعاملين سلبيين : الهجرة متسارعة الوتيرة للكافاءات، وتلك المجموعة من الشباب الذين تقودهم ظروفهم إلى المخاطرة بحياتهم من أجل البحث عن سراب غد أفضل في شمال المضيق.


2. النظام السياسي، المؤسسات والحكامة
تحرير الإمكان البشري

1.2. التوازن بين الاستقرار السياسي ودينامية المعارضة

منذ استقلاله، انطلق المغرب، في السير المطرد نحو تحقيق نموه المؤسساتي والسياسي، هادفا بذلك إلى بناء دولة عصرية. وإن تنصيص القانون الأساسي الأول على مبادئ الملكية الدستورية، والتعددية الحزبية، التي تسمح لمختلف مكونات المجتمع المغربي بالتمثيلية داخل البرلمان، كانت حاضرة قبل الاستقلال، في خطاب الحركة الوطنية، كما في مواقف جلالة الملك محمد الخامس. وإذا كان هذا النهج قد تم بنوع من الانسجام، على العموم، فإن الطريق ظل صعبا، حيث تخللته لحظات تراوحت بين تحقيق بعض التقدم أحيانا، وبروز بعض التوترات والعوائق، أحيانا أخرى. بيد أنه مع استبعاد خيار الحزب الوحيد، منذ البداية، والالتزام باحترام حق تنظيم معارضة مشروعة، تتمتع بحرية التعبير عن آرائها ومواقفها، وفسح المجال أمام صحافة تعددية، بالرغم من وجود زجر وردع وازنين، في بعض الحالات، في الفترة الماضية، فإن بلادنا تمكنت من ضمان السلم المدني وعدم الوقوع في انحرافات كليانينة، متجنبة بذلك ما انجرت إليه بلدان مماثلة، حديثة العهد بالاستقلال. وهكذا، فتح المغرب إمكانية تبلور ثقافة سياسية تعددية، أتاحت له، فيما بعد، الدخول في مسار حقيقي، وإن كان بطيئا، للانتقال الديمقراطي.

ولقد تطلب الحفاظ على التوازن بين استقرار المؤسسات ودينامية المعارضة، وبين ضمان الأمن والحرية والمشاركة في الحكم واستمرارية الاختيارات الأساسية للدولة مجهودات جبارة : مشاورات وطنية على نطاق واسع، إعداد ومراجعة الدستور، إقرار وتحيين القوانين والأنظمة، إعادة هيكلة المؤسسات، إعادة تنظيم أجهزة الدولة، وإدماج النخب السياسية والإدارية. كما توالت فترات شهدت، أحيانا، مشاركة واسعة للأحزاب في الحكومة وعرفت، أحيانا أخرى، حالات تشنج، لم تصل إلى حد انقطاع الحوار بين الفرقاء السياسيين.

ولقد فسح بناء نظام سياسي جديد، غداة الاستقلال المجال أمام صراع على السلطة، اتخذ أشكالا عنيفة، في بعض الفترات. وكان ثمنه باهضا، بالنسبة للتنمية البشرية بالبلاد، نظرا لما تطلبه من كلفة إضافية للحفاظ على الأمن وإدارة المراقبة الاجتماعية، ونظرا للتأجيل المتكرر لأولويات البلاد، على حساب المشاكل الاجتماعية لأغلبية الساكنة، وفي اتجاه لم يكن ليخدم مصالح وصورة بلادنا وجاذبيتها.

2.2. انفتاح الحقل السياسي

مع تعاقب السنوات، وبفعل الانفتاح الذي تشجعه الثقة في رسوخ مقومات الدولة الفتية، التي كانت ما تزال قيد التكون، حقق المناخ السياسي، شيء فشيئا، صفاءه وهدوءه. ولقد حدث هذا التطور بفضل الانخراط الوطني لكل القوى الحية في القضايا الوطنية والترابية للبلاد، وبسبب المرونة والليونة التي اكتستها بعض المواقف الحزبية، التي كانت متسمة بالتشدد، فيما يتعلق بالإصلاحات الدستورية ونماذج التنمية المتبناة، وكثمرة، كذلك، للتوافق الواسع الذي حصل حول المؤسسات والاختيارات الأساسية للبلاد. هذا التوافق يبقى مفتوحا على كل التعديلات الدستورية التي يمكن أن تمليها متطلبات توطيد المكتسبات الديمقراطية، وبناء الدولة العصرية وكذا الدفاع عن الوحدة الترابية. وتبين الدروس المستخلصة من خمسين سنة المنصرمة أن الجهود على هذا المستوى لم تعرف أبدا طريقها إلى التحقيق، ضمن التوترات المشحونة التي تمكنت الملكية في كل مرة أن تتخذ منها مبادرات ملائمة وفعالة في ميدان الإصلاحات الدستورية.

وانطلاقا من ذلك، شهدت بلادنا طيلة التسعينات تسريع انفتاح الحقل السياسي بدعم قوي من الملك الحسن الثاني وانخراط الأحزاب السياسية الرئيسية : يشهد على ذلك، بصفة خاصة، المراجعات الدستورية في 1992 و1996، إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990، وصدور العفو الملكي العام الذي كان مسبوقا بقرارات متعددة للعفو الجزئي، وتحسن شفافية الاستشارات الانتخابية، ومشاركة المعارضة السابقة، ولاسيما منها الممثلة لليسار، في الحكومة سنة 1998، وإحداث لجنة مستقلة، لتعويض ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

ومنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة، تم إعطاء دفعة جديدة لتحرير الإمكان البشري للبلاد : فقد تمت بلورة مشروع ديمقراطي حداثي مع الالتزام الحازم به، ومباشرة مفهوم جديد للسلطة. كما تم إدخال تغييرات مهمة على مستوى المسؤوليات السياسية والإدارية المركزية والترابية، إقرار مدونة جديدة للأسرة وتأهيل البنيات التشريعية، فتح أوراش كبرى للتنمية،إحداث مؤسسة محمد الخامس للتضامن، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وديوان المظالم. وخلال السنة الحالية، التي تصادف الذكرى الخمسينية للاستقلال، دعت هيئة الإنصاف والمصالحة والتوصيات الصادرة عنها إلى الطي النهائي لملف انتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق مصالحة المغاربة مع تاريخهم المعاصر، وإقامة حياة ديمقراطية فعالة.

3.2. نمط للحكامة ما يزال يبحث عن ذاته

إن تحليل تجربة الخمسين سنة الأخيرة، يثير بقوة، مسألة جوهرية أخرى، تتعلق بإشكالية الحكامة سواء على صعيد المركز أو المجالات الترابية، أو القطاعات العمومية أو الخاصة.

فبالنسبة للامركزية الترابية، يمكن القول بأن المغرب شرع في نهجها بشكل مبكر، حيث نظم سنة 1960 الانتخابات الجماعية العامة، التي كانت الأولى من نوعها في تاريخه. وجاء الميثاق الجماعي، الذي تم اعتماده سنة 1976، ليوسع اختصاصات المجالس الجماعية. كما اعتُمد ميثاق جماعي آخر سنة 2002، وأُجريت الاستشارات الانتخابية الجماعية بانتظام، كما أجريت افتحاصات للتسيير الجماعي، وإن كانت انتقائية وعرضية.

غير أنه، يتعين ملاحظة أن هذه التجربة الطويلة، وهذه المحاولات الرامية إلى تفعيل الحكامة الترابية، لم تحقق النتائج المتوخاة منها. إذ أن الانزلاقات الحاصلة في العمليات الانتخابية، والطابع العرضي وغير المستقر للتحالفات الحزبية المحلية، والتكوين المتفاوت للمنتخبين، وسوء التدبير، والتقطيع الترابي غير الملائم ؛ كلها عوامل، من بين أخرى، أضرت بالتنمية البشرية، في العديد من الجماعات القروية والحضرية.

تنضاف إلى هذه المشاكل، استمرار ثقافة مقاومة التغيير المتسمة بطابعها المتمركز، وبعدم إبدائها سوى لاستعداد محدود للثقة وتفويض الاختصاصات. وهكذا، يبقى اللاتمركز الإداري، بوصفه اللازمة الضرورية للامركزية، بعيدا عن مصاحبة هذه الأخيرة وتقويتها ودعمها بكيفية يقظة ووازنة.

ومن ثم، يسود الانطباع بأننا ندور في حلقة مفرغة، بالنظر إلى أن الشوائب التي تعترض اللامركزية والتسيير الجماعي، تبدو وكأنها تقدم نوعا من المشروعية للمقاومة، ذات النزوع نحو التمركز، وذلك في الوقت الذي تعرقل فيه النواقص التي يعاني منها اللاتمركز إمكانية اعتماد حكامة ترابية ناجعة ومنسجمة.

وفي نفس الاتجاه، تطرح بحدة، مسألة التنمية الجهوية في إطار أقطاب كبرى طبيعية وبشرية، لكل واحد منها إمكاناته المتميزة، والتي تبقى متضامنة فيما بينها. وهذه المسألة ما تزال مطروحة، بالرغم من المبادرات المتعددة الهادفة إلى تحقيق جهوية فعلية.

وعلاوة على العوامل السالفة، يجدر التذكير بأن إرساء اللامركزية الترابية في الستينات كان يستجيب لرغبة في التأطير السياسي، أكثر مما هو ملاءمة للتدبير العمومي مع مستلزمات التنمية المحلية. وبالفعل، ففي سنة 1960 كان الهدف الأول هو إعادة تكوين النخب المحلية، مما أعطى لهذه الضرورة، بدون شك، الأولوية، بالنسبة لأي اهتمام آخر، ذي طابع إداري أو تقني. وبذلك، فاللامركزية، كما تم فهمها وممارستها، لم تعمل على تيسير شروط إقرار لاتمركز حقيقي.

ومن ناحية أخرى، فمن المحتمل أن تكون الوصاية وشروط ممارستها، قد أسهمت في إضعاف إمكانية إرساء لامركزية حقيقية ومتحررة. وبالفعل، وفي كثير من الحالات، شكلت "الوصاية الإحلالية" عامل كبح، في الوقت الذي كان بإمكانها أن تتطور، بصورة مواكبة لتحولات المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وطرق التدبير، لتتخذ شكل "وصاية توجيهية".

أما على مستوى الإدارة المركزية والأجهزة الوطنية اللامتمركزة فإن الحكامة ما تزال تشكو من نقائص كبيرة، بالرغم من بعض التطورات الظرفية والمحدودة. وبطبيعة الحال، هناك مشاكل عويصة تتعلق بتبذير المال العمومي والارتشاء والمحسوبية والزبونية، التي ما تزال متفشية، بالرغم من التدابير والنوايا الحسنة. ومن بينها : الإعلان عن ميثاق حسن التدبير، وتحسين شفافية إبرام الصفقات العمومية، واعتماد قواعد عادلة ومحفزة في تدبير الموارد البشرية، وإحداث مجالس جهوية للحسابات، واللجوء المتكرر إلى الافتحاصات الداخلية والخارجية.

ومع ذلك وبالإضافة إلى الانحرافات والممارسات غير القانونية، يمكن تسجيل أشكال أخرى من العجز من قبيل تفضيل هيمنة النظرة القطاعية الضيقة ؛ والكفاءة غير المتساوية ؛ وعدم استقرار موظفي الوزارات والمسؤولين الإداريين ؛ عدم الاعتبار الممنهج للاستحقاق ؛ التواجد المفارق لوزارات متضخمة إلى جانب أخرى محدودية الصلاحية، غياب "البين-وزارية" ؛ الفواصل البيروقراطية، تقلب الهيكلات الإدارية تنازع اختصاصاتها. والملاحظ أن بعض هذه النقائص لا يقتصر وجودها على الإدارة، إذ تنسحب كذلك على العديد من المقاولات، بل وحتى على التنظيمات السياسية والمدنية. هذا فضلا عن انتشار ظواهر من قبيل : التعالي المفرط، لأشخاص ذاتيين على الهياكل والمجموعات، والانفعالية في التسيير، وضعف الاستشارة والحوار، وإعمال مبدإ التفاوض لفضّ التوترات والنـزاعات.

3. تثمين الإمكان البشري

ورثت السلطات المغربية عن الحماية وضعية تتسم بتهميش الإمكان البشري، ومحدودية توظيفه وضعف نموه، مما جعل تلك السلطات تباشر، غداة الاستقلال، وباستعجال، مسارا طويلا لتثمين هذا الإمكان. ولقد تنوعت التسميات التي أطلقت على هذه العملية، فمن تنمية الموارد البشرية إلى السياسات الاجتماعية أو التنمية الاجتماعية. وتمثلت الغاية من هذا المسار في الارتقاء بقدرات المغاربة، والرفع من إسهامهم في ازدهار البلاد، وتحسين مستوى عيشهم.

1.3. ولوج الخدمات والتجهيزات الأساسية

يشكل ولوج الخدمات والتجهيزات الأساسية أول مؤشر على تنمية القدرات البشرية، وعلى اتساع حجم الأشكال الأولية للإقصاء. ومن هذه الناحية، فإن حصيلة خمسين سنة الأخيرة، تعد بعيدة عن أن ترقى إلى المستوى الأمثل.

وإذا كانت هناك مجهودات مهمة قد بذلت في مجالات الكهربة، والتزويد بالماء الشروب، وفك العزلة عن بعض المناطق، ذات الخصاص، على سبيل المثال؛ فإن هذه الخدمات لم يتم تعميمها دائما. كما أن الإنجازات المحققة، في هذه المجالات تنير مشكلة التوزيع المنصف، بحيث إن الفوارق الاجتماعية والمجالية تبدو ظاهرة للعيان. ولم يتم الشروع في تنفيذ برامج موجهة ومحددة الأهداف، إلا في السنين العشر الأخيرة، بغية معالجة هذه الفوارق، خاصة في الوسط القروي وضواحي المدن. وقد أسفرت عن نتائج محمودة.

ويمكن تفسير النقائص المتراكمة بعوامل متعددة :
يتمثل العامل الأول، في الأفضلية التي تم منحها، ولفترة طويلة، للمشاريع الكبرى، التي كان ينتظر منها أن تحقق تنمية قابلة للتعميم. وقد أسهمت مثل هذه المشاريع، على غرار السدود الكبرى، بشكل جلي، في ضمان الأمن المائي للبلاد، خلال الحقب المتكررة للجفاف. وهكذا تطورت الفلاحة المسقية، وأمكن ضمان التزويد المنتظم للمدن بالماء الشروب. غير أنه لم يكن بإمكان المناطق النائية والساكنة المعوزة الاستفادة، بشكل تلقائي، من انعكاسات السدود والطرق والشبكة الكهربائية الخ....

أما العامل الثاني للعجز، فيكمن في نهج نوع من المساواتية، من خلال البحث عن توفير نفس الخدمة للجميع، مجانا أو بتسعيرة موحدة للجميع. وبذلك، تأخر اعتماد فكرة إشراك المستعملين في تمويل الخدمات الأساسية بفاتورة تفضيلية ومتدرجة.

ويتجلى العامل الثالث، في وجود نوع من الخلط بين المرفق العمومي والخدمة التي ينبغي أن تقدمها الدولة مباشرة، كما تأخر العمل بفكرة إشراك السكان أنفسهم، والمتدخلين الخواص والمنظمات غير الحكومية، في خلق وتدبير وصيانة الخدمات الأساسية. وفي هذا الصدد، تكشف التجارب الحديثة للشراكة، بين الدولة والجماعات والسكان وجمعيات التنمية المحلية أو المستفيدين من الخدمات، عن عدد من الاختلالات التي كان بالإمكان تفاديها ؛ ذلك أن المعيرة الممنهجة، المبررة بها جس المساواة، غالبا ما أخرت ولوج تلك الخدمات.

2.3. التربية :

لم يلج المدرسة في عهد الحماية سوى عدد قليل من المغاربة، كما لم يلتحق بالتعليم الثانوي والعالي سوى أقلية محدودة. وبذلك، يعتبر الإقبال الكبير للمغاربة على المدرسة، غداة الاستقلال أمرا طبيعيا ومشروعا. ومن أجل الاستجابة لهذا الطموح، بذلت الدولة مجهودا كبيرا في ميدان التعليم.

وهكذا، فإلى غاية نهاية السبعينيات تمكنت المنظومة التربوية من الاضطلاع بمهامها إلى حد كبير، حيث نجحت، بالرغم من العجز المهول، المسجل في البداية، ومن النمو الديموغرافي المطرد، في الرفع من فرص تمدرس الأطفال المغاربة وتزويد الإدارة والاقتصاد الوطنيين بالأطر المغربية الضرورية، لتعويض الخلف وتحقيق التنمية. هذا علاوة على أن التعليم فتح قناة حقيقية للحركية الاجتماعية والانفتاح على العالم، وولوج الحداثة، وتقوية الرابط الاجتماعي.

ومع بداية الثمانينيات، بدأت المنظومة التربوية، في التراجع، لتدخل بعد ذلك، في أزمة طويلة ؛ من بين مؤشراتها : الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية، وضعف قيم المواطنة، ومحدودية الفكر النقدي، وبطالة حاملي الشهادات، وضعف التكوينات الأساسية (القراءة، الكتابة، الحساب، اللغات، التواصل).

وبالرغم من – وأحيانا بسبب - اعتماد سلسلة من الإصلاحات، التي كان بعضها مرتجلا، في بعض الأحيان، وبعضها الآخر غير تام، في كثير من الحالات ؛ فقد تحولت المنظومة التربوية إلى آلة ثقيلة، قليلة المردودية، ومنتجة لخريجين غير مهيئين لمواجهة تغيرات ومستلزمات الاقتصاد والمجتمع العصريين. وهذا ما سيؤدي إلى جعل المدرسة تسير بوتيرات متعددة، مع تراجع أدائها، ولاسيما في المناطق البعيدة عن مراكز المدن الكبرى.

على أنه يتعين تسجيل المجهود الكبير الذي تم القيام به في الثمانينات، في مجالات التكوين المهني وتكوين الأطر. وبصفة عامة، أسهم التعليم العالي بقوة وعلى مدى العقدين الأولين من الاستقلال في بناء الدولة الحديثة، اعتبارا للدور المهم الذي لعبه في تكوين الأطر لفائدة الإدارة، وفي إنتاج مثقفين وعلميين ذوي سمعة عالمية، كما أن منظومة التعليم العالي استطاعت أن توفر مجالات للخبرة والتفوق، منتجة لكفاءات ذات مستوى عال (مهندسون، أطباء، معلومياتيون، مسيرون، قانونيون، أساتذة... إلخ).

غير أن التطور الحالي لهذا القطاع، المرتبط بالسياسات التعليمية المتتالية التي خضع لها، والمزايدات التي كان موضوعا لها ؛ كل ذلك كشف عن الصعوبات التي أعاقته، كي يضطلع بالأدوار الجديدة التي أضحت تفرضها تحولات المجتمع والمحيط الدولي، ولكي يلعب دوره كرافعة لتنمية الرأسمال البشري، ولإنتاج المعرفة والتكنلوجيا.

وتقترن جوانب القصور المراكمة بالتأخر البارز المسجل في مجال محاربة الأمية بحيث تنعكس آثاره سلبيا على مجموع ميادين الحياة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية : وضعية غير منصفة تجاه النساء، اختلالات الديمقراطية، الانتشار المحدود لقيام المواطنة والتقدم، معضلة البطالة وضعف تنافسية الاقتصاد...

وفي سنة 1999 تم إقرار مشروع توافقي إرادي وطموح لتجديد منظومة التربية والتكوين، حظي بدعم قوي من قبل أعلى سلطة في الدولة وتم تكريسه في ميثاق وطني. ومنذ ذلك الحين، أعلنت التربية أسبقية وطنية أولى، بعد الوحدة الترابية. وإلى غاية اليوم، بذلت مجهودات مهمة، غير أن النتائج المحرزة تظل غير كافية، بالنظر إلى الأهداف المرسومة. وإذا كان بالإمكان ملاحظة حصول تقدمات كمية ملموسة في تعميم التمدرس وفي إطلاق أوراش جديدة في المجالات البيداغوجية واللاتمركز وأساليب التدبير، فإن الكثير ما يزال يتعين القيام به، حيث إن المشاكل المرتبطة بالهدر المدرسي، والجودة ومضامين المناهج والبرامج، وبتكوين المدرسين، وبالقيم التي تروج لها المدرسة، ما تزال مطروحة.

3.3. الصحة، الحماية الاجتماعية ومحاربة الفقر

منذ الاستقلال، حقق مستوى الصحة لدى المغاربة، تقدما ملحوظا، تمكنت بلادنا، بفضله، من القضاء على العديد من الأمراض والأوبئة، التي كانت تفتك بالبلاد. وهكذا، فقد ارتفع معدل الحياة ليتجاوز حاليا 70 سنة، وإن كان هذا المعدل أقل من معدلات الحياة المحققة في الدول المتقدمة. وبعض مؤشرات صحة الطفل والأم ما تزال مبعث قلق ومصدر تأثير سلبي، على مستوى التنمية البشرية للبلاد. ويعرف المغرب حاليا انتقالا "إيديمولوجيا"، يتسم بتعايش أنواع قديمة من المرض وأخرى جديدة.

وهكذا، فإن البلاد لم تصل بعد إلى التعامل الأمثل مع "أمراض البلدان الفقيرة"، لتجد نفسها في مواجهة صعود مطرد لـ"أمراض الدول الغنية"، التي تعد أكثر صعوبة وتكلفة. إضافة إلى ذلك، يظل ولوج الخدمات الطبية غير كاف ولا متكافئ. كما أن حالة الوحدات التطبيبية والمستشفيات ظلت تتأرجح بين الاستقرار والتراجع، رغم الإنجازات الرائدة، لكن المعزولة، التي حققها بعض الأطباء والباحثين المغاربة.

صحيح أن إحدى الإكراهات المرتبطة بذلك، ترجع إلى محدودية الوسائل المالية. غير أنه صار من الضروري بلورة إستراتيجية جديدة، لإعادة تنظيم قطاع الصحة العمومية وتمويله وتدبيره، بغية إيقاف النزيف الذي يعاني منه، والارتقاء به إلى مستوى يستجيب لمتطلبات التنمية البشرية للسكان. وتتمثل إحدى مقومات هذه الاستراجية في التأمين الإجباري عن المرض، الذي تم الشروع في تطبيقه مؤخرا، بشكل تدريجي.

وفيما يتعلق بالحماية الاجتماعية، عموما، فقد تم القيام بالعديد من الإصلاحات، منذ الاستقلال، في اتجاه توسيع دائرة التغطية الاجتماعية، لتشمل الأشخاص المعوزين أو في وضعية صعبة، وكذا تنويع توزيع الخدمات التي تقدمها مختلف المؤسسات والأنظمة الجماعية للتضامن المؤسساتي.

ومع ذلك، فإن مستوى الحماية الاجتماعية يظل، اليوم، غير كاف، ويطرح مشاكل عويصة، ذات أثر سلبي على استمرارية أنظمتها، لذلك، فقد صار من الضروري بلورة مشروع يهدف إلى إرساء نظام جديد للحماية الاجتماعية، يقوم على تحصين المكتسبات في هذا المجال، ويعمل على تجديد هذا النظام وتوسيع الاستفادة من خدماته. وتزداد هذه الضرورة إلحاحا، بالنظر إلى الصعوبات التي تعترض بلادنا، على مستوى التحكم في البطالة، ولتراجح أشكال التضامن التقليدية والأسرية، وتوقع الارتفاع النسبي لمعدل الشيخوخة، على المدى البعيد، مما سيؤدي إلى تزايد عدد الأفراد الذين يعود للمجتمع التكفل بهم.

وإذا كان من المؤكد حصول تقدم على مستوى أعداد وجودة الموارد البشرية العاملة بالإدارة الصحية، في ارتباط مع إحداث وظائف جديدة، ضمن منظومة الصحة ؛ فإن هوة كبيرة كانت وما تزال قائمة بين مشاريع الإصلاح وبين تطبيقها. كما أن عدة أسئلة لها علاقة مباشرة بالحكامة، تظل مطروحة، وإن كانت قد عرفت تشخيصات ضافية.

تتعلق هذه الأسئلة، أساسا، بغياب إطار استراتيجي للعمل ومنظور شمولي لمنظومة الصحة، وبتضارب مصالح العاملين والمتدخلين في هاته المنظومة، ووجود عدة حالات ريعية، تحولت، بالتدريج إلى قوى حقيقية للجمود. هذا بالإضافة إلى هيمنة التمركز المفرط لإدارة الصحة، وضعف تطور المرافق الجهوية، وأزمة المستشفى العمومي. وبفعل المنافسة التي يوجهها من قبل المؤسسات الخاصة، التي تجلب إليها غالبية الساكنة الميسورة، فإن المستشفى العمومي ما يزال يبحث لنفسه عن تموقع جديد، كفيل بأن ينمي قدراته وموارده، وأن يشكل مرفقا عموميا ذي جودة.

وفي الإطار نفسه، يلاحظ أن الرفع من مستوى التنمية البشرية ببلادنا يبقى رهينا بالقضاء على آفة الفقر المستشرية. صحيح أن نسبة الفقر، التي كانت تتجاوز 50 % سنة 1960، قد تراجعت، بشكل ملحوظ، لتنحصر حاليا في 14,2 %. إلا أنه، بالنظر للنمو الديموغرافي فإن العدد المطلق للفقراء استقر في خمسة ملايين، في المعدل المتوسط، من بينهم ثلاثة أرباع من الفقراء يتواجدون بالعالم القروي.

وعلى الرغم من وجود بعض أشكال الإحسان العمومي والمساعدات التي تقدمها الدولة، من قبيل : دعم المواد الغذائية الأساسية ؛ فإن المكافحة الممنهجة للفقر، تعتبر حديثة العهد، في السياسات العمومية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه السياسات تظل غير كافية وغير مراعية لمبدأ تعزيز قدرات الأفراد، لكي يضطلعوا بمسؤولياتهم الذاتية، بشكل مستديم. غير أن هنالك استثناء ينبغي الإشارة إليه، في هذا الصدد، وهو النجاح الملفت للنظر الذي حققه قطاع السلفات الصغرى، بوصفه إنجازا مهما اضطلعت به منظمات غير حكومية، عرفت كيف تستدمج هذا المفهوم وتنجح في تجسيده العملي.

4. تعبئة الإمكان البشري
النمو والسياسات الاقتصادية والتشغيل

1.4. تشييد اقتصاد وطني
انطلاقا من وضعية اقتصادية صعبة، عمل المغرب المستقل على بناء اقتصاد وطني عصري، وإرساء مقوماته الأساسية. ولقد تمثل ذلك، بصفة خاصة، في إصدار عملة وطنية، وإحداث مؤسسات للضبط، واعتماد آليات ناجعة للسياسات الجبائية والمالية والنقدية، والتحكم في التضخم، وتطوير نظام مالي وطني، وكذا بناء نسيج مهم من المقاولات الصغرى والمتوسطة، ونواة صلبة للمجموعات الخاصة، كقاطرة بالنسبة لبعض القطاعات الاقتصادية.

ولقد اتسمت المرحلة الممتدة من بداية الاستقلال إلى سنة 1982 ببروز نموذج اقتصادي مغربي، ذي اتجاه ليبرالي مطبوع، في الوقت نفسه، بالاقتصاد المختلط والنزعتين الحمائية والتدخلية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. ومع سنة 1983، وبموازاة مع الشروع في تطبيق برنامج التقويم الهيكلي، انطلقت العشرية التي غلب عليها السعي إلى تحقيق استقرار ماكرو-اقتصادي وتطهير المالية العمومية، وكذا التخلي التدريجي للدولة عن التدخل في الاقتصاد، لفائدة القوى الصاعدة للسوق.

وانطلاقا من سنة 1993، تم تسريع وتيرة تحرير الاقتصاد وانفتاحه على برامج خوصصة طموحة، مع توقيع العديد من اتفاقيات التبادل الحر. وبذلك، توافرت الشروط الملائمة لقيام سوق عصري، مع ربط الاقتصاد الوطني بالنموذج الليبرالي، المنفتح على شبكة المبادلات الدولية.

وإجمالا، فقد مكن هذا المسار من تحقيق تقدم ملحوظ ومكتسبات مهمة، يمكن تبينها من خلال تحسن مستوى العيش، بشكل عام، بما في ذلك ارتفاع مستوى الدخل والقدرة الشرائية والطاقة الاستهلاكية وسبل الادخار.

2.4. إنجازات في منتصف الطريق

مع ذلك، فقد ظل الاقتصاد المغربي بعيدا عن بلوغ هدف توظيف جميع إمكاناته، خلال الخمسين سنة الفارطة، حيث اتسم النمو الاقتصادي بالفتور، منذ سنة 1955، وبضعف تطور الدخل الفردي. وهو ما يعزى، بالدرجة الأولى، إلى ارتكاز الاقتصاد المغربي، بالأساس، على القطاع الفلاحي، الذي يبقى بدوره رهينا بالتقلبات المناخية. أما بخصوص القطاعات الاقتصادية الأخرى فلم تستطع تحقيق مستوى كاف من النمو.

وأخيرا، لم يفض النظام الحالي لتوزيع ثمار النمو إلى تبلور طبقة متوسطة فاعلة، وقادرة على التأثير في الإصلاحات وفي تيسير إدخال التكنولوجيا وقيم التقدم. ومن ثم، فقد كان تراكم مواطن العجز الاجتماعي الطابع المميز لهذا التطور.

ويمكن تحديد مجموعة من العوامل المفسرة لهذا الأداء الاقتصادي الضعيف، ومنها، على الخصوص : عدم استقرار الوضعية الماكرو-اقتصادية، لمدة طويلة، مما لم يسمح بتحقيق رؤية واضحة في هذا المضمار. ومن ناحية أخرى، ما يزال القطاع الفلاحي يعاني من قصور كبير، ليس فقط بسبب قلة الماء، ولكن أيضا بالنظر إلى المعيقات المرتبطة بتقادم الوسائل التكنلوجية المستعملة وبالنظام العقاري، وبنوعية الأنشطة الزراعية، وصغر حجم المزارع والضيعات، والأساليب الزراعية العتيقة.

أما القطاع الخاص، فما يزال يعاني من عدة مشاكل، من أهمها، ظاهرة التمركز، وصعوبة الحصول على القروض، وارتفاع نسب الفائدة، والتعقيدات المتعلقة بالنظام العقاري، وبطئ واعتباطية المساطر الإدارية والقضائية، وكذا استمرار وجود عقلية اقتصاد الريع وحدة النواقص التدبيرية والتقنية والتنظيمية.

وتجدر الإشارة إلى أن تدخل الدولة في الاقتصاد ظل مفرطا، معيقة بذلك تطور حرية السوق والمنافسة. ومن بين النتائج المترتبة عن ذلك، عدم احترام معايير الجودة في المنتوجات والخدمات المقدمة، ممّـا يجعلها غير مؤهّـلة لخوض المنافسة في الأسواق الدولية، وضعف التنافسية الخارجية، وهشاشة الاقتصاد، تجاه الظرفية الدولية.

وهكذا، ظلت تنافسية الاقتصاد دون المستوى المطلوب، بفعل ضعف الإنتاجية وانخفاض النسبة المؤهلة من اليد العاملة، كما أن غياب إستراتيجية تسويق موجهة وهادفة، لم تزد إلا تكريساً لهشاشة الاقتصاد المغربي، في مواجهة الاقتصاديات الدولية. ينضاف إلى ذلك، الأثر السلبي لعدم ملاءمة المنظومة التربوية للمتطلبات الاقتصادية، ومحدودية السوق الداخلية، خاصة، بفعل انتشار ظاهرة التهريب، وضعف الاستهلاك الداخلي، مع تفشي ظاهرة الاقتصاد غير منظم، الذي تعتمد عليه فئات واسعة من ساكنة المدن.

3.4. إرادة لتسريع النمو لكنها تأخرت في تحقيق ثمارها

تم، في السنوات الأخيرة، إطلاق مجموعة من الأوراش والإصلاحات التشريعية والتنظيمية والمالية والإدارية والتربوية. وفي هذا السياق، يجدر التأكيد على ضرورة تنسيق جميع هذه العمليات على المستوى الميداني، وتفعيلها بسرعة مع إيلائها كامل العناية. هذا فضلا عن أهمية، التصدي للمشاكل التي ما تزال عالقة، باعتماد استراتيجيات ناجعة. وبهذه الطريقة الفعالة سيتأتى جلب المزيد من الاستثمارات الخارجية وإحداث عدد أكبر من المقاولات، وانبثاق أنشطة ذات قيمة مضافة عالية، من داخل القطاع غير المنظم. ومن شأن ذلك كله، أن يؤهل المغرب لمواجهة التحديات الناتجة عن انفتاحه الاقتصادي، مع الاستفادة من مزاياها.

وإنه لرهان كبير، في خضم هذه الإصلاحات، أن يتمكن المغرب، ليس فقط من التحكم في البطالة المتفشية، ولكن من التوظيف الأمثل لنافذته الديموغرافية، بتوفير فرص شغل منتجة لتلك الأعداد المتزايدة من الأفراد، الوافدة على سوق العمل. وفي النهاية، فإذا كانت إرادة المغرب ثابتة في تخطي جميع مظاهر العجز الحاصل في ميدان التنمية البشرية، فلا مناص له من تحقيق وتيرة نمو اقتصادي أسرع وأكثر استقرارا.


5. إطار العيش وتنمية الإمكان الطبيعي

1.5. المـــاء

منذ حصوله على الاستقلال، نهج المغرب سياسة قوية ودينامية في مجال الماء بهدف التغلب على الهشاشة المترتبة عن التقلبات المناخية، وذلك من خلال التحكم في المياه وتخزينها، إبان السنوات المطيرة، لمواجهة الحاجة الناجمة عن سنوات الجفاف. وهكذا فقد تمثلت الأهداف في الاستجابة للطلب المتزايد على الماء الشروب، من طرف السكان، وتزويد الفلاحة بما هي في حاجة إليه قصد توفير الحاجات الغذائية، وتشجيع فلاحة التصدير. وقد تمثل التحدي آنذاك، الذي تم رفعه عمليا سنة 1998، في السعي إلى سقي المليون هكتار مع نهاية القرن الماضي.

إن سياسة السدود، التي أعطى انطلاقتها الملك الحسن الثاني، مكنت المغرب من ضمان أمنه المائي والغذائي وتحسين مداخيل الفلاحين بالمناطق السقوية وتكثيف وتنويع الإنتاج الفلاحي وتنمية الصادرات الفلاحية.

وفضلا عن هذا الجانب المتعلق بتعبئة الموارد المائية، الذي يعد إحدى النجاحات الحقيقية للمملكة، فان مآل المياه العادمة وتلوث المياه شهدا، خلال هذه الفترة، اهتماما ونجاحا أقل. ومن بين الانعكاسات السلبية يلاحظ التدهور الذي عرفته جودة المياه في الأنهار والسدود والفرشات الباطنية، التي زادت حدتهم خلال العقدين الأخيرين، مما حد من حجم الموارد المائية المقابلة للتعبئة.

وهناك جانب آخر عرقل بدوره، ولو جزئيا، السياسة الوطنية للماء : يتعلق الأمر بالفصل التام مابين المقاربة التي اتبعت في التهيئة المائية والهيدرو فلاحية في عالية الأحواض المائية وتلك التي اتبعت في سافلتها.

ومنذ تصوراتها الأولية، ركزت السياسة المائية المتبعة في المغرب، ولمدة طويلة على تعبئة الموارد. ولقد تطلب الأمر انتظار سنة 1995. من أجل إصدار قانون الماء. وهو القانون الذي يتضمن مجموعة من المبادئ الأساسية، من بينها ضمان وحدة مصادر المياه وتدبيرها بكيفية مندمجة وغير ممركزة، بحسب كل حوض مائي، مع الحرص على جعل التدبير تشاركيا مع المستعملين، والتحكم في الاستهلاك واقتصاد هذا المورد. ومنذ ذلك الحين، أصبح تدبير الطلب مبدأ موجها للسياسة العمومية للماء، فقد بذلت جهود لتقليص الطلب، أتت أكلها نسبيا على مستوى الماء الشروب. وقد كان من الممكن بلوغ هذه النتائج، بفضل إدخال نظام التسعيرة، بحسب مستوى الاستهلاك، إلى جانب الجهود التي بذلت في مجال السقي، باعتباره يشكل القطاع الأكثر استهلاكا للمياه، إلا أن هذه النتائج تبقى مع ذلك دون المستوى المطلوب.

2.5. الطاقة :

يعتبر عبء فاتورة الطاقة مكلفا جدا بالنسبة للمغرب، بالرغم من أن متوسط الاستهلاك لكل فرد، في هذا المجال، ما يزال ضعيفا، مقارنة ببلدان أخرى مشابهة. وكما هو الشأن بالنسبة للماء، فإن المغرب يبغى متأثرا بالتداعيات الكبرى للسوق الدولية للطاقة، ومتحملا لأعباء مكلفة في هذا المجال. ولذلك، فإن تطوير الطاقات المتجدّدة، وكذا التركيز على الغاز والاقتصاد الممنهج للطاقة، والاستعمال المبكر للتقنيات والآلات، التي لا تستهلك كميات كبيرة من البترول، مع التحسيس المكثف للساكنة من أجل الاقتصاد في استعمال الطاقة ؛ كل هذه التدابير تظل وحدها الكفيلة بالتخفيف من حدة هذا المشكل، هذا مع الاحتفاظ بإمكانية نهج خيار توظيف الطاقة النووية، على المدى البعيد، في إطار إمكانية الأجوبة الممكنة.

3.5. الأراضي والغابات وموارد أخرى :

تعرّضت المساحات المزروعة والقابلة للزراعة، وجميع المناطق الخضراء، ولاسيما منها الغابات لزحف طبيعي خطير، من قبيل انجراف التربة والتصحّر والحرائق. كما عانت هذه الموارد من أشكال الاستغلال المفرط للمراعي، والاقتلاع غير المعقلن للغابات، والتوسع العمراني، بالإضافة إلى المضاربة.

وهكذا، يضطرّ سكّان البادية - الذين يفتقرون، في معظم الأحيان، إلى البنيات التحتية الأساسية، ويعانون من مستوى عيش متدنّي، ويقطنون بمناطق هشة - إلى استغلال الموارد الطبيعية، في حياتهم اليومية. تنضاف إلى ذلك الظروف المناخية جد المتقلبة، التي يمكن أن تؤدّي إلى حدوث اختلال في توازن الأنظمة الطبيعية، وإلى اضطرابات بيئية، قد تلحق بالطبيعة أضرارا عميقة، لا يمكن إصلاحها.

وفي العديد من المناطق، يلاحظ أنّ استنزاف الموارد الطبيعية، الذي تجاوز حدود قابليتها للتجدد، لم يكن ليحلّ مشكلة الفقر، وإنّما زادَ من استفحالها، إما باستنفاذ هذه الموارد أو باستهلاكها المفرط. وفي ارتباط بذلك، كثيرا ما يحصل تضارب بين المصالح المباشرة للأفراد (المستعملين) وبين مصالح الجماعة، ممّـا يؤدي إلى حدوث تعارض بين الطّرفين، يفضي بدوره إلى نزاع من نوع آخر، بين المستعملين والإدارة كطرف، يعهد إليه مهمة المراقبة والحماية وزجر المخالفات المتعلقة بهذا الشأن. وعندما يكون الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية هو وسيلة العيش الوحيدة، في غياب مصادر رزق أخرى، فإن هذا النوع من التدبير، في إطار التعارض يصبح غير فاعل، بالنسبة لحالة الموارد، وغير مجد ولا قابل للتطبيق في وجه المستعملين، في جانبه الزجري.

وبصفة عامة، يمكن القول بأن الاستغلال المفرط للموارد المائية والسمكية، والضرر الذي يلحق بجودتها، والمبالغة في أساليب الرعي، وحرث الأراضي الهامشية، وتوسيع المدار الحضري، على حساب الأراضي ذات المردودية الفلاحية كلها تعبيرات لسوء تحكيم يرجح الاعتبارات قصيرة الأمد ؛ تحكيم يبدو وكأنه تحقق من حدة المشاكل الآنية، لكن هذه المشاكل لا تزيد إلا تعقيدا، على المدى البعيد.

لذلك، فوحدها الرؤى والممارسات المندمجة ذات البعد الترابي، والقائمة على التنسيق بين القطاعات، والتي تأخذ بعين الاعتبار الفرص المتاحة وتتوقع الأخطار، على المدى البعيد، هي الكفيلة بالإسهام في حماية الموارد الطبيعية للبلاد، ولاسيما منها تلك التي لا يمكن تجديدها.



4.5. إطار العيش وتهيئة المجال

شكل تدبير المجال مسألة حساسة بالمغرب، على الدوام. واستنادا إلى التوجهات الموروثة، غداة الاستقلال فقد تحدد تدبير المجال الوطني والمجالات المحلية من خلال هدف مزدوج الاتجاه : يرمي اتجاهه الأول إلى تقوية نسيج التراب الوطني، بوصفه شرطا لتنميته، ولتأكيد وحدته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما اتجاهه الثاني فيتمثل في التمكن من إدارته ومراقبته السياسية والاجتماعية، بواسطة تقطيعات تسهل، بالأساس، تأطير النخب المحلية والموارد والسكان.

وكما هو الشأن بالنسبة لحماية وتثمين الإمكان الطبيعي الوطني، أو فيما يتعلق بمجهود تجهيز البلاد، فإن حكامة المجال، بمفهومها الراهن، لم تدرج، إلا بشكل متأخر في إطار منطق إعداد التراب ؛ ذلك المنطق الذي يجب أن يظل مستحضرا، على الدوام، لضرورة ضمان التوازنات المجالية، والتنافسية الترابية وتناسق البرامج التنموية، الموجهة نحو المجالات الترابية.

ولقد كان من بين نتائج التأخر الذي حصل في إدماج مثل هذا المنطق، هيمنة تدبير يعاني من محدودية الرؤية الاستشرافية لمستقبل المجال، ويرجح تحكيما قصير المدى، ويفسح المجال لمضاربات وتجاوزات مختلفة. وفضلا عن ذلك، فإن التدبير الحضري، المحكوم، أساسا، بمسألة السكن والمشاكل المترتبة عنها، يقدم دليلا قاطعا عن هاته الوضعية، على صعيد المدن.

وبهذا الصدد، فإن مدينة من الحجم الكبير كالدار البيضاء، وبصفة أشمل، الفضاء الميتروبولي المركزي، تجسد بدقة معادلة تدبير المجال بالمغرب والانعكاسات العميقة للتحكيمات التي يفرضها الاستعجال.

إن إعداد التراب الوطني لا يمكن أن يختزل لا في مقاربة ترميمية للاتوازنات الترابية، ولا أيضا في إجراء تقابل تبسيطي بين المناطق الساحلية والداخلية أو بين المجالات الحضرية والقروية، رغم أنه يبقى من الضروري التأكيد على كون هذه الاختلالات تظل مطروحة بحدة في بلادنا ؛ ذلك أن حوالي 40 % من الثروات الوطنية تتمركز في 1 % من التراب الوطني، بما في ذلك المناطق القروية. كما أن 77 % من التراب الوطني لا تسهم سوى بنسبة 10 % من القيمة المضافة الوطنية. هذا، علاوة على أن التضامن الترابي لم يشكل انشغالا ممنهجا ومنظما، في استراتيجية تنمية التراب. غير أن نهج مقاربة محددة سنة 2000، مع إطلاق حوار وطني واسع حول إعداد التراب الوطني، وباعتماد ميثاق وطني ومخطط وطني لإعداد التراب سيفتح آفاقا جديدة لبلادنا، في هذا الميدان.




6. نحو المستقبل، بكل ثقة

1.6. مغرب 2005، فضاء لكل الانتقالات

بعد خمسين سنة من الاستقلال، يشهد المغرب انتقالات متعددة : انتقال ديمقراطي ومؤسساتي واقتصادي واجتماعي وثقافي، وكذا انتقال ديموغرافي يتسم بوتيرة وشكل خاصين، لدرجة أنه قد يحدد بشكل وازن أغلب السياسات العمومية المقبلة.

فعلى المستوى السياسي، يوجد المغرب في طور استكمال انتقاله الديمقراطي، الذي تجسده جملة من الإصلاحات الكبرى، الهادفة إلى تعميق وتسريع المسار الديمقراطي، وتأكيد سلطة القانون. وهو انتقال يلمس سواء على مستوى الممارسة السياسية أو على مستوى التشريع والقيم، التي تحكم اشتغال المؤسسات والعلاقات بين الفاعلين.

ويهم هذا الانتقال عدة مجالات للحياة العمومية : توضيح قواعد اللعبة (التناوب السياسي، إجراء الانتخابات التشريعية والجماعية، بشكل منتظم، القانون الجديد للأحزاب، المفهوم الجديد للسلطة) ؛ تأهيل المؤسسات واستكمال الإصلاحات (التي تهم ميادين : القضاء، الفضاء السمعي-البصري، الحقل الديني، مدونة الأسرة).

وهو انتقال يهم أيضا طي الملف الأسود لحقبة التوترات السياسية، من خلال إحداث هيأة الإنصاف والمصالحة، وملاءمة التشريع الوطني للمقتضيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.

وعلى المستوى الاقتصادي، فإن الاندماج في الاقتصاد العالمي يشكل أفق الانتقال الذي يعرفه الاقتصاد المغربي ؛ ذلك أن دينامية الانفتاح المتسارعة خلال الثمانينات، كانت تخللها فترات متتالية من الإصلاحات الداخلية وتحرير المبادلات، في إطار العديد من الاتفاقيات التي وقعها المغرب. وهكذا، فأوراش الانتقال الاقتصادي هي متعددة ومتنوعة : البنية التحتية (ميناء طنجة-المتوسط، شبكات الطرق السيارة...) ؛ مشاريع سياحية (المخطط الأزرق) ؛ السياسة الصناعية الجديدة وتأهيل المقاولة المغربية (ميثاق المقاولات الصغرى والمتوسطة، استراتيجيات التأهيل، (… Plan Emergence ؛ ترصيد التوازنات الماكرو-اقتصادية (تقليص المديونة الخارجية) ؛ الإصلاحات القانونية والإدارية، التي تهم قطاعات اقتصادية متنوعة (مدونة الشغل، القطاع المالي والجبائي...) ؛ ووضع إطار أكثر نجاعة للاستثمار (صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، المراكز الجهوية للاستثمار).

وعلى المستوى الاجتماعي، أطلق المغرب عددا من الأوراش التي تفتح الكثير من الأمل. وهكذا سجلت السنوات الأخيرة حدوث منعطفات نوعية في التعامل مع القضايا الاجتماعية، كما أن ملفات حاسمة حظيت بعناية خاصة، في تجاوب مع أهداف الألفية للتنمية، التي انخرط فيها المغرب : ورش الإصلاح التربوي مع اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين ؛ دخول التأمين الصحي الإجباري إلى حيز التنفيذ ؛ برامج السكن الاجتماعي، التي تعرف تسريعا في الوتيرة، وتعبئة لموارد إضافية (برنامج "مدن بلا صفيح"...) ؛ تدابير هادفة إلى فك العزلة عن العالم القروي (الطرق، الكهربة، والماء الشروب).

ومن خلال التقاء الجهود القطاعية، فإن الاضطلاع بالحقل الاجتماعي يتم اليوم بشكل ملتئم، من خلال رؤية أفقية تفسح المجال لإسهام مجموع الفاعلين المعنيين، في إطار منسق.

وبهذا الصدد، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية جاءت لتغير مفهوم العمل الاجتماعي، ولتفتح له أفقا جديدا، وتمنحه انسجاما في الرؤية، لم يسبق لها مثيل.

تشهد كل هذه الإصلاحات على سريان دينامية غير مسبوقة، وهي إصلاحات تجري في سياق جهوي ودولي يتسم أيضا بسلسة من التحولات. ولذلك يعد استكمالها وتحصينها الرهان الكبير للمشروع الوطني الموجود قيد الإنجاز ؛ مشروع يهم الدولة، كما يعني المجتمع كافة. ومن الأساسي أن يكون للفاعلين الرئيسيين وعي تام ليس فقط بأفق الانتقالات الجارية وبأهمية العمل الإصلاحي الذي تم الشروع فيه، ولكن أيضا بالمخاطر التي يمكن أن تعترض سيرها. ومن بينها :

عدم التحكم في أجندة الإصلاحات، بسبب تزامن توقيتها أو نظرا لنقص في انسجامها الكلي ؛
خطر الاستسلام للإكراهات الظرفية، التي تفتح الباب أمام حصول تراخي في الجهود أو التخلي أو التطبيق الجزئي أو الانتقائي لأهداف الإصلاح ؛
حدوث أزمة خارجية أو داخلية حادة، قد تسبب توقفا فجائيا للدينامية الجارية ؛
عدم القدرة على بلوغ السقف المطلوب أو الوتيرة الكافية في العمل الإصلاحي، الكفيلة بإطلاق دينامية للتغيير، لا رجعة فيها ؛
عدم تطبيق القوانين والاتفاقيات الملتزم بها. ذلك أن دولة ديموقراطية هي أيضا دولة قوية.

إن مكتسبات كل انتقال هي بطبيعتها هشة وقابلة لتصبح كذلك. ومن ثم، فإن الفاعلين مدعوون للسهر الدائم على توطيدها وصون الانتقال من مخاطر التراجع إلى الوراء. ويتمثل دورهم ودور الدولة بصفة خاصة، في الملاءمة المستمرة للمشروع الوطني مع الرهانات والتحديات، التي يمكن أن تظهر في المستقبل.

هذا الانشغال الجماعي هو حاسم جدا، ولاسيما أن الأشواط المتبقية على طريق التنمية البشرية ما تزال طويلة : فالمغرب يحتل اليوم الرتبة 124 في سلم مؤشر التنمية البشرية، في الوقت الذي يحتل فيه الرتبة 108 على مستوى معدل الدخل الفردي. وبإمكان مواطن النقص المتعددة أن تشكل حصيلة سلبية ثقيلة، قابلة لأن تعيق، في أية لحظة، مجهود التصحيح. وفي مواجهة هذا الخطر، تتوافر البلاد على مؤهلات واعدة وأساسية. وتشكل معرفة هذه المؤهلات وأيضا المكامن الكبرى للعجز، دون أدنى شك، الشرط الأساسي للسير نحو المستقبل بكل تبصر وثقة.


2.6. استشراف مغرب الغد : المؤهلات وبؤر المستقبل

• المؤهلات :

على مدى الخمسين سنة الفارطة، حقق المغرب تقدما ومكتسبات بنيوية. ولأن هذه الإنجازات هي نتاج مسار طويل من المخاض والتوطيد، فإن العمل على تحصينها يعد مسؤولية ملقاة على الجميع. وتتعلق هذه المؤهلات، على الخصوص، بما يلي :

* أساس متين للانتماء للأمة : بعد نصف قرن من الاستقلال، كان الإحساس بالانتماء للأمة وما يزال متينا وراسخا، كما تشهد بذلك حيوية الشعور الوطني وتوقده : مقاومة الاحتلال، النضال من أجل الاستقلال، المسيرة الخضراء وإلى وقت قريب إدانة إجماعية أحداث 16 ماي. وإذا كان هذا الأساس للانتماء للأمة قد تأثر بالتوترات السياسية التي هيمنت، لمدة طويلة، فإن "العيش معا"، كمبدإ مميز استطاع أن ينبثق من صميم هذا الانتماء للمجموعة، ذات الروافد المتعددة، الملتئمة حول القيم العصرية القائمة على التعايش والتمازج الاجتماعي واللغوي والإثني. فالانتماء للمجموعة الوطنية يؤلف بين تنوع الهويات الخاصة، ويرسخ قاعدة القيم المشتركة، ويثري الرأسمال الاجتماعي المتقاسم، وينتج الرابط الاجتماعي والتضامن ؛ وتلك أبعاد متعددة تسهم في التنمية البشرية.

* مكتسبات ديمقراطية حول مؤسسات مشروعة : يشكل تطبيع الحياة المؤسساتية والسياسية إحدى أهم مكتسبات مغرب اليوم. فمؤسساتنا المتجذرة في القدم، أصبحت مفتوحة في وجه المتطلبات الديمقراطية والمعايير الكونية التي تنظم دولة الحق، والحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فإن القواعد الأساسية لعمل المؤسسات وتنظيم الحياة السياسية تحظى بانخراط أغلبية الفاعلين السياسيين. وهؤلاء يلتقون جميعا حول أرضية مشتركة، تقوم على اختيارات استراتيجية واضحة، تزكيها وتدعمها أعلى سلطة في الدولة. وفي مقدمة هذه الاختيارات : الملكية الدستورية، التمسك بإسلام متفتح ومتسامح، الخيار الديمقراطي، حقوق الإنسان، إدانة العنف المؤسساتي والخارج عن الشرعية، اقتصاد السوق، التضامن والانفتاح على العالم.

* دينامية المجتمع : على مدى الخمسين سنة الأخيرة، استطاع المغرب الحفاظ باستمرار على دينامية داخلية، عبرت عن ذاتها من خلال الأحزاب السياسية : التنظيمات النقابية، الهيآت الوسيطة، وسائل الإعلام، المجتمع المدني، المنظمات غير الحكومية العاملة في الميدان الاجتماعي، المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وعن حقوق المرأة، الجمعيات الثقافية والرياضية. هذه الدينامية الموطدة بشكل موصول تتقوى وتتنوع، لتفتح آفاق جديدة للبلاد.

وفي نفس السياق، فإن وجود إطار قانوني لحرية الصحافة وتأسيس الجمعيات، بالإضافة إلى بروز حقل إعلامي يقظ واحترافي تعد مكتسبات أساسية، ولاسيما بالنظر إلى المعايير المتداولة في المحيط الجهوي لبلادنا. كما أن المشهد الحزبي والنقابي يستعد، في الوقت الراهن، لتجديد بنيوي ولأداء أدوار جديدة على مستوى التنمية. أما بالنسبة لتعميق الممارسة الديمقراطية، وموصلة السير لترسيخ دولة الحق، وحرية تعبير الأفراد والجماعات فإنها لن تكون ممكنة في غياب المستوى الأول من الحريات وهو الأمن، ففيما يتعلق بهذه المسألة، عرف المغرب، على العموم، كيف يحافظ على السلم المدني، ويضمن أمن الأفراد والممتلكات، ويقطع مع العنف. وهكذا فتمظهرات عدم الطمأنينة والتعبيرات المحلية عن الانحرافات الإرهابية، الآتية من الخارج لا يمكن أن تنسي أهمية هذا المكسب الأساسي.

* تقدم أكيد في مجال التنمية البشرية : انطلق المغرب، غداة استقلاله، من مستوى ضعيف للتنمية البشرية. ومنذ ذلك الحين، تم بذل جهود، تشهد عليها الأشواط المتعددة المقطوعة على مستوى ارتفاع معدل الحياة، والتمدرس، والأمن الغذائي، وولوج الصحة وتدبير الماء والبنيات التحتية، ونمو الدخل الفردي الإجمالي ومعدل الدخل الفردي.

وعلاوة على ذلك، تتوافر بلادنا اليوم على إطار عصري للعمل الاقتصادي، يجسده قانون الملكية والمبادرة الفردية، قانون الأعمال، الاستقرار الماكرو-اقتصادي، تنظيم الحوار الاجتماعي، قوة القطاع المالي العمومي. هذا فضلا عن أهمية القطاعين الثالثي والثاني في الإنتاج الوطني الخام، وبروز أبطال مغاربة في قطاعات مختلفة للأنشطة.

ولقد تحقق هذا التقدم الذي شهده المغرب أيضا بفضل إدارة عمومية توفقت، على العموم، في الاضطلاع بمهامها، رغم المشاكل الجسيمة التي ما تزال تعاني منها المرافق العمومية إلى اليوم. وبذلك، يعد المغرب بلدا منظما يتوافر على إدارة عمومية قوية وعلى هيأة موظفين قادرة، إجمالا، على الانخراط في مشاريع وأوراش الإصلاح والتحديث.

وإلى جانب ذلك، نجح المغرب في تسريع انتقاله الديموغرافي، عبر التحكم في معدلات النمو الطبيعية وكذا المتعلقة بساكنته، معدلا بذلك هرم الأعمار، المقترن بتمدين ديموغرافي فعلي، شريطة التحكم في آثاره الجانبية.

* انفتاح وانخراط ثابتان على الصعيد الدولي : إن مكتسبات بلادنا تلمس أيضا خارج حدوده ؛ حيث تأكد حضور المغرب فعليا على الصعيدين الإقليمي والدولي، منذ السنوات الأولى لاستقلاله.

وكان دوره رائدا في المحافل العربية والإفريقية والإسلامية، كما برهن على حضور دائم، على الصعيد الدولي، يشهد على ذلك انضمامه إلى المعاهدات الدولية الكبرى، ونشاطه في حظيرة هيئة الأمم المتحدة. وقد جعل من الانفتاح الاقتصادي والتجاري خيارا استراتيجيا، وانخرط، خلال العقدين الأخيرين، في عدة اتفاقيات للتبادل الحر.

ويمثل الخيار المغاربي والشراكة الأورومتوسطية وما وراء الأطلسية والعمق العربي والإفريقي، مكتسبات أساسية لمغرب اليوم. ومن ثم، تشكل صيانة هذه المكتسبات في اتجاه يخدم المصالح الوطنية وتنمية البلاد مهمة دائمة، لا يمكن اختزالها في العمل الدبلوماسي الرسمي فحسب ؛ ذلك أن الدبلوماسيات الموازية، التي يقوم بها المجتمع المدني والمثقفون ورجالات العلم ورجال الأعمال، ومكتسبات المغرب في مجال الانفتاح والعمل والإشعاع، على الصعيد الدولي، تبشر بدينامية جديدة.

• بؤر المستقبل :

وهي تلك التي تتعلق بالعوائق وأنواع العجز البنيوية، التي تهم الأبعاد المحورية للتنمية البشرية بالمغرب، حيث إنه بدون الخروج من بؤر المستقبل، فإنها سترهن، بشكل أكيد، مستقبل تنمية البلاد. وبالنظر إلى ترابطاتها المعقدة وآثارها الحاسمة فإن تجاوزها ستفتح الطريق أمام إمكانيات أخرى لمستقبل مغاير لمستقبل الاستمرار في المسار الحالي للاتجاهات الوازنة.

إنها بؤر رئيسية، ترتبط بعدد من مجالات العجز والعوائق التي تم تشخيصها أثناء التحليل الاسترجاعي، وفي ضوء تحديات المستقبل :

* المعرفة : هنالك مواطن قصور دالة في مجال إنتاج المعرفة، وولوجها ونقلها ونشرها، في كل أشكالها : التربية والتكوين، محو الأمية، الإنتاج الثقافي، نشر المعارف الضمنية، والبحث العلمي والابتكار.

إن إرساء مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة أضحى اليوم ضرورة قصوى، في إطار المنافسة الدولية والانفتاح الاقتصادي وعولمة التبادلات. وعلى الرغم من المجهودات الموصولة التي تم بذلها، فإن المنظومة التربوية المغربية تمر بأزمة مشروعية ومصداقية تغذي القصور الحاصل في مجال المعرفة. فالأدوار الاجتماعية والاقتصادية للمدرسة تأثرت سلبيا، كما يشهد على ذلك ما تعانيه من صعوبة في نقل قيم المواطنة والانفتاح والتقدم، وما يعتريها من تراجع على مستوى جودة التعلمات الأساسية الضرورية لتنمية القدرات والكفايات (القراءة، الكتابة، الحساب، التحكم في اللغات).

* الاقتصاد : حقق الاقتصاد المغربي، على مدى خمسة عقود الفارطة، نتائج باهتة. وفيما يتعلق ببعض الجوانب، كان التقدم ملحوظا، حيث تم بناء أسس اقتصاد عصري، في إطار تحكم تدريجي في التوازنات الماكرو-الاقتصادية والتضخم. وفي المقابل، فإن تواضع مستوى النمو وعدم استقراره أعاقا، بشكل كبير، التنمية البشرية بالبلاد. كما أن القطاع الفلاحي، الذي تظل نتائجه مرتبطة بالتقلبات المناخية، إذا كان يحتل مكانة هامة في الاقتصاد الوطني. فإنه، يعد السبب الرئيسي في الهشاشة المستمرة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني. كما أن ضعف النمو العام في ارتباطه بالتوزيع غير العادل لثمار النمو، وللاتوازنات سوق الشغل قد أفرز تفاوتات اجتماعية وغذى البطالة المكثفة، التي ظلت وما تزال تحد التنمية البشرية للبلاد، وتعمق الفجوة الاجتماعية. فالمغرب يعرف معدل بطالة عام يتراجع إلى أقل من 10 % منذ 1982. أما الفقر، فعلى الرغم من تراجعه نسبيا، إلا أنه ما يزال يهم خمسة ملايين مغربي.

* الإدماج : لم يتمكن المغرب دائما خلال الخمسين سنة المنصرمة من إدماج مختلف مكونات مجتمعه ومجالاته الترابية، في مساره التنموي. فعلى المستوى الأول، يلاحظ أن المرأة المغربية ظلت مبعدة ولم تحتل مكانتها كاملة في الدينامية التنموية لبلادنا ؛ فمستوى التنمية لدى النساء، وخاصة منهن القرويات ، ظل مقلقا، كما يشهد على ذلك، معدل تمدرس الفتيات ومعدل بطالة النساء، خلال نصف القرن الأخير؛ ذلك أن أول إجحاف وقع في حق النساء يتمثل في الأمية، التي تتسبب في حرمانهن من إمكانية الاندماج الكلي في تطور المغرب، ومن ثمة، حرمان البلاد من مؤهلات مكون واسع ومهم من ساكنتها. كما أن الشباب لم يحتل مكانته اللازمة في مسيرة التنمية. ومع أن فئة الشباب ما فتئت تمثل غالبية السكان المغاربة، فإن اندماجها الاجتماعي والاقتصادي ظل محدودا، خلال الخمسين سنة الفارطة، بسبب قصور تأطيرها، وضعف انخراطها في الحقل السياسي والثقافي والرياضي. هذا النقص في الإدماج يهم أيضا المستوى الترابي، ما دامت جهات كاملة ببلادنا لم يتم إدماجها في المسار التنموي.

أما العالم القروي فإنه طالما ظل يعاني من الإهمال، بل والإقصاء من التنمية والتحديث. وبذلك فغالبا ما بقيت العديد من المناطق القروية مرتبطة بالزراعة المعيشية. ومعرضة أكثر من غيرها للبطالة وقلة فرص الشغل، وانتشار الفقر والأمية والأمراض، وهيمنة ظروف عيش بدائية، أحيانا، وجد سيئة، أحيانا أخرى. وهذا ما جعل العالم القروي يشكل الوجه الآخر لمغرب يسير، مع ذلك، على درب تطور جلي.

* الصحة : على الرغم من التقدم الملحوظ الذي حققه النظام الوطني للصحة، فإن ولوج الخدمات العلاجية ما يزال غير عادل ومحدود بسبب عوامل عدة، بالإضافة إلى مستوى ضعيف من الإنفاق العمومي في مجالي الصحة والتغطية الصحية الجماعية والخاصة ؛ الشيء الذي يفسر النقص الحاصل في التأطير الطبي والعلاجي، وفي البنيات التحتية الاستشفائية ، بالنظر إلى الإنجازات العامة للنظام الصحي.

وإضافة إلى ذلك، يضاعف تحمل الأسر لنسبة 50 % من الإنفاق الإجمالي للصحة من حدة التفاوتات في ولوج الخدمات الصحية. كما تشكل التكلفة باهضة العلاجات والتوزيع الجغرافي غير العادل للخدمة الطبية، حواجز إضافية لولوج العلاجات، ولاسيما بالنسبة للساكنة الفقيرة والمعوزة. وفي نفس الإطار، فإن النواقص المتعلقة بنظام حكامة الصحة، وخاصة، ضعف التنسيق والانسجام المميزين للسياسات العمومية، ومحدودية الاهتمام بالبحث/التنمية ؛ تفضي إلى ضعف نجاعة العمل العمومي في هذا الميدان.

وكل هذه الاختلالات تؤثر سلبيا في مستوى التنمية البشرية ببلادنا، بشكل تبرز انعكاساته على صحة الساكنة ومؤشرات الوفاة ومعدل الحياة. كما تترتب عنها تكلفات اجتماعية مهمة، وتراجع في مردودية العاملين بالقطاع.

* الحكامة : عرفت بلادنا عجزا أفقيا آخر، منذ الاستقلال يتعلق بحكامتها، بالمعنى الذي يفيد أسلوب التدبير والقيادة التسييرية وممارسة السلطة، سواء تعلق الأمر بالمجال العمومي أو المقاولة. وهكذا، ترتبط عوائق الحكامة الجيدة، أساسا، بالطريقة التي تم بواسطتها تطبيق المبادئ المهيكلة للتنمية البشرية. ومن ثم، فإن الفروق الملاحظة في مجال تطبيق الحكامة تهم الميادين التالية :

• المشاركة : هذه الميزة غالبا ما كانت منعدمة أثناء تصميم وإنجاز برامج ومشاريع التنمية. غير أنه بدون المشاركة المباشرة للمواطنين وعدم اهتمام الساكنة المعنية، فإن الإنجازات التي صممت بأفضل الطرق التقنية يمكن أن تبدوا بعيدة كل البعد عن الحاجات الفعلية للمواطنين، وغير متجاوبة مع انتظاراتهم، مما يجعلها ذات آثار سلبية على الأفراد، يمكن أن تستمر طويلا.

• التخطيط : غالبا ما تم التعبير عن المشاريع التنموية بواسطة وثائق مخططات. لكن تطبيق، بل وحتى إعداد تلك المخططات ظلا يعانيان من مواطن قصور عدة. فالعلاقة مع الزمن لم يكن متحكما فيها بالقدر الكافي، بسبب إعطاء الأولوية للاعتبارات الظرفية، ذات المدى القصير. ونظرا للمراعاة المفرطة للثوابت البنيوية، التي يتعين الالتزام بها، وتفاديا للأخطارالتي يمكن أن تطرأ على المدى البعيد. وفضلا عن ذلك، فإن بعض مخططات ومشاريع التنمية اتسمت، في بعض الأحيان، بطموحها المفرط وطابعها التجزيئي أو بعدم مراعاة الشروط الكفيلة بجعلها قابلة للتطبيق، ومندرجة في مدى زمني عميق.

• منظومة اتخاذ القرار : يلاحظ أن هذه المنظومة طالما عانت من الارتجال والتسرع، أو على العكس من ذلك البطء والافتقار إلى التصرف في الوقت المناسب، وضعف القدرة على التوقع والاستباق. كما أن اتخاذ القرار لم يكن دائما مبنيا على دراسة استكشافية وتحكم معقلن ودقيق في الرهانات المطروحة. وليس هناك سوى عدد محدود من القرارات التي اتخذت، في ضوء نقاش منفتح على تعدد وجهات النظر ومؤسس على دراسات ذات بدائل ناجعة، سواء على المستوى الكمي أو الكيفي، أو باعتبار مقاربتها أو وقعها.

• ثقافة التقويم : هذه الثقافة لم تكن راسخة في تفكير وممارسة العديد من تنظيمات ومؤسسات بلادنا. ويمكن القول، بصفة خاصة، أن السياسات العمومية المنوطة بالمشرفين على تسيير الشأن العام وبالمنتخبين، لم تكن تخضع للتقويم، ومن ثم، للاستدراك والتصحيح، لتجنب آثارها السلبية المحتملة على العيش الكريم للساكنة.

وحتى في حالات القيام بافتحاصات وتقويمات، فإن نتائجها نادرا ما تنشر للعموم، وقلما يتم إطلاع المواطنين المعنيين عليها. وهذا ما حد من مصداقية ونجاعة عدد مهم من المؤسسات والمشاريع.

• المحاسبة : إن المحاسبة أو تقديم الحسابات، وكذا تطبيق العقوبات الإدارية أو السياسية أو القضائية أو الانتخابية، المترتبة عن نتائج تلك الحسابات، لم تتحول بعد عملة متداولة في بلادنا. وفي المقابل فإن الإحساس بالإفلات من العقاب شجع على التلاعب بالمال العمومي، ودفع إلى تكرار الأخطاء أو التهاون، علاوة على منح مكافأة غير مستحقة للعديد من الأشخاص المفتقرين للكفاءة.

ومنذ الاستقلال، يلاحظ أن المواطنين لا يرتبطون في علاقاتهم المهنية على أساس نوع من التعاقد مع الإدارة : فإذا كانت عليهم واجبات كمواطنين، فلهم أيضا حقوق، ومن بينها الحق في المطالبة بمحاسبة المسؤولين على تدبير الشؤون العمومية.

هذه التباعدات والفروق تتجسد عبر اختلالات كبرى، ولاسيما في مجالات : القضاء واللامركزية والعلاقات بين الإدارة والمواطنين. أما الرشوة فإنها تمثل تجليا آخر لسوء الحكامة، بما أنها تهدد مصداقية المحاسبة (من خلال التلاعب بالقواعد المنظمة) والإدماج (بتجاهل حق المواطنين في المعاملة المنصفة). وتبرز خطورة الرشوة أكثر في التعامل معها وكأنها سلوك عادي، مما قد يضعف من علاقات الثقة بين المواطنين والإدارة، ويشوش على مناخ الأعمال.

ونظرا للتدخل غير الصائب لحل الإشكاليات المرتبطة ببؤر المستقبل فإن البلاد تواصل تحمل آثار الطابع المعقد لاستمراريتها. وبذلك، فإن تحويل هذه البؤر إلى رافعات حقيقية للتنمية سيمكن، في مقابل ذلك، من فتح آفاق جديدة.

وفي نفس الاتجاه، يتعين على المغرب أن يأخذ بعين الاعتبار الإشكاليات المرتبطة بتطور محيطه الجهوي والدولي. وهكذا فسبب التزاماته الدولية، وتحالفاته الاستراتيجية، وضعف توافره، على الموارد الطبيعية ومحدودية اندماجه في تيارات التبادلات العالمية ؛ سيجد مغرب 2025 نفسه، بالضرورة في وضع متأثر بمحيطه الدولي وبالتغيرات المناخية ؛ محيط سيظل مهيكلا بالقوة الأمريكية، لكنه سيشهد صعود قوى جديدة كالصين والهند والبرازيل. كما أن تطور المشروع السياسي الأوربي سيواصل ممارسة تأثيره القوي على محيطنا الجهوي. ومن جهتها، فإذا كانت العولمة ستظل تفيد، بإسقاطاتها الإيجابية، الاقتصاد العالمي (تحرير التدفقات التجارية والمالية)، فإنها ستسبب في بروز تحديات سوف تطرح بجدية : تدهور المحيط البيئي، استنزاف بعض موارد الطاقة، مشاكل الهجرة. أما المجتمعات فإنها ستشهد تغيرات مهمة، ومنها، على الخصوص : الشيخوخة الديموغرافية، سيطرة تكنولوجيا المعلوميات، وتأكيد دور المجتمع المدني. وإلى جانب ذلك، فإن التقلبات المناخية يمكن أن تضاعف من حدة اللاتوازنات الماكرو-اقتصادية، مع ما سينجم عنها من انعكاسات كبرى على الإنسان.

ومن ناحية أخرى، فقد تحول المغرب بدوره، في السنوات الأخيرة، كبلد هجرة، سواء أكانت قانونية أو سرية، إلى بلد للاستقبال أو العبور لصالح هجرة قوية شبه صحراوية. وهذه المظاهرة تكاد يصبح بالغة التأثير بالنظر إلى الاضطرابات التي تسببها. ولذلك، يتعين على المغرب الذي يوجد، نتيجة هذه الظاهرة، في وضعية ضغط مزدوج، أن يبحث، مع جيرانه الأوروبيين، ولاسيما إسبانيا، عن حلول بنيوية لهذا المشكل، فضلا عن ضرورة معالجته بطريقة إنسانية.

وعلى مستوى آخر، فالدور المتنامي لوسائل الإعلام، والمقتضيات الكونية لشفافية الديمقراطية واحترام الحريات، كلها رهانات تتجه نحو اختراق الحدود، وفرض معايير مشتركة بين الجميع. وهي رهانات ستكون لها انعكاسات عالمية وتأثير مباشر على بلادنا.

3.6. المغرب في مفترق الطرق

يوجد المغرب في مفترق الطرق. فهو أمام وضع تاريخي متسم بتعدد الاختيارات والمشاريع الكبرى، التي تنتظم، في نهاية المطاف، حول خيارين رئيسيين ومتعارضين : فمن ناحية، يمكن للبلاد أن تنخرط بقوة في دينامية رائدة للتجديد والتنمية، عبر استثمار الفرص المتاحة أمامه ومن خلال جعل سيرورة الإصلاح سيرورة دائمة وبنيوية. ومن ناحية أخرى، فالبحث عن حلول لبؤر المستقبل المعيقة للتنمية، يمكن أن يصطدم بتأجيل لا نهاية له.

وهذان هما الطريقان المتاحان اليوم أمام المغرب، في أفق العقدين القادمين : طريق تراجعي، يدفع إلى التراخي والإحباط، في مقابل طريق مدعم برؤية طموحة وإرادية، في مستوى مؤهلات الشعب المغربي.

ومن هذا المنطلق، فإن نجاح الأجيال القادمة وتوطيد المكتسبات المتعلقة بالتنمية البشرية، يمران بالضرورة، عبر الانخراط في رؤية إرادية تتأسس على تجاوز بؤر المستقبل ؛ وهي رؤية المغرب المأمول والممكن.

• الطريق التراجعي لمغرب 2025

إن المغرب إذا لم يبادر من الآن إلى العمل على تجاوز مواطن عجزه وعوائقه، مع تحويل بؤر المستقبل، المشار إليها سابقا، إلى رافعات حقيقية للتنمية، فإنه سيكون في مواجهة سيناريو تراجعي ؛ وهو سيناريو يظل محتملا، إذا لم تصبح الإصلاحات الجارية متينة وراسخة، وإذا لم تصل إلى تحقيق أهدافها أو إذا أضحت محل مزايدات قابلة لإضعاف الانخراط الجماعي في أوراشها، ولكن أيضا إذا لم تكن البلاد في مستوى التكيف بذكاء مع الرهانات الجديدة والتغيرات التي يشهدها محيطها الدولي.

إن لوحة السيناريو التراجعي، غير المقبولة لمغرب 2025 تتبدى كما يلي :

ازدياد حدة النواقص المرتبطة بنظام الحكامة، التي يمكن أن تعيق التطور الديموقراطي، وأن تؤثر سلبيا على سيرورة التنمية ؛
تعليم ابتدائي معمم، غير أنه سيكون في مواجهة مشاكل الجودة والمردودية. أما التعليم الثانوي والإعدادي، فإنهما سيستمران في إقصاء أكثر من ثلثي الأعداد المتوقعة للتلاميذ، مع معدل للأمية تبلغ نسبته%20، وموارد بشرية أقل تأهيلا، في مواجهة تحديات المنافسة ؛
ولوج غير منصف للعلاجات نتيجة الفقر وتهميش شرائح واسعة من الساكنة، بالرغم من الجهود المتوقع بذلها على مستوى التغطية الصحية، وتراجع معدلات وفيات الأمهات والأطفال، وكذا بعض الأمراض المعدية والحالات المرضية حديثة الظهور ) السيدا، جنون البقر، أنفلوانزا الطيور....(التي ستشكل خطرا مؤكدا سيهدد عددا كبيرا من الساكنة؛
اقتصاد أقل تنافسية يتسم بوتيرة نمو غير كافية، مسببا في معدل بطالة يتجاوز %20، مع تعمق وتوسع لظاهرة الفقر والتهميش والإقصاء ؛
نذرة تدريجية في الموارد الطبيعية من الممكن أن تتسارع، تحت تأثير ضغط ديموغرافي مرتفع باطراد، ونتيجة أنماط غير ملائمة للتدبير. وسيعرف المغرب أزمة مائية مع تقلص في التغطية النباتية، يمكن أن تتراجع إلى 600 ألف هكتار من الغابات ؛
ضعف القطاع الفلاحي الذي من بين ما سيكون له تأثير قوي عليه إكراهات العولمة، مما سيضاعف بقوة الهجرة القروية، وسيزيد من حدة التنمية العشوائية للمدن ولضواحيها، كما سيمارس ضغطا قويا على سوق الشغل.

ويمكن لتضافر هذه السلسلة من العوامل أن تدفع بالبلاد نحو دائرة مغلقة من التراجع والانكماش، وأن تقودها إلى وضعية غير متحكم فيها.

هذا السيناريو الغير المقبول يجب أن يلفت اهتمام المسؤولين والنخب ومجموع النسيج الاجتماعي للأمة ؛ ومن ثم، فإذا كان هناك بديل ممكن لتحقيق التقدم، فإن تجسيده على أرض الواقع لا ينحصر في مجرد الإعلان عنه، لأنه يقتضي طموحا وحسما والتزاما.

• المغرب الممكن والمؤمول

إن تصور مستقبل مأمول يتأسس على بذور التغيير الملاحظة وعلى مستلزمات التنمية المنشودة. ويتمفصل هذا التصور حول توطيد المسار الديموقراطي والتدبير الناجح للامركزية، والتقليص من الفوارق الاجتماعية والإقصاء والإدماج الملائم للعولمة.

إن المغرب المأمول في أفق سنة 2025 هو أن يكون بلادا منفتحة على القيم الكونية، متشبثة بجذورها، معتزة بتنوعها الثقافي، وتتقاسم قيم التقدم ؛
مغرب أكثر إنصافا وتضامنا يقوم على ولوج معمم للخدمات والبنيات التحتية الأساسية، ويضمن لكل مواطنيه شروط عيش أفضل ؛
مغرب لامركزي، حيث تسهم كل جماعاته المحلية في سيرورة التنمية البشرية، مع تثمين تنوعها وإمكاناتها المادية وغير المادية. وهكذا، فالسمة النموذجية المميزة لالتزام المغرب بالديموقراطية ستكون بمثابة مؤهل حاسم، توفر، في الحالة المتعلقة بأقاليم الجنوب، الباب الوحيد للمخرج الممكن : استقلال ذاتي يتيح للساكنة صلاحية التدبير الديموقراطي لشؤونها، في احترام تام للسيادة والوحدة الترابية للمملكة ؛
مغرب مندمج، بشكل واسع في مجتمع المعرفة ؛
مغرب حيث تكون فيه الحكامة الجيدة راسخة بعمق في أخلاقيات وممارسة كافة الفاعلين في التنمية ؛
مغرب يجري فيه تحرير الامكانات البشرية ولازمتها المتمثلة في تقوية تحميل المسؤولية للأفراد، ضمن بيئة محفزة، لا تعيق ولا تعرقل جهود الأفراد الهادفين إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم ؛
مغرب يتوافر على اقتصاد قوي مندمج، تنافسي ومفتوح على العالم، وقادر على تعميم الشغل والثروات؛
مغرب يطبق قوانينه التي تتميز اليوم بدقتها ؛
مغرب سيكون قد استجاب للأهداف التنموية للألفية قبل سنة 2015 ؛
مغرب مندمج بعمق في محيطه المغاربي والإفريقي والمتوسطي والدولي.

وتعتبر الإمكانات التي توفرها الظرفية الدولية الاستثنائية جد متميزة. لذلك يستدعي استثمارها التسلح بالإرادة والذكاء والفعالية من قبل المغاربة. ومن ثم، فالاندماج الفعال في اقتصاد المعرفة عن طريق نهج مماثلة مع نتائج التحليلات المقارنة على المستوى الجهوي والدولي في هذا الميدان، توفر"مخرجا نحو الأعلى" للاقتصاد المغربي. وبذلك، يمكن لبلادنا، خلال العقدين القادمين، أن تطمح بشكل مشروع إلى الانتقال من وضعية "بلاد وسيطة" إلى وضعية " بلاد للإقلاع " تتوافر على دخل قار يتجاوز 8000 دولار للفرد. كما يمكن للمغرب أيضا أن يطمح إلى تحقيق ما يلي :

التقليص من نسبة أمية الكبار إلى أقل من 5 % مع محوها التام على مستوى المقاولات ؛
التقليص من معدل البطالة إلى أقل من 10 % ؛
الرفع من نسبة التلاميذ في مستوى البكالوريا ذوي نفس الفئة العمرية إلى %70 ؛
الرفع من مجهود البحث والتنمية إلى5 % من الدخل الفردي الإجمالي؛
مضاعفة أعداد المهندسين المستفيدين سنويا من التكوين للوصول إلى أكثر من 40 مهندسا لكل 10.000 من السكان في أفق سنة 2025، وبشكل يمكن من تشجيع إقبال الشباب المغاربة على الشعب العلمية والتقنية، التي توجد اليوم في وضعية مهمشة ؛
السعي إلى جعل 40 % من مناصب المسؤولية الموكولة للنساء ترجع إليهن؛
تغطية ما يفوق 15 % من الحاجيات الطاقية باعتماد مصادر الطاقة المتجددة ؛
تحقيق مساواة كل المغاربة في ولوج الخدمات الأساسية.

4.6. السير نحو 2025 : رهانات السيناريو المأمول

بفضل المسافة الزمنية التي يتيحها التفكير في نصف قرن من التنمية البشرية، يمكن للبلاد أن تنظر اليوم إلى ماضيها بتأن ورزانة، كما يمكنها أن تستشرف مستقبلها بثقة من خلال مقاربة توفق بين التقييم الذاتي والصرامة، وما بين الإرادية وموضوعية الرؤيه. إن بلادنا تحذوها ضرورة التعبئة حول مقاصد مشتركة وبناء المستقبل الذي تطمح إليه ؛ مستقبل يتم الإعداد له بدل الخضوع لما سيكون عليه.

وللتوجه نحو هذا المستقبل المأمول، يتعين على البلاد، أولا وقبل كل شيء، تحقيق التجاوز النهاهئي للمعيقات التي تم تشخيصها بعمق، والتي كانت مصدرا لعوامل التأخر، التي ما تزال ترهن مستقبلها.

كما ينبغي لبلادنا أن تجعل من بؤر المستقبل رافعات حاسمة : فالمعرفة، الحكامة، الاقتصاد، الإدماج، الصحة وإطار العيش ؛ كلها ميادين يجب أن تحظى بأولوية الإصلاح والعمل، تنضاف إليها رهانات جديدة.

ولإعطاء مضمون ملموس لهذه الرؤية، يمكن تحديد عدد من طرق العمل. وإذا كان صحيحا أن الرؤية يمكن أن تكون متقاسمة، فإن السبل المفضية إلى تحقيق أهداف هذه الرؤية تبقى متعددة وتشكل بالفعل موضوع وهدف الممارسة السياسية. غير أنه ينبغي : يتعين مراعاة المرونة والقدرة على التكيف في وضع الأجندة الوطنية، بشكل يجعلها قابلة لإدماج المستجدات ومختلف الإثراءات البديلة، وفي الوقت ذاته، الانطلاق فمن قدرة البلاد على توطيد بعض إصلاحاتها وأوراشها الحاسمة والتي ينبغي لها، بالنظر إلى طبيعتها ورهاناتها، أن تسمو عن الظرفيات والتناوبات السياسية. ومن ثم فإنه يرجع إلى القيادات السياسية إنجاز هذا العمل بالرغم من أن "التوافقات" في هذا المضمار لا تتنافى مع الممارسة الديموقراطية ؛ ذلك أن قضايا من حجم الإصلاح التربوي، والاندماج في مجتمع المعرفة، وإعداد التراب، ومحاربة الفقر أو بالأحرى المعادلة الصعبة للماء ؛ تشكل جميعا قضايا حاسمة وبالغة الحساسية، مما يجعلها تستدعي الالتزام بتعاقدات وطنية ممركزة حول أهداف إرادية، لا مناص من تحقيقها.

فأفق 2025، يستلزم من المغرب أن يفوز، على الأقل، برهانات المستقبل الخمس التالية :

توطيد الممارسة السياسية العادية وتقوية التماسك الوطني وتحسين نظام الحكامة ؛
توفير شروط اندماج قوي للمغرب في اقتصاد ومجتمع المعرفة ؛
إعادة بناء اقتصاد تنافسي يستفيد من انفتاح النافذة الديموغرافية ؛
ربح رهان مكافحة جميع أشكال الإقصاء وإعادة تنظيم التضامنات والتغلب على الفقر؛
استغلال فرص الانفتاح وتجنب مخاطره، والمضي في مقاربات جديدة بهدف للتموقع الجهوي.

توطيد الممارسة السياسية العادية، وتقوية التماسك الوطني وتحسين نظام الحكامة :

يتعين على المغرب، ليس فقط، أن يستكمل انتقاله الديمقراطي، بل وأن يستقر، بشكل دائم، في إطار الممارسة السياسة العادية. إن هذا الانتقال لن يتحقق إلا بفضل فاعلين مقتنعين بالاختيار الديمقراطي وفي مقدمتهم : ملكية دستورية ومواطنة تتولى، في استمرارية دورها التاريخي، وبتوافق مع القوى الحية للمجتمع، قيادة مختلف مراحل هذه السيرورة السياسية.

وينبغي للعمليات الانتخابية الانتقال من الوفرة الكمية للأحزاب السياسية إلى التعددية في المشاريع والبدائل. وهو ما سيدفع إلى إعادة هيكلة الحقل السياسي الوطني حول أقطاب إيديولوجية واضحة، وإلى تجديد دور النخب.

ومن هذا المنظور، فإن إعادة الاعتبار للالتزام السياسي أصبح فعلا وطنيا، كما بات من الضروري استرجاع دور ومكانة الأحزاب السياسية، على غرار دور وسائل الإعلام والمجتمع المدني.

إن هذه المجموعات الثلاث من الفاعلين، مدعوة كلها لأن تلقي نظرة استشرافية على المستقبل، وأن تتأقلم مع التغيرات التي يشهدها المجتمع، ومع التحولات التي تطرأ على الأفكار والتقنيات، عبر العالم.

ومن جانب آخر، فإن الانخراط في الممارسة السياسية العادية لن يتحقق دون توفير محيط يضمن الأمن والاستقرار، ودون تأمين دور فاعل بل ومؤسساتي للمعارضة السياسية.

كما يتعين على بلادنا أن تعطي نفسا جديد للامركزية، بوصفها نهجا لتوسيع نطاق الممارسة الديمقراطية وقاعدة النخب، وكذا لتنظيم سياسة القرب ومشاركة الساكنة، وتجاوز بطء مساطر اتخاذ القرار.

ومن شأن استحضار البعد التراب السياسات والبرامج العمومية أن تحسن من مردودية تدخلات الدولة، كما ينبغي تعزيز سياسة اللاتمركز وتشجيع العمل المشترك ما بين القطاعات الوزارية، حتى تجسيد عمليا الانتشار الترابي لعمل الدولة.

ويمثل اختيار الجهوية، بدوره، خيارا مستقبليا، سواء لاعتبارات ديمقراطية أو اقتصادية؛ فبلادنا التي انخرطت في هذا النهج، مدعوة لأن توفر لنفسها الوسائل الكفيلة بأن تجعل الجهة تتحول فعليا، إلى فضاء للتعبير والتمثيلية السياسيين، ومحيط مؤهل لقيادة سياسات عمومية منسقة ومندمجة.

وفكما هو الشأن بالنسبة للجماعات المحلية فإنه ينبغي أن تتمتع المؤسسة الجهوية بتفويت واسع للاختصاصات والموارد، خاصة في مجال إعداد التراب والتنمية الاقتصادية. كما أن العمل على "استقرار الخريطة الإدارية"، بالاعتماد على تقطيع ترابي أكثر عقلانية، وعلى ترسيخ دور المستويين الاستراتيجيين للامركزية المغربية، أي الجماعة والجهة، يشكلان مشروعين هامين لخدمة الديمقراطية، وللرفع من مردودية السياسيات التنموية.

وأخيرا، فإن تجديد الحكامة العمومية هو اللازمة الإجرائية للتجديد السياسي، كما يمثل الشرط الضروري لكي ينخرط المغرب في نهج تنمية بشرية مستديمة، وذات مستوى أجود.

ومن أجل ذلك، ينبغي لنظام اتخاذ القرار أن يتسم بالعقلنة وبالتفاعلية ؛ ذلك أن تدخل الدولة يكون أكثر نجاعة عندما تضطلع بالمهام الكاملة بصفتها القيمة على وضع الاستراتيجية وقواعد الضبط، وعندما توفر أوسع شروط الشفافية بالنسبة للفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين.

كما يتعين على المغرب، خلال العقدين القادمين، أن يدير ظهره نهائيا لظواهر الرشوة وسوء تسيير الموارد العمومية، وأن يجعل من الحركية والمحاسبة والشفافية والتقويم، قيما عادية في تدبير الشأن العام.

وفي هذا الصدد، يعتبر دور مؤسسات الرقابة الإدارية والمالية حاسما، على غرار دور وسائل الإعلام. كما أن جودة الخدمة المقدمة للمواطن، بصفته )مستعملا أو زبونا أو دافعا للضريبة( للمرفق العمومي، يجب أن تصبح معيار تجديد الثقة في الموارد البشرية القائمة على هذه الخدمة، ورصد الإمكانيات المادية.

توفير شروط اندماج قوي للمغرب في اقتصاد ومجتمع المعرفة :

يشكل تجديد المدرسة رهانا بالغ الأهمية ؛ يتعلق الأمر بمدرسة منتجة للمضامين ولقيم المواطنة وضامنة للرقي الاجتماعي. وبمدرسة يكون لها إشعاع في محيطها، مندمجة في بيئتها وحاملة لأفكار التقدم ؛ مدرسة قادرة على ربح رهان الجودة والاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين، مدرسة يتحمل فيها رجال التعليم، بعد إعادة الاعتبار والمصداقية والاحترام لهم، كامل مسؤولياتهم تجاه أجيال المتعلمين الناشئين. وسيكون في مستطاع مدرسة كهذه أن تمد البلاد بالموارد البشرية ذات الكفاية القمينة بتمكينها من ولوج عوالم اقتصاد المعرفة وربح معركة التنمية.

ومن شأن مدرسة بهذه المواصفات أن توفر للبلاد كذلك النخب السياسية والاجتماعية القادرة على إنجاح المشروع الديموقراطي الوطني.

ومن ناحية أخرى، فإن الأمة التي تنخرط في مجتمع المعرفة لا يمكنها الاكتفاء بنقل التكنولوجيات، بل ينبغي لها أن تتوافر على بنيات وقدرات ذاتية في مجال البحث والتنمية.

وعلاوة على ذلك، فإن إنجاح الاندماج في مجتمع المعرفة لا يمكن أن يتحقق دون الانتشار الواسع لتكنولوجيا المعلوميات والاتصال في المقاولات والإدارات وكذا الأسر.

إعادة بناء اقتصاد تنافسي يستفيد من انفتاح النافذة الديموغرافية ؛

إن النمو الاقتصادي يبقى ضروريا للرفع من مستوى عيش السكان، وتيسير الاندماج السوسيو-اقتصادي للمواطنين، وتوفير حاجياتهم. وهي ضرورة ملحة بالنظر إلى أنه ليس هناك من خيار أمام المغرب سوى رفع تحدي انفتاح النافذة الديموغرافية، المتوقعة خلال السنوات القادمة.

إنه تحد كبير، بالنظر إلى أن المتغير الديموغرافي، والرهان الذي يطرحه فيما يخص التشغيل، أضحيا يحددان أفق التنمية البشرية للبلاد : وبالفعل، فإنه يتعين الانتقال إلى وتيرة خلق 400.000 فرصة شغل سنويا، في الأعوام المقبلة، عوض المعدل الحالي، المتمثل في 200.000.

وإجمالا، فإن تحويل هذه النافذة الديموغرافية إلى "عائد ديموغرافي" يشكل رهانا تاريخيا، بالنسبة للمغرب، لكونه لن يشهد مثل هذه الفرصة، خلال هذا القرن.

وفي هذا الأفق، يتعين على السياسات الاقتصادية والقطاعية أن تتجه نحو أهداف، أكثر طموحا، للنمو والتشغيل والرفع من مستوى العيش.

فالمطلوب خلال العقدين المقبلين، هو بناء اقتصاد جديد للعالم القروي تتوافر فيه شروط التنوع ويتمفصل حول القطاع الفلاحي بعد إعادة هيكلته وتكييفه مع متطلبات العصر.

كما سيعرف قطاع الصناعة والخدمات حيوية جديدة إذا نجح المغرب في الاندماج في اقتصاد المعرفة، باعتبار الآفاق الاستثنائية التي تتيحها عولمة التبادلات. وبهذا الصدد، ينبغي للإصلاح المعلن عنه في مجال النظام الضريبي أن يمضي إلى غايته، مع مراعاة العدالة الاجتماعية وتساوي الجميع أمام الضريبة، وتنافسية المقاولات الوطنية وجاذبية المجالات الترابية.

وفي الاتجاه ذاته، فإن على بلادنا أن تحسن من قدرتها التنافسية لربح حصص جديدة في الأسواق الجهوية والدولية، وذلك بالاستفادة من رفع الحواجز الجمركية، وانخفاض التكاليف اللوجيستية، لولوج أسواق جديدة.

ويتطلب تحقيق هذا الهدف، نهج استراتيجية مبادرة، في مجال التصدير، بتواز مع سياسة ناجعة لاجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات الخارجية؛ وذلك ضمن استراتيجية شاملة ومتجددة لتسويق المنتوج والموقع المغربي بالخارج. لذلك، ينبغي على بلادنا ألا تتأخر في اعتماد هذه الاستراتيجية، التي تتطلب، بصفة خاصة، التخلي النهائي عن الأساليب الحالية المطبوعة بتشتت الجهود، وتعويضها ببنيات مرنة وفعالة، قمينة بأن تمنح للمغرب تموقعا واعدا في الأسواق الدولية.

كما أن على بلادنا أن تتوفر على رؤية لتنافسياتها الترابية، عبر تشجيع انبثاق "أقطاب جهوية للتنافسية". وهو انشغال يجب أن يظل مركزيا بالنسبة لكل استراتيجية لإعداد التراب، في سياق العولمة.

ومن ناحية أخرى، يتعين على المغرب إعادة توجيه سياسته المائية والطاقية. وبالفعل فإن الطابع المركزي لمسألة الماء يستوجب التوجه نحو مصادر أخرى غير المصادر التقليدية، والتحكم التدريجي في الطلب، لأن البلاد لا يمكن لها أن تستغني عن نهج تدبير أكثر عقلانية وأكثر عدلا للموارد المائية، يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الإيكولوجية التي ستواكب، على مستوى كل الأحواض المائية، حالة الندرة المرتقبة.

أما فيما يخص الطاقة، فإن الارتفاع الدائم لأسعار النفط سيضطر المغرب إلى التحكم في استهلاكه للبترول، وتنويع موارده الطاقية، مع البحث عن مصادر جديدة أقل تكلفة وأكثر حفاظا على البيئة، وتوعية الساكنة بالسبل الكفيلة باقتصاد الطاقة، وبأهمية الطاقات النظيفة والمتجددة.

وبإمكان المغرب أيضا الاستفادة من إمكانيات التعاون الدولي، من أجل تطوير الطاقة النووية المدنية، في إطار "شراكة استراتيجية للثقة"، مع إقامة البنيات التحتية الصناعية والعلمية الضرورية لضمان سلامة مثل هذه المشاريع ؛ ذلك أن الخيار النووي المدني سيشكل، في العقود القادمة، اختيارا يجب على المغرب التفكير فيه بجدية، بالنظر إلى عدم استقرار السوق الدولية للطاقة.

ربح رهان مكافحة جميع أشكال الإقصاء وإعادة تنظيم التضامنات والتغلب على الفقر؛

سيتميز العقدان القادمان بانتقال الرهانات الكبرى للتنمية البشرية نحو المدن، التي سيقطن بها سبعة (7) مغاربة من أصل عشرة (10)، في أفق سنة 2025. وسيصبح اعتماد سياسة حقيقية للمدينة وإعادة تنظيم أشكال التضامن من الأوراش المهمة في هذا المضمار. بالتالي، لا يمكن توقع التطور الحضري وإعداد الفضاءات الحضرية إلا عبر سياسة مندمجة وشمولية للمدينة. فتدبير شؤون المدن لا يمكن أن ينحصر في قضايا التعمير والسكنى.

وبما أن المدن ستصبح مواقع إستراتيجية للتغيير وخلق الثروات، وفي الآن ذاته، مجالات لانتشار ظواهر الإقصاء والفقر، فإن "معركة المدينة" يجب أن تتسع لتشمل كل ما يتعلق بإطار العيش والأمن والنشاط الثقافي والمرافق الحضرية للنقل وتحسين مستوى الانسجام بين المرافق السكنية والإنتاجية للمدن. ومن ثم، فإنه لا يمكن فصل رهان المدينة المدمجة عن الخيارات المرتبطة بالديمقراطية المحلية. وهذا الرهان لن يتم كسبه بدون خلق ميكانيزمات للمشاركة الديمقراطية للسكان في تسيير مدنهم وأحيائهم، وبدون نموذج متجدد وتشاركي ومسؤول للتخطيط الحضري.

غير أن مسألة السكن ستظل من القضايا الأساسية المطروحة في المستقبل، والتي سيكون من شأن التهاون في معالجتها أن يصبح أمرا بالغ الخطورة. كما أن التمدين يبقى رهينا بتطوير مدن جديدة صغرى وأخرى متوسطة، إضافة إلى إعداد حضري للمجالات بين المدن.

وموازاة مع ذلك، يظل مستقبل العالم القروي مرتبطا بتطور الفلاحة، وهو ما يتعين أن يكون موضع اهتمام خاص. لذلك، لا يمكن التفكير في تنويع الأنشطة القروية إلا عبر رؤية واضحة لمستقبل القطاع الفلاحي نفسه، حيث يشكل التخفيف المتوقع على الأراضي الفلاحية، في حد ذاته، حلا ملائما يفتح هذه الإمكانية. ولهذه الاعتبارات، ينبغي الكف عن النظر إلى المجالات القروية كفضاءات للتصحيح الاجتماعي والاستدراك الدائم. فالعالم القروي يستدعي أفقا اقتصاديا واضحا ومنسجما ؛ أفق لا يمكن أن يتبلور دون إقامة تمفصل ذكي مع المدن، (من خلال المدن الصغيرة والمراكز الحضرية)، وذلك في إطار منظورات ترابية، قائمة على التشاور، ومدعمة من قبل الدولة، ومن شأنها أن تصل إلى حد اعتماد تمييز إيجابي لفائدة مناطق قروية ذات مؤهلات خاصة.

ومن ناحية أخرى، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية توفر إطارا مستقبليا لإعادة تنظيم التضامنات، وتسريع وتيرة محاربة الفقر والإقصاء. وستمثل السنوات العشر القادمة حيزا زمنيا مناسبا لتحقيق استدراك جد ملموس، في مجال التنمية البشرية.

فمبادرة التنمية البشرية، التي حددت الأفق المطلوب، في هذا المضمار، ينبغي لها أن تتفادى التحول إلى مجرد برنامج لمحاربة الفقر وأن تثبت نجاعتها، كإطار مستقبلي لإعادة تنظيم التضامنات الاجتماعية والترابية، وكأساس مؤمن لفاعلية السياسات والبرامج العمومية.

وعلى المستوى الإجرائي، فإن هذه المبادرة ينبغي أن تشكل الإطار الاستراتيجي المرجعي الذي يوفر وحدة في الرؤية للبرامج والمشاريع، وآلية للابتكار في مجال الهندسة الاجتماعية والتكفل التشاركي بحاجيات السكان.

وفي السياق ذاته، فثمة قضايا اجتماعية استراتيجية أخرى ينبغي أن تعرف بداية حلول، أكثر طموحا، خلال العقدين القادمين. يتعلق الأمر بنظام الموازنة، بالنظر للتحولات المرتقبة في القطاع الفلاحي، وللضغوط المقبلة على مصادر الطاقة. كما يتعلق بالتوسيع الفعلي للتغطية الصحية، لفائدة الفئات ذات الدخل المحدود، والمحتاجة، وكذا ضمان التوازن والاستمرارية الضروريين لأنظمة التقاعد التكافئي.


استغلال فرص الانفتاح وتجنب مخاطره، والمضي في مقاربات جديدة للتموقع الجهوي

يتعين على المغرب أن يتموقع كفاعل جهوي مؤثر في مشروع بناء منطقة للسلام والاستقرار والتقدم، في حوض البحر الأبيض المتوسط. كما أن شراكته مع المجموعة الأوروبية وتطور علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية، ستتقوى رغم الإكراهات الظرفية ودرجة انخراط الضفة الأخرى للبحر المتوسط أو المحيط الأطلسي في هذه العلاقات. كما يجب على المغرب ألا يذخر جهدا من أجل أن يجعل من اتحاد المغرب العربي واقعا حقيقيا. وبموازاة مع شراكة المغرب مع أوروبا، فمن الضروري عليه أيضا أن يقوي علاقاته مع إفريقيا، على الصعيد السياسي والتجاري والعلمي. وإلى جانب ذلك، فإن بروز فضاء اقتصادي آسيوي (خاصة الهند والصين)، والتغيير السياسي والاقتصادي الجاري في بلدان الإتحاد السوفياتي سابقا وظهور"عمالقة" جدد، كل ذلك يفرض تنويعا في الآفاق الإستراتيجية لبلادنا.
* * *

أن رهانات المستقبل هي بالأساس رهانات الشباب المغربي، الذي على عاتقه ستقوم نهظة البلاد وتنميتها، والذي يعود إليه الحلم بمغرب الغد وبنائه.

ولكون الشبيبة تشكل عماد المستقبل، فإن عليها أن تفرض نفسها ليس كفاعل أساسي فحسب، ولكن كهدف محوري للسياسات العمومية. وعلى المغاربة جميعا أن يضعوا اليوم كل الثقة في بلادهم وفي قدرتهم الجماعية على الانخراط في مسيرة التنمية والتقدم، من أجل أن يسير الحلم بالمغرب المأمول في اتجاه المسالك المفضية إلى المغرب الممكن.