الموت بين الأهل نعاس احلام مستغانمي






منذ بضعة شهور وأنا أستيقظ على الشريط نفسه، الذي تطوّعت صديقة صحافية تُقيم في الإمارات، بمطاردته في المكتبات لتهديني إيّاه قبل عودتي لبيروت.
بدءاً، عجبت لأمري وأنا أدور في معرض الكتاب في أبوظبي طلباً للشيء نفسه: «أريد أسماء اللّه الحُسنَى، إنشاد سيِّد مكاوي». قال أحد أصحاب المكتبات الدينية، إنه يوجد في مكتبة في المدينة. فركبت المسكينة سيارتها، وقصدت المكتبة، لتعود من غزوتها بنسختين من الشريط نفسه. هكذا أصبح في إمكاني أن أحتفظ بنسخة في بيتي، وأُخرى في حقيبة سفري. لكنَّ شيئاً كان ينقصني، فقد كان من إنشاد هشام عبّاس، بأداءٍ يختلف وقعه على قلبي عن صوت الشيخ سيِّد مكاوي. بذلك الابتهال الأبعد في القلب، والأصفى في الروح. الذي يخطفك من نفسك ويشلّك لفرط السّكِينة التي يُدخلها في قلبك. كيف لا وهو مَن قام بتلحين ذلك الإنشاد، وبأدائه أكثر من مرة ليكون هو الْمُنشد، والْمُنشدين في آن! عندما سمعت هذه التفاصيل في أحد البرامج الإذاعية، أُصبتُ بالذهول ولم أفهم كيف تسنّى لهذا الرجل الكفيف، أن يحفظ أسماء اللّه التسعة والتسعين، في تسلسلها، من دون أن يُخطئ في تقديم أو تأخير اسم، أو نسيان أحدها. بينما لم أستطع أنا حفظها، على الرغم من سماعي لها مرّات عدّة في اليوم.
في آخر زيارة لي إلى الإمارات، كنت برفقة صديقتي الدكتورة هنادي ربحي، عندما وقعنا على الابتهالات إيّاها، بأداء سيِّد مكاوي هذه المرّة. من فرحتنا اشترينا شريطين وأسرعنا إلى السيارة نستمع إلى «أغنيتنا» المفضّلة، التي ذهبت بعض الصديقات إلى حدِّ تسجيلها على رنّة جوّالهن، وكانت تلك فكرة رائعة، عجزت لأسباب تقنيّة عن جعلها على جوّالي. فقد أعجبني أن تتوالى أسماء اللّه طالما الهاتف يدق. إحداهن مازحتني قائلة: «وماذا لو دق، وأنت في مكان عام في أوروبا؟ إنها شبهة أخطر من الحجاب!
في السيارة فوجئنا، أنا وهنادي، بكون الشريط يحمل أيضاً أغاني دينية باللهجة المصرية، ما شوّش على مزاجنا، الذي كان يريد سماع أسماء اللّه الحسنى لا غير. وهكذا عدنا للشريط الأول الذي يردّدها من دون توقف.
كلَّ صباح أحتفي بأسمائه تعالى. كزائر يطرق بابي أسعد بها، أُجالسها حتى أثناء قيامي بمشاغلي الصباحيّة. أذكر قوله جلّ مَن في عُلاه «أنا جليس مَن ذكرني» فلا أقبل أن أبدأ يومي بمجالسة سواه.
أمام أسماء اللّه الحسنى، يُبصر الإنسان ذاته، ويُدرك قدر نفسه، يتواضَع، يزهد، يخشع. يخشى أن يُخطئ في حقِّ أحد، أو في حقِّ خالقه. أمام ذلك الابتهال الجميل كلّ آفــة من آفات القلوب تجد لها دواءً في اسم من أسمائه الحُسنَى. فتخرج النفس من تلك الجلسة مُعافاة من هموم الدنيا، سعيدة مطمئنة. فلا عَجَب أن تُثبت بحوث طبية حديثة، أن أداء الصلاة والتأمُّل والتعبُّد، هي من أهم الأنشطة الطبية، التي تساعد على إفراز هرمون الشباب الـ «ميلاتونين»، بالتالي تأخير أعراض الشيخوخة.
لكن الاستثمار الأكبر، هو حتماً في غير هذا الجسد الْمُعرّض للفناء، عند أول عطب أو حادث. ولا أصدَق من قول أحد المتصوّفة:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسرانُ
أقبِل على النفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس، لا بالجسم، إنسانُ
واشدد يديك بحبل اللّه معتصماً
فإنّه الركن إن خانتكَ أركانُ
ذكرت هذا كله، وأنا أمرّ في وسط بيروت وقلبها النابض، حيث يعلو مسجد محمد الأمين. الجامع الأحبُّ إلى قلب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان قَدَره أن يُدفَن إلى جواره، بعدما أمضى الأشهر الأخيرة من حياته في مواكبة بنائه بأدق تفاصيله، ليكون قِبلَة مساجد بيروت وأفخمها.
عندما تعلو تلك المآذن مُنادية للصلاة، لا تحسد الحريري على ثروته، بل على موته. تتمنّى لو كنت المقيم هناك. يهتف قلبك من خشوعه «يا لجمال الموت الإسلاميّ.. يا لتلك الطمأنينة، أن تحجز لك مكاناً أبدياً جوار مسجد، مدَّعياً الاستغراق في النوم.. فـ «الموت بين الأهل نعاس».