لو وجهّنا هذا السؤال إلى أي مواطن سوري مُلِّم بالشأن العام، أو حتى لمواطن عادي، لكانت إجابته، وبشكل سريع وقاطع، بنعم.تُرى لو كان السؤال بالشكل التالي: ما هي معالم وعوارض أزمة الإدارة في سوريا؟، هنا، على الأغلب سوف تكون الإجابات عديدة ومتنوعة، وقد تكون مختلفة ومتضاربة. ويمكن أن نستنتج ذلك بسؤال آخر هو: كيف نعالج أزمة الإدارة في سوريا؟. يبدو هنا مكمن الصعوبة في تحضير وصفة جاهزة لحل إشكالية أزمة الإدارة في سوريا. إن كل متابع للشأن العام، يرى بوضوح أن هناك أزمة إدارة في جميع مفاصل الدولة ولأسباب مختلفة، نعرض لبعضها لاحقاً. فلو قُيِّض لك أن تدخل إلى مكتب وزير أو مدير عام، ومن في حكمهم، وحتى لمكتب مدير إدارة متوسطة، سوف ترى أكواماً من الورق، وأكداساً من البريد الصادر والوارد، ينوء بحمله أي إنسان أو "عتِّال"، وتندهش حينما تعلم أن سيادته يوقع أكداساً أخرى في الدوام المسائي، فانظر بعينيك إلى سيادته كم يعاني من ضغوط العمل؟. وماذا عن المكالمات الهاتفية؟، بكافة أنواعها، الأرضي منها والجوال، التي تقطع حديثك معه أكثر من مرّة، وتراه يشتكي من هذا الوضع، ولكن لا يعلم سيادته أن هذا دليل فشله في الإدارة، أو فشل النظام الإداري المُتبع،الذي هو جزءً منه، والذي على الأغلب قد ورثه من سلفه. ولكن للقوانين الأنظمة النافذة دوراً لا بأس في تكريس هذه الأساليب الإدارية المتخلفة.
وهناك مثال آخر، فعندما تُطرح مشكلة أو قضية ما في الإعلام، وخاصة الإعلام الإلكتروني، ترى أن الكثير من المواطنين يطلبون أن يتدخل الوزير مباشرة لحل مشاكل صغيرة وبسيطة، لا بل عادية جداً، يمكن للمدير المحلي أو من في حكمه، وعلى الأكثر المدير المركزي في الوزارة أن يتصدى لحلها، لا بل من واجبهم ومهامهم أيضاً. وترى السيد الوزير ينشغل بهذه القضايا الصغيرة، وبعض السادة الوزراء يخصص جزءً من وقته للرّد والتفاعل مع هذه المشاكل مباشرة عبر المواقع الإلكترونية، كما حدث لعدة مرات من قبل وزير الاتصالات والتقنية الأسبق، الذي قد يكون الوزير الوحيد الذي تعاطى مع المواطنين العاديين عبر المواقع الإلكترونية(هذه المقالة كتبت قبل أن يتم تغيير وزير الاتصالات السابق). ولكن السؤال الذي كان يتبادر إلى ذهني في كل مرّة أقرأ رداً للسيد الوزير: هل يأتي الوزير، أي وزير، إلى الوزارة ليقوم بالردّ على استفسارات بسيطة، وحلّ هذه المشاكل الصغيرة؟، التي هي من واجب الموظفين الآخرين في وزارته. وهنا يوجد احتمالان فقط: إما أن الموظف لا يقوم بدوره،أي هناك خللاً في الرقابة الداخلية للوزير نفسه(أي وزير) داخل وزارته، أو أن هذا الموظف، المعني بالمشكلة، غير مفوض بالصلاحيات اللازمة، وهنا تكمن المشكلة الأكبر، وهنا تقع المسؤولية على المدير الأعلى في السلُّم الوظيفي. إذ من المفروض أن يتفرغ الوزير، والمدير العام، ورئيس الجامعة...الخ، أي شاغلي الإدارات العليا، إلى وضع الاستراتيجيات والخطط ومتابعتها، وأن لا يبدد وقته"الثمين" والمحدود للقضايا والمسائل الصغيرة، والردّ على الاتصالات الهاتفية.
وأيضاً لدينا مثال من نوع آخر. فعندما تكون المشكلة كبيرة، وعلى مستوى البلد، يطلب المواطنين تدخل الرئيس شخصياً لحل هذه المسألة أو المشكلة. وكُلنا يذكر كيف تدخل المرحوم الرئيس حافظ الأسد في الثمانيات لحل مسألة وأزمة الكهرباء بعد استفحالها. وتكررت القضية نفسها في أزمة الكهرباء الأخيرة، في الصيف الماضي، إذ رأينا مطالبات كثيرة من المواطنين ليتدخل السيد الرئيس شخصياً لحل هذه الأزمة، وتدخل السيد الرئيس أيضاً وانفرجت الأزمة!. إن تدخل الرئيس، أو مؤسسة الرئاسة لحل مشاكل الناس شيء حسن، ومطلوب أيضاً، ولكن فقط عندما تعجز الإدارات الدنيا عن إيجاد الحل. ولكن السؤال أين دور المؤسسات الأخرى، أين دور الوزير المختص، والمدراء العاميّن المعنيين؟.
لو قام كل مسؤول وأحصى كم من الوقت الذي صرفه ويصرفه يومياً لتوقيع البريد الروتيني اليومي، وحل المشاكل اليومية البسيطة في إدارته، ومن ثم يقارنه مع تلك الوقت الذي خصصه لمناقشة الخطط والاستراتيجيات ومتابعتها على مستوى الوزارة، لوجد العجائب. للأسف أن الكثير من المسؤولين لدينا ليسوا أكثر من مُصرِّفي أعمال، أو "باشكاتب"، يقتصر دورهم على تصريف الأعمال، وليسوا أكثر من محطة يتوقف فيها قطار البريد الرسمي في هذه الإدارة أو تلك.
هذا الأسلوب في الإدارة لا يمكن أن يعطي خططاً ناجحة، ولا نتائج فاعلة، ولا حلاً لمشاكل قائمة. أي أنها إدارة غير منتجة. فهي ليست أكثر من تصريف يومي للأعمال. ولكن المشكلة الأساسية، في رأيّ المتواضع، هو الأسلوب المُتَبع لتعيين المدراء والمسؤولين في وظائفهم، ومن ثم آلية المراقبة والتقييم والترفيّع، التي لا تستند إلى أيّة منهجية علمية، أو موضوعية، وإنما تقوم على العلاقات الشخصية، والجانبية، والعائلية، والمناطقية، والمحسوبية.....بالمختصر إننا نعاني من أزمة مدير كفؤ. إذ يجب على كل مدير أو وزير يُعين في إدارة ما، أو يُراد تعيينه، أن يقدم خطة رئيسية master plan ، أو تصوراً لتطوير إدارته أو وزارته، وهذه الخطة يُسئل عن ما تحقق منها بشكل دوري، وأن يُقيّم على هذا الأساس.
شيء آخر هام، ألا وهو القوانين والأنظمة النافذة. فهذه القوانين هي المعطل الأول للإبداع الإداري، ولا تُحفّز إطلاقاً على العطاء والإبداع، وإنما تكرّس الروتين القاتل، والجميع يتلطى خلفها مبرراً فشل إدارته. والخطوة الأولى تبدأ بتطوير هذه القوانين التي تعيق عملية التطوير الإداري. ولابد من التخفيف من المركزية وتوزيع الصلاحيات على المساعدين والمدراء الفرعيين، مما يخفف من حجم البريد الوارد إلى الإدارات العليا، الذي يستهلك معظم وقت المسؤولين لدينا، ومن شأن كذلك أيضا أن يقلل من الفساد والترهل الإداريين. فالترهل الإداري أحد مظاهر الفشل الإداري. كما أن ضعف تأهيل المديرين والمسؤولين إداريا هو الذي يعزز الروتين في مؤسساتنا وإداراتنا ،إذ أن معظمهم،للأسف الشديد، يعتبر أن الإدارة هي خبرة فقط، وثق الإدارة العليا به. عدا عن ذلك العيد منهم يرى في الإدارة المزيد من الصلاحيات والتحكم برقاب الناس والعباد. إن هدف الإدارة هي تسهيّل وتيسيّر أمور الناس وليست سلطة تفوق، وتسلّط.