أصبحت المعرفة في القرن الحادي والعشرين هي الأساس في التنمية الإنسانية بما تخلقه من توسيع لخيارات الناس وتنمية لقدراتهم وتمكينهم من بناء حياة إنسانية أفضل ومكافحة الفقر والحرمان. وهو ما أخذت تعززه تقارير التنمية البشرية الدولية منذ مطلع التسعينات وتبنته الدول العربية في تقريري التنمية الإنسانية لعامي 2002 و2003م.

ففي تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني 2003، نحو إقامة مجتمع المعرفة، تم تبنى مفهوماً شاملاً للمعرفة ليعني جملة الأفكار والرؤى وطرق التفكير والأنماط السلوكية المكتسبة عبر أشكال التعلم الرسمية وغير الرسمية وكذا أشكال التثقيف الذاتي والخبرة العملية والحياتية.

ومثل هذا التحديد الواسع لأشكال ومضامين العملية المعرفية يفسح مجالاً واسعاً لدور كل من الأعلام والثقافة في عملية البناء المعرفي والتنمية الإنسانية في المجتمع.

ويعني تأسيس مجتمع المعرفة، بحسب ما جاء في التقرير العربي الثاني العمل على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي والاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة والحياة الخاصة، وصولاً إلى ترقية الحالة الإنسانية في المجتمعات العربية.

وقد حصل تحول نوعي في طبيعة العمل في مجتمع المعرفة والمعلوماتية من توظيف الأدوات البسيطة إلى توظيف الرموز والإشارات والبيانات المعقدة. ومن توظيف العضلات إلى توظيف العقل وإنتاج تطبيقات وبرامج عالية الدقة كثيفة العلم ومرتفعة القيمة.

وأصبح الاستثمار يتركز أكثر في البحث والتطوير وتكوين الكفاءات الدقيقة والبنى الأساسية لذلك وتحتاج كل من وسائل الإعلام والثقافة لكي تؤدي وظائفها التوصيلية والتأصيلية للمعارف الجديدة القادمة من الخارج وتأطيرها وتجذيرها في المجتمع ليس كسلع فقط وإنما كمنظومة قيم وتكوينات معرفية وثقافية يمكن أن تتحول مع الزمن إلى مرتكزات راسخة لإنتاج المعرفة، وإلى تنمية وسائطها المقروءة والمسموعة والمرئية وإدخال تقنيات الاتصال والمعلوماتية عليها، من أجهزة الكمبيوتر والإنترنت والأجهزة السمعية والبصرية والتي تمكنها من أداء أدوارها على نحو فاعل ومؤثر تتناسب مع حركة التغير التكنولوجي التي طرأت على القطاعات المجتمعية الأخرى.

ويمكن لقطاع الثقافة أن يستثمر التقنيات الحديثة للاتصال والبث الفضائي والإنترنت والمعلوماتية في تطوير الإنتاج المعرفي في مختلف قنواته الثقافية كالإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات والكتب والمسارح والمتاحف وفي إعادة إنتاج وتوظيف التراث أو الفنون الشعبية بما يسهم في الارتقاء بالوعي وخلق عائد اقتصادي.

ولا شك أن تطوير تقنيات الأداء الإعلامي والثقافي في الشكل والمضمون سوف يسهم في تفعيل دورهما في تشكيل النظام الاجتماعي وتوجيهه ومحاولة الرفع من المستوى الفكري والجمالي والذوقي لأفراد المجتمع، فضلاً عن المساهمة في صياغة الهوية الحضارية للمجتمع، وحفز الوعي والإبداع والإنجاز وتحقيق أهداف التنمية الإنسانية.

نظرة في تطور الإعلام والثقافة في المجتمع اليمني:
لا يمكن عزل الواقع الإعلامي والثقافي الراهن بمؤشراته السلبية والإيجابية عن مراحل تطوره السابقة وبخاصة في عقد التسعينات الذي ترافق مع توحد اليمن السياسي عام 1990، وحتى صورة المشهد الحاضر اليوم.

يمكن تمييز ثلاثة مراحل أساسية لتطور الإعلام والثقافة في المجتمع اليمني:
- المرحلة الأولى (1926 ـ 1963) لنشأة وسائل الإعلام بالمعنى الحديث، بدأت مع ظهور جريدة الإيمان بمدينة صنعاء عام (1926 ، ثم تبعتها صحف أخرى في عدن، وحتى ظهور إذاعتي صنعاء وعدن في الأربعينات.
- المرحلة الثانية (1963 ـ 1990)، أخذ بتكامل دور الإعلام نسبياً بظهور التلفزيون في عدن ثم في صنعاء في عقد الستينات، وهو العقد الذي بدأ يشهد نشوء التعليم المدرسي الحديث على نحو أكبر ثم تطوره أكثر في عقد التسعينات وهو العقد الذي ظهر فيه دور الثقافة وبخاصة في المنابر والمجلات الثقافية.
- وخلال عقد الثمانينات تطورت على نحو أكبر نسبياً مجالات العملية المعرفية الثلاث بقطاعاتها المؤسسية : الإعلام والتعليم والثقافة.
- المرحلة الثالثة (1990 ـ 2004)، تبلورت مع توحد اليمن السياسي عام (1990)، بشكل واضح دوائر العمل المعرفي الإعلامية والتعليمية والثقافية، كمؤسسات قائمة بذاتها لها سياساتها ومؤسساتها وأدوارها المعرفية.


الواقع الإعلامي والثقافي وسياقه المجتمعي:
لنلقي نظرة على المشهد الإعلامي والثقافي خلال هذه المرحلة والتي ما زالت تحكم الواقع الإعلامي والثقافي حتى الوقت الحاضر، ولنرى كيف تحرك هذا المشهد في سياقاته السياسية والمجتمعية والتنظيمية.

شهد المجتمع اليمني خلال عقد التسعينات اتساعاً في حركة العملية المعرفية بأشكالها الإعلامية والثقافية بموازاة التحول الديمقراطي اليمني واقترانه بالتعددية السياسية والحزبية وإطلاق الحريات السياسية والاجتماعية وهو ما وّلد مساحة حركة واسعة للتفاعل المجتمعي والحوار والحراك الثقافي، فظهرت العديد من الصحف والمجلات والمنابر والمؤسسات الثقافية والفكرية التي حركت النشاط الثقافي في المجتمع.

وكأي نشاط ثقافي وليد أخذ مساحة من الحرية في التفكير والتعبير والإبداع، وفي مجتمع كان يخضع لأنظمة تسلطية في الشمال والجنوب، فقد أتسم الخطاب الإعلامي والثقافي بالحماسة وغلبه الصبغة السياسية والأيدلوجية على المضامين الثقافية.

وأدى اختلاط الأعلام والثقافة بالسياسة إلى ضمور فكرة التنمية الثقافية مقابل علو النبرة الإعلامية وبروز ظاهرة السجال السياسي على مستوى مؤسسات السلطة وأحزاب المعارضة. كما طفت إلى السطح المرجعيات التقليدية الكامنة بتقاطعاتها السلوكية، بعد أن تحررت من الكبت الواقع عليها من قبل، وعكست نفسها على الخطاب والممارسة الثقافية، مما أضر بعملية التأسيس الثقافي واخضعه لشروط الصراع السياسي والحزبي.

ومع ذلك كان ثمة تيار واع بأهمية الثقافة كمشروع حضاري يحتاجه اليمن الجديد الموحد، فكان الإقرار المبكر للخطة الشاملة للثقافة اليمنية عام (1990) وكذا إدماج وإعادة تنظيم العديد من المؤسسات والأجهزة والأدوات الثقافية، التي لم تسلم من ظروف وشروط الصراع السياسي الذي صاحب السنوات الأولى للوحدة اليمنية.

وقد أثر الصدام العسكري عام (1994) الذي كشف ما كان كافياً من تداخلات مرجعية وتقاطعات في تكوين الشخصية اليمنية حجبتها احتفالية الإنجاز السياسي بالوحدة اليمنية، وبانتهاء الأزمة وسيطرة طرف على آخر، وما تركه ذلك من آثار سلبية على مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، انعكست على نحو سلبي على الجانب الإعلامي والثقافي.

فقد تراخت مؤسسات الدولة والتي كانت هشة أصلاً، وبرزت التوجهات العصبوية والمحلية وتهميش دور المثقفين وظهرت بوادر أسلوب شمولي في إدارة العملية المعرفية في المجالين الإعلامي والثقافي متساوقاً مع التدهور المعيشي للسكان وتدهور الوضع الاقتصادي وانحباس الوضع السياسي والديمقراطي والذي استدعى من الحكومة تبنى برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 1995، لتجاوز الأزمة الاقتصادية.

وقد أنسحب أثر تلك الظروف السياسية والاقتصادية على المجال الثقافي، فتم تعديل السياسات والاستراتيجيات الثقافية التي كانت مضمنة في الخطة الشاملة للثقافة اليمنية، والتي كانت حصيلة نوع من التسوية السياسية في المجال الثقافي، أكثر من كونها حالة تعبير عن قناعات سياسية من قبل النخب الحاكمة بأهمية الثقافة في توجيه حركة المجتمع و نهضته .

وقدر برز النشاط الثقافي لبعض المؤسسات الثقافية التي اسهمت في دعم الأنشطة الثقافية والفكرية والإبداعية خلال عقد التسعينات لعل أبرزها في المجال الأهلي مؤسسة العفيف الثقافية ومؤسسة السعيد للثقافة والعلوم. وعلى مستوى الخطاب الثقافي الرسمي والحزبي والأهلي ظهرت توجهات متصارعة تفاوتت بين الميل إلى تأييد الإنفتاح الفكري وإطلاق حرية الرأي والتفكير والإبداع في الفكر والثقافة والمجتمع وبين الميل إلى تقييدها.

وقد أخذ هذا الخطاب مظاهر صراعية متعددة بدأت بالصراع على الدستور في بدايات التسعينات وخوض بعض المعارك الفكرية المتعلقة بقضايا حرية الرأي والتعبير والتفكير والإبداع ووصلت إلى حد إطلاق "وصمة التكفير" على بعض الكتاب الذين لامسوا بعض القضايا الفكرية والدينية، في جريدة الثقافية، ومصادرة ومنع رواية" قوارب جبلية" للكاتب وجدي الأهدل.

وبالنظر إلى المشهد الإعلامي والثقافي في المجتمع اليمني في بدايات القرن الحادي والعشرين، نجد أن الجانب الإعلامي وهو الجانب الذي ازدادت أهميته مع ثورة الاتصالات والمعلوماتية، قد جرى تحفيزه على المستوى الرسمي بفصله عن الثقافة في وزارة مستقلة بذاتها فحافظة على استمراريتها واستأثرت بمعظم إمكانات الوزارة السابقة من تجهيزات مادية وبشرية واعتمادات مالية بسبب ارتباط الإعلام بالنخبة السياسية الحاكمة.

وصدر القانون رقم (25) لسنة (1990) بشأن الصحافة والمطبوعات ولائحته التنفيذية الذي نظم عملية إصدار الصحف والمجلات، وحقوق وواجبات العمل في المجال الصحي، وتم توحيد وإعادة تنظيم المؤسسات الصحفية والإعلامية ووكالات الإنباء ،وفي المجال الثقافي استقلت وزارة الثقافة عن الإعلام وتحملت عبء الولادة المتجددة لوزارة مستقلة بالثقافة ، إلا أن وزارة الثقافة وبعد أكثر من عقد من ولادتها لم تستطع أن تؤسس أدنى المتطلبات المؤسسية للعمل الثقافي، وتعرضت للتدهور في أنشطتها الثقافية والفكرية سواءً من حيث إصدار المجلات والدوريات أو الكتب أو النشاط المسرحي والموسيقي والغنائي وسائر الفنون الإبداعية الأخرى.

وعلى المستوى المجتمعي، شهد عقد التسعينات مزيداً من تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للسكان، وبخاصة في أوساط الفئات الأقل دخلاً والفئات الفقيرة، بسبب تأثير عدد من الأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية التي بدأت بحالة الصراع وعدم الاستقرار التي حكمت سنوات الوحدة الأولى والفترة الانتقالية ، وكذا أزمة الخليج عام (1990) وما صحبها من عودة المهاجرين اليمنيين في دول الخليج ، ثم الصدام العسكري عام (1994) الذي ضاعف من مشكلات اليمن الاقتصادية إلى حد تبلور أزمة اقتصادية استدعت إتخاذ إجراءات الإصلاح الاقتصادي عام(1995).

كل ذلك ترك آثاراً سلبية على الوضع المعيشي والاجتماعي للسكان وبخاصة في أوساط الفئات الأقل دخلاً والفئات الفقيرة .وهو ما أثر على قدرة الدولة على تأسيس ودعم مرتكزات العمل الثقافي ودعم الأنشطة الثقافية والفكرية والإبداعية، وتعزيز الجاهزية الثقافية للسكان.

وعلى الرغم من الإجراءات الحكومية الداعمة للفئات الأكثر فقراً واحتياجاً للإعانة والخدمات الاجتماعية من خلال شبكة الأمان الاجتماعي (1996) وإستراتيجية مكافحة الفقر (2002) وإقرار صنعاء عاصمة للثقافة العربية عام 2004م. وغيرها من الإستراتيجيات والخطط التنموية التي سعت وتسعى إلى محاولة الرفع من القدرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للسكان، إلا أن ذلك لم يسهم إلا بقدر ضئيل في الحد من تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للسكان مع استمرار معدل النمو السكاني وعدم الحد من ظاهرة الفساد وإهدار الموارد.

وعلى الجانب الاجتماعي فان المتأمل في التحولات التي شهدها المجتمع اليمن خلال الأربعة عشرة سنة الماضية سيدرك أن هناك خلل ليس في السياسات والاستراتيجية المتبعة وإنما في طريقة أدائها وفي أسلوب توظيفها لخدمة المصلحة العامة، فقد استفادت بعض الشرائح الاجتماعية من التغيرات بحسب موقعها من السلطة والقوة والثروة في الدولة والمجتمع وهو ما انعكس بالسلب على أوضاع الأسرة اليمنية وهي مركز التأثير الفعلي ومصدر التغير في الواقع المجتمعي إذ لم تؤدي تلك التغيرات الى إحلال وإبدال في القيم الاجتماعية التقليدية وإنما ظلت في الشكل دون المضمون مما أفرز تداخلاً بين التوجهات القديمة والجديدة وقلقاً في تحديد أدوار كل منها في الواقع الأسري. وهو ما يعكس جانباً من ضعف الدور الإعلامي والثقافي لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني في الواقع الأسري ، وكذا ضعف إمكانية الأسرة في التأثير الإيجابي في الواقع الأعلامي والثقافي .

ولقد فرز عقد التسعينات وما صاحبه من إصلاح اقتصادي إلى تغير في ملامح التطور الاجتماعي والاقتصادي في الأسرة اليمنية والذي أدى إلى ثلاث نتائج سلبية هي أولاً تردي أوضاع عدد كبير من الأسر اليمنية ووقوعها في الفقر ، وثانياً هو تدهور أوضاع الأسرة المتوسطة وهي الأسرة الأكثر اهتماما بالشأن الثقافي، وثالثاً هو استفادة قطاع محدود من الأسر اليمنية وظهورها كطبقة مترفة (حديثي النعمة) نتيجة لحالة الفساد السياسي والإداري وانتشار قيم جديدة يقوم على الميل إلى المباهاة والسفة في الإنفاق والتعالي على الأخرين واستخدام العنف، وتتبع أشكال الموضة في الملبس والزينة ، وهي قيم نتجت عن تحسن دخل هذه الفئات من أعمال غير منتجة .

وقد انعكست هذه القيم المستجدة وإنماطها السلوكية التفاخرية والاستهلاكية بالسلب على القيم الاجتماعية الأصيلة وأصبحت نموذجاً يتطلع إليها من قبل الفئات الأخرى.

ولا شك أن التحول الذي طرأ على أسرار الطبقة المتوسطة بما تحمله من قيم إيجابية تحت على العلم والثقافة والعمل والإبداع والإنجاز والبحث عن صيغ المواطنة، وهي القيم التي تسهم في تحقيق التوازن الاجتماعي وحفظه وتعميق إنسانيته مقابل شيوع قيم السلبية والتواكلية والكسب السريع والتملك والتي لا تخدم قضايا التنمية الثقافية والتحديث الاجتماعي .

ولم يقف اثر الوضع الاقتصادي على الجانب الإعلامي والثقافي ، بل اشتد تأثيره على السلوك الاجتماعي للأفراد والمجاعات ، فاستمرت ظاهرة التداخل المرجعي والتعاطعات السلوكية نتيجة عدم قدرة السلطة ونظامها السياسي على نشر مرجعيتها وبلورة أنموذجها المؤسسي في إدارة أمور المجتمع ، ولجؤها لتغطية هذا الخلل من خلال مصادرة أدوار المثقفين والحلول محلهم في تنمية السلوك المؤسسي وبلورة مجتمع المواطنة ، وكل ذلك اثر على أداء العملية الإعلامية والثقافية .

فإذا كانت السلطة قد استطاعت توظيف الدين والنخبة المثقفين في الصراعات السياسية واستوعبت القبيلة وسائر التكوينات الاجتماعية التقليدية الأخرى ، فإنها لم تستطع دمجها اقتصاديا واجتماعيا ، وإعلاميا وثقافيا ، أي رفع قدراتها في هذا المجالات وبخاصة في المجالين الإعلامي والثقافي.

وهكذا تبدو العلمية المعرفية في المجالين الإعلامي والثقافي ، في سياقها المجتمعي والسياسي والتنظيمي فاقدة لمرتكزاتها المؤسسية الفاعلة ، وفاقدة أيضا للجاهزية الثقافية للسكان من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ،وأيضا فاقدة أيضا للجاهزية المادية والعلمية والتقنية للتعامل مع المهام المطلوبة لإنجاز أهداف التنمية الإنسانية والمعرفية وهو ما يظهر في تدني المؤشرات الواقع الإعلامي والثقافي.

مؤشرات الواقع الإعلامي والثقافي:
جرى الحديث في التقرير العربي الثاني للتنمية الإنسانية 2003، عن إقامة مجتمع المعرفة، من خلال نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها في جميع مجالات النشاط المجتمعي الاقتصادية والسياسية والحياة العائلية والمجتمعية من أجل ترقية حالة الإنسان العربي.

والحال أن المجتمع اليمني يحتاج إلى أن يتفاعل ويسهم بفاعلية في عملية التأسيس هذه لمجتمع المعرفة وتهيئته والظروف المساعدة على التحول إلى الاقتصاد المبني على المعرفة المعلوماتية واستخدام الشبكات الإلكترونية الرقمية المعقدة .

ولكن السؤال أي تأسيس ؟ وتحت أية شروط ؟ وكيف ؟

فالمجتمع اليمني يعاني من ضعف بنيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالقياس إلى التحديات التي يطرحها عليه مجتمع المعرفة، وهو ما نحتاج إلى الانتباه إليه . فنحن بازاء عبء مضاعف على جهود التنمية الإنسانية في المجتمع اليمني، ففي الوقت الذي نحتاج فيه إلى تنمية الجوانب الإعلامية والثقافية وإدخال تقنيات الاتصال والأعلام والإنترنت والمعلوماتية، والدخول على عالم الصناعة الإعلامية والثقافية . فنحن نحتاج أيضاً إلى النهوض بقطاع الخدمات الصحية والتغذوية والتعليمية وخدمات البنية التحتية، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية وتطوير إجراءات الشفافية والمحاسبة في نظام الحكم والإدارة المؤسسية وتوسيع قاعدة مشاركة المرأة ومكافحة أشكال التمييز ضد المرأة والطفل، والحد من ظاهرة الفقر والحرمان في أوساط الفئات الفقيرة والمهمشة.

ومن أجل إنجاز تنمية إعلامية وثقافية معرفية في ظل هذه الشروط المجتمعية والمعرفية المتدنية فنحن نحتاج إلى توجه مزدوج يجمع بين العمل على نشر المعرفة وإعادة بناءها من أجل تحسين الخصائص التعليمية والثقافية والاقتصادية للسكان من أجل تمكينهم من الاستفادة من وسائل اكتساب المعرفة من كتب ودوريات ومكتبات وتقنيات الاتصال والمعلوماتية. كما نحتاج إلى الاهتمام بتطوير قدرات المجتمع على امتلاك المعرفة والإضافة إليها من خلال الاهتمام بإعداد الموارد البشرية عالية التأهيل والكفاءة والخبرة القادرة على الإنتاج التطوير العلمي والثقافي في مؤسسات التعليم العالي، ومراكز الأبحاث المتخصصة في الجامعات والمؤسسات الثقافية والفكرية.

وفي هذا الإطار يمكن للتوجهات التنموية في المجال الإعلامي والثقافي أن تتجه نحو تطوير ثلاث جوانب رئيسية هي صياغة سياسات إعلامية وثقافية شاملة ومتجددة ومتلائمة مع روح العصر، وتأسيس مرتكزات العمل الإعلامي والثقافي من مؤسسات ومراكز وهيئات تترجم تلك السياسات إلى برامج عمل، وأخيراً تطوير أدوار الشخصية اليمنية في المجال الإعلامي والثقافي، مع إعطاء أهمية لتحريك السباق المجتمعي كحامل ودافع لعملية التنمية المعرفية ووسيلة وهدفاً للتنمية الإنسانية.

السياسات الإعلامية والثقافية:
تحتاج اليمن إلى إعادة النظر في السياسات الإعلامية والثقافية المجتزأة التي تعتمد على التصورات الآنية وتصاغ من قبل أفراد أو جهات تفتقر إلى الخبرة والدراية الكافية بطبيعة التغيرات التي طرحت على المعرفة والثقافة وتقنيات الاتصال والإعلام المعولمة ، وذلك بطرح مثل تلك السياسات الإعلامية والثقافية للنقاش من قبل مختلف الأطراف والتيارات الفكرية والسياسية وبلورتها من قبل خبراء ومن تخصصات متعددة مع ربطها بواقع التنمية الإنسانية في المجتمع اليمني ورصد الموارد المالية الكافية لتحقيق الأهداف الثقافية.

وهنا يمكن الاستفادة أو تطوير بعض الجوانب التي وردت في الخطة الشاملة للثقافة اليمنية (1995) والخطة الشاملة للثقافة العربية ، وكذا الاستفادة من تقارير التنمية الإنسانية العربية وبخاصة التقرير الثاني 2003م.

وما تجاه وزارة التخطيط والتعاون الدولي إلى الأعداد للتقرير الثالث عن المعرفة والتعليم والثقافة إلا خطوة متقدمة في هذا الطريق، لبناء تصور متكامل عن المعرفة والتعليم والثقافة، وبناء قاعدة معلوماتية عنها ، وتحديد الأهداف والسياسات والإجراءات المناسبة في هذا المجال وتحويلها إلى برامج عمل قادرة على النهوض بالواقع الإعلامي والثقافي اليمني.

مرتكزات العمل الإعلامي والثقافي:
ونعني بها تأسيس البنية التحتية الإعلامية والاتصالية والثقافية ، أو ما يسمى بمنظومة اكتساب المعرفة ونشرها في مختلف مناطق اليمن في الريف والحضر، والتي تشمل مؤسسات الإذاعة والتلفزيون والصحافة والمراكز العامة وقاعات المسارح ودور السينما والأندية الرياضية والمتاحف والمطابع ودور النشر وغيرها من المؤسسات والأدوات والوسائل الثقافية التي تمكن من نشر الثقافة والتأسيس لعملية إنتاجها وتوظيفها.

الخدمات الاتصالية والإعلامية المتاحة للسكان:
يتسم المجتمع اليمني بتدني الخدمات الاتصالية والإعلامية التقليدية المتاحة للسكان، فهناك انخفاض في نسبة وسائط الإعلام من صحف وأجهزة الراديو والتلفزيون والفيديو والستلايت والهاتف لكل ألف نسمة من السكان. مقارنة بالمتوسط السائد في البلدان العربية وفي المتوسط العالمي للدول متوسطة الدخل.

في مجال الصحافة، وبحسب إحصاءات عام 1999م، هناك حوالي (7) صحف لكل ألف نسمة من السكان مقارنة بـ(53) في البلدان العربية و(285) في الدول المتقدمة. بسبب انتشار الأمية ، وانخفاض معدلات القراءة والكتابة، وارتفاع تكلفة أسعار الصحف مقارنة مع تدني الدخل.

وهذه الخصائص الكمية في الخدمات الصحفية المتاحة للسكان تقابلها خصائص نوعية أهمها، اقتصار توزيع هذه الصحف والمجلات في معظمها على المراكز الحضرية في بعض المدن الرئيسية وهناك كم كبير من المرجوع منها، فضلاً عن أن قطاع محدود من السكان هو الذي يهتم أو يستفيد من خدماتها أو لا يستطيع شراءها بسبب الافتقار إلى القدرة الشرائية وهو ما يعس محدودية التأثير الذي يمكن أن تمارسه في تحريك وعي المجتمع وتنميته وخلق ظاهرة الرأي العام.

أما الراديو فهناك أقل من (95) جهاز راديو لكل ألف من السكان مقارنة بـ(200) جهاز راديو لكل ألف من السكان في البلدان العربية و (1280) في الدول مرتفعة الدخل .

التلفزيون، هناك أقل من (61) جهاز تلفزيون لكل ألف من السكان، مقارنة بـ(67) في سورية و (189) في مصر، و(198) في تونس و(563) في (عُمان) و(641) في الدول مرتفعة الدخل.

خطوط الهاتف، هناك أقل من (11) خطاً لكل ألف من السكان مقارنة بـ(109) خطاً لكل ألف نسمة في البلدان العربية، و(561) خطاً في الدول المتقدمة.

القنوات الفضائية، هناك قناة فضائية يمنية واحدة، بالمقارنة مع (120) قناة فضائية تتوزع على إحدى وعشرين دولة بمتوسط (6) قنوات لكل بلد عربي.

أما فيما يتعلق بوسائط الإعلام الجديد المرتبطة بثورة المعلومات ، والمتمثلة بتقانة المعلومات وشبكات الكمبيوتر وبرمجيات الحاسوب والشبكات ومزودات قواعد البيانات ومحطات الاتصال ، فما زال انتشارها محدوداً في المجتمع اليمني، نظراً لشيوع الأمية الأبجدية والرقمية (القدرة على التعامل مع تقنيات المعلومات وشبكات البرمجيات والحاسوب) بصورة شبه شاملة ليس فقط في أوساط الناس العاديين وإنما تشمل الكوادر البسيطة والعليا في المراكز والجامعات ومؤسسات البحث العلمي والثقافي، وليس هناك مجال للمقارنة، في هذا الجانب مع باقي الدول العربية ، على الرغم من السعي إلى نشر ثقافة الحاسوب والانترنت في المؤسسات الحكومية والمدارس والمؤسسات البحثية والتي مازالت حتى الآن مجرد خطط وبرامج نظرية،وما تحقق منها محدود جداً.

أما الإنترنت فقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في البلدان العربية في عام 2001 (4.2) مليون شخص يشكلون نسبة (1.6%) من سكان الوطن العربي. وهو ما يعكس محدودية انتشار الإنترنت بسبب ضعف مستوى المعرفة بالحاسوب والإنترنت وارتفاع أسعار الخطوط المستخدمة، وارتفاع تكاليف رسوم الاشتراك.

وعلى الرغم من الحرية النسبية للنشاط الإعلامي في المجتمع اليمني فإن وسائط الإعلام مازالت تفتقر إلى الكثير من العوامل المساعدة لعملها، مثل صعوبة الحصول على بعض المعلومات وكذا الإطلاع على الوثائق والبيانات، وحضر الإطلاع على بعض القضايا المتعلقة بالنشاط الحكومي، وعدم وجود مصادر مستقلة للمعلومات، والافتقار إلى مراكز المعلومات القادرة على تقديم معلومات مفصلة عن مختلف الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية القائمة في المجتمع .

كما أن عدم استقلاليتها عن الجهاز الرسمي للدولة، أو افتقارها للإمكانات الكافية للعمل ، يقلل من قدرتها على التغطية الجيدة للأحداث، فيما يميل الإعلام الرسمي إلى تأكيد الخطاب الرسمي للسلطة ، وتمجيد أعمالها، والتركيز على أنشطتها بشكل دعائي مع حجب أية حقائق تمس أجهزة السلطة .

وما يزال العاملين في المجال الإعلامي يعانون من قيود الرقابة والمنع والتعرض للاعتداء الجسدي نتيجة تغطيتهم لبعض القضايا المتعلقة بالأداء السلطة وقضايا الفساد والانحراف السياسي.

المؤسسات الثقافية:
أما فيما يتعلق بالمؤسسات الثقافية من مراكز ثقافية ومكتبات عامة وقاعات ومسارح ودور سينما ومتاحف وأندية ومطابع ودور نشر والترجمة والبحث العلمي والثقافي والفكري والفني ، فالمؤشرات متدنية على الرغم من السعي والخطط القائمة للتوسع في هذا المجال وبخاصة مع اعتماد صنعاء عاصمة للثقافة العربية عام 2004، ووضع خطة لتحسين البنى التحتية وتوسيع الأنشطة الإعلامية والثقافية التي بدأت خلال العامين الماضيين .

فهناك فقط (11) مركزاً ثقافياً على مستوى الجمهورية،و(6) مكتبات عامة، وصالة واحدة و(9) متاحف.


وتكشف هذه المؤشرات لمرتكزات العمل الثقافي والإعلامي عن محدودية القاعدة المؤسسية والذي يحد من فاعلية وزارتي الإعلام والثقافة في تقديم الخدمات الثقافية وتطوير الفنون والمسرح والمؤسسين والغناء والفنون التشكيلية والفنون الشعبية وتدوين الموروث الشعبي ، وكذا في إصدار المطبوعات والكتب والمجلات الثقافية والفنية والفكرية ، كما يقيدّ نشاط المؤسسات الرسمية في الأنشطة الثقافية والفكرية، ويظل مثل هذه الأنشطة موسمية أو مرتبطة بمناسبات معينة.

الأنشطة الثقافية:
يكاد ينحصر النشاط الثقافي للمؤسسات الرسمية على بعض اللقاءات والفعاليات الفنية والسياحية والمهرجانات والأسابيع الثقافية الخارجية التي عادة ما تصطبغ بالطابع الدعائي وتفتقر إلى المعايير الموضوعية من حيث تقديم صورة حقيقية للثقافة اليمنية بمختلف إبعادها ، كما تفتقر إلى التقييم بما يسهم في تطويرها وتجديد مجالات عملها.
ومازالت عملية التحفيز والتشجيع للإنتاج الفني والأدبي والفكري والثقافي محدودة وموسمية، ومقصورة على بعض المجالات الإبداعية وهو ما يقلل من اشتغال العاملين في المجال الثقافي في العمل الإبداعي.

ويمكن الإشارة هنا إلى بعض النشاط الملحوظ للهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة في إصدار المطبوعات وبخاصة في مجال القصة والشعر.

وتكاد المؤسسات الثقافية الأهلية والمدنية إن تسجل تفوقاً على النشاط الثقافي للمؤسسات الرسمية ويمكن الإشارة هنا إلى البرنامج المنظم الذي تمارسه مؤسسة العفيف الثقافية ، وكذا مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، وبعض مراكز البحوث والدراسات، مثل مركز الدراسات والبحوث والإصدار ، ومركز دراسات المستقبل والمركز الثقافي الفرنسي، علماً أن هناك أكثر من حوالي (60) مؤسسة بحثية فكرية وثقافية في الجمهورية.

وإذا جئنا إلى طبيعة الأثر الفعلي الذي تمارسه هذه المؤسسات على السكان نجد أنها محدودة وتكاد تقتصر على نخب محدودة جداً في بعض المدن الرئيسية فضلاً عن معالجتها لموضوعات لا ترتبط بمجالات التنمية الإنسانية كونها تتجه لفئات مثقفة أصلاً.
الرقابة وتقييد حرية الرأي:
مازال النشاط الثقافي والفكري والفني في مؤسسات الدولة يخضع لرقابة وتوجهات السلطة ونخبها الحاكمة، بصورة أو بأخرى ، ولا يخضع بالضرورة للشروط الموضوعية ولمنطق العلم والثقافة، ومثل هذا التوجه يجعل مفاصل العمل الثقافي مرهونة بأيدي قيادات يكون ولائها الأساسي لثقافة السلطة وليس لسلطة الثقافة ، ومثل هذا المناخ يهيئ الظروف لاحتكار السلطة لأدوات الثقافية سواء في المطبوعات أو الجمعيات أو وسائل الإعلام والاتصال وقمع الأصوات الأخرى وتهميشها.

كما يدفع هذا التوجه بعض العاملين في المجال الإعلامي والثقافي إلى مهادنة أجهزة السلطة الثقافية وصياغة خطاب إعلامي وثقافي يكرس الاستبداد ويقيد الحرية ويشيع ثقافة النفاق والزيف ويقلل من شيوع قيم الحرية والإبداع مما يشوه المشهد الثقافي ويقلل من فاعلية دوره في التغيير والتنمية الإنسانية

د. ناصر الذبحاني