أقصد بالعنوان : هل الاقتصاد الإسلامي علم أم هو مجرد نظام ؟ العلم قد يطلق ويراد به ضد الجهل، أو يراد به وصف الواقع كما هو عليه، أي ما هو كائن، بالوقائع لا بالأماني والأهواء. قال تعالى: } لا يعلمون الكتاب إلا أماني { البقرة 78، وقال أيضًا : } إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { النجم 23. وقد يراد بالظن ما هو خلاف القطع أو الجزم أو اليقين . قال تعالى : } إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين { الجاثية 32. وقال أيضًا : } وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن { النجم 28. فالعلم هنا يبدو أنه خلاف الظن. ومع ذلك فإن الظن قد يلحق بالعلم، ما عدا العقائد. وقد يأتي الظن في القرآن بمعنى العلم أو اليقين. قال تعالى : } إني ظننت أني ملاقٍ حسابيه { الحاقة 20، وقال أيضًا : } الذين يظنون أنهم ملاقو الله { البقرة 249. وقد يراد بالعلم مالا يختلف عليه اثنان، وما هو قابل للإثبات، قبولاً أو رفضًا، وذو نتائج قطعية جازمة، أصلاً، ومظنونة، تجوزًا، وذلك بواسطة العقل أو التجربة أو الواقع، أو بواسطة النقل الصحيح (الوحي) عندنا .
والعلم يتعلق بالوسائل لا بالغايات، ويقوم على العبارات الوصفية، بخلاف النظام الذي يقوم على العبارات القيمية (ما يجب أن يكون) .
عليَّ أن أشير هنا إلى أن هذا الموضوع قد تعرض إليه الأستاذ الدكتور محمد أنس الزرقا في مجلة المركز، المجلد 2، 1410هـ، وعلق عليه الأستاذ عبدالرحمن حبنكة الميداني، في المجلة نفسها، المجلد 6، 1414هـ .
وقد رفض الأستاذ الميداني التفرقة بين عبارات وصفية وعبارات قيمية، ورأى أن العبارات الوصفية هي في حقيقتها عبارات قيمية أيضًا، لكن يبدو لي أن هذا غير صحيح، والأستاذ الميداني لا يبين مستنده، ولا يحيل على المراجع، كما هو دأبه في جميع كتاباته .
وإني أتفق مع الدكتور الزرقا في بعض النقاط، وأختلف معه في نقاط أخرى، منها أنه ذكر ثلاثة مقومات للعلم، وهي : المسلمات، والأحكام القيمية، والمقولات الوصفية. ولعلي أرى إلحاق المسلمات بالمقولات الوصفية، لا سيما وأنه هو نفسه اعترف بذلك. وقسم المقولات الوصفية إلى : مقولات وصفية إسلامية، ومقولات وصفية اقتصادية، لكن المقولات الوصفية لا توصف بأنها إسلامية . وذكر من بين المقولات الوصفية الإسلامية قوله تعالى : } إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى { العلق 6-7، وقوله تعالى: } زين للناس حب الشهوات { آل عمران14، وقال : "هذه مقولة لم يتنبه إليها الاقتصاديون فيما أعلم" ، والحقيقة أن الاقتصاديين الغربيين، الرأسماليين والاشتراكيين، قد أشبعوا هذه المسائل بحثًا عندما بحثوا في الاحتكارات والشركات المتعددة الجنسيات وتوزيع الثروات والدخول والسلطات .
وقسم المقولات القيمية إلى مقولات قيمية إسلامية ومقولات قيمية اقتصادية . ولعله يعني بالأخيرة المقولات القيمية في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي … وذكر أن الاقتصاد الوضعي لم يهتم باقتصاد الإيثار، بل اهتم باقتصاد الأثرة، ولا أرى رأيه، لأن الإيثار يخرجنا من علم الاقتصاد . كما انتقد المصلحة الشخصية، واليد الخفية، والندرة . وأختلف معه، وقد بينت هذا في بحثي "إسهامات الفقهاء في الفروض الأساسية لعلم الاقتصاد" . وذكر مقولات وصفية اقتصادية، وبالطبع فإن الاقتصاد الإسلامي يقبل هذه المقولات ولا يرفضها .
وأود أن أذكر أن القرآن الكريم معظمه يقوم على العبارات القيمية : افعل و لا تفعل (الأوامر والنواهي). من ذلك قوله تعالى: }وآتوا الزكاة { البقرة110، وقوله تعالى : } لا تأكلوا الربا { آل عمران 130، وقوله : } ولا تسرفوا { الأنعام 141. و }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل { البقرة 188. وقد يكون التعبير بصيغة غير صيغة النهي، ولكنها تفيد النهي، كقوله تعالى: } وحرم الربا { البقرة 275، و }يمحق الله الربا { البقرة 276. وكذلك الحال في صيغة الأمر، فقوله تعالى: } والمؤتون الزكاة { النساء 162، أو قوله: }ويؤتون الزكاة{ المائدة 55، عبارة وصفية في الظاهر، وقيمية في الحقيقة، ولعل هذا هو الذي جعل الشيخ الميداني ينكر وجود أي عبارة وصفية .
ويجب التنبيه هنا إلى أن المقولات القيمية في الإسلام، مثل : الحث على العمل، والصبر، ومنع الإسراف، وإعداد القوة … كلها مقولات لا تتعارض مع الاقتصاد، بل على العكس فإنها تؤيده وتقويه .
لكن القرآن قد يحتوي عبارات وصفية (ولا سيما في سورة يوسف)، وإن كانت قليلة بالنسبة للعبارات القيمية الواردة فيه. من ذلك: } وكان الإنسان عجولا{ الإسراء11، } لا يسأم الإنسان من دعاء الخير، وإذا مسه الشر فيؤوس قنوط { فصلت49، } وتحبون المال حبًا جمًا { الفجر 20، } وإنه لحب الخير لشديد { العاديات 8، } إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى { العلق 6-7، }زين للناس حب الشهوات { آل عمران 14، فهذه ليست دعوة إلى حب الشهوات، إنما هي وصف لواقع. والمعارف قسمان : قسم يهتم بالواقع، وقسم يهتم بالمثال . وعلم الاقتصاد يهتم بالواقع، أي بالمقولات الوصفية، وإن كان لا يخلو من بعض المقولات القيمية .
هل الاقتصاد علم ؟ يرى بعض الاقتصاديين الغربيين أن الاقتصاد ليس علمًا، وهو يقصدون مقارنته بالعلوم الدقيقة والعلوم الطبيعية المخبرية التي تقوم على اليقين. غير أن علماء المسلمين قد ألحقوا الظن باليقين، وبهذا يمكن اعتبار المعارف الاجتماعية علومًا، ولو كانت ظنية . وإذا قلنا إن الاقتصاد ليس علمًا، فمعنى ذلك أنه لا يوجد علم اقتصاد إسلامي ولا غير إسلامي .
وكتب الشيخ محمد باقر الصدر أن الاقتصاد الإسلامي ليس علمًا، لكن لعله يقصد شيئًا آخر، وهو ما ذكره هو نفسه من أن "علم الاقتصاد الإسلامي لا يمكن أن يولد ولادة حقيقية إلا إذا تجسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع" .
والحقيقة أن علماء الاقتصاد الغربيين مختلفون في أمر الاقتصاد، فمنهم من يقول إن علم الاقتصاد محايد لا علاقة له بالقيم والأخلاق والديانات، مثل : مارشال، باريتو، روبنز، سامويلسون، فريدمان . ومنهم من يعترف بأن علم الاقتصاد تدخله القيم أو تتسرب إليه، بطريقة أو بأخرى، مثل : بنتام، بول ستريتن، ستيوارت ميل، كينز الأب، ليون فالراس، فرانسوا بيرو، موريس آليه، جاك آتالي.
فإذا اخترنا الرأي الثاني كان معنى ذلك أن هناك علم اقتصاد إسلاميًا . وليس معنى ذلك أنه يختلف كليًا مع علم الاقتصاد الوضعي، بل يمكن أن يتفق معه في المقولات الوصفية، وهي كثيرة، ويختلف معه في المقولات القيمية، وهي قليلة .
ولئن كان ثمة اختلاف في دخول القيم إلى علم الاقتصاد، إلا أنه ليس ثمة اختلاف في دخولها في النظام الاقتصادي، والسياسات الاقتصادية، والاقتصاد المعياري .
والخلاصة فإن الاقتصاد الإسلامي نظام بلا خلاف، وأختار أيضًا أنه علم، برغم الخلاف في ذلك. وإذا أردنا أن نتخذ موقفًا عمليًا، ونخرج من الخلاف والجدل، فإن بإمكاننا أن ننظر في علم الاقتصاد كما هو عند أهله، فإذا وجدنا فيه بعض المقولات المخالفة للشريعة، والدلائل العملية تشير إلى ذلك، حكمنا بأنها مقولات قيمية، وكان علينا تعديلها حسب القواعد الشرعية. وهذا مبني على تعريف سهل وعملي لعلم الاقتصاد، وهو أنه ما يفعله علماء الاقتصاد . وقد يبدو لأول وهلة أنه هروب من التعريف، ولكننا نجد هنا أنه تعريف يخرجنا من جدل، قد لا تكون له نهاية من الناحية النظرية، عند بعض الباحثين في الاقتصاد الإسلامي .
وعلى الاقتصاديين المسلمين أن يبينوا الجانب الوصفي من علم الاقتصاد، وهو القسم المشترك مع علم الاقتصاد الوضعي، وأن يبينوا الحكمة الاقتصادية للحكم الشرعي، وبإمكانهم أن يرجحوا حكمًا (رأيًا) على آخر، عند الخلاف، بمرجح اقتصادي، كما أن عليهم أن يحسنوا شرح المسائل الاقتصادية للفقهاء، لاتخاذ حكم شرعي فيها، وأن يزيلوا التجاهل أو التعتيم عن بعض الفروض والمتغيرات والإحصاءات والمشكلات التي يتم تجاهلها أو التعتيم عليها، مما يؤدي إلى وجود الكذب أو شيوعه متدثراً بدثار العلم أو البحث العلمي . كما أن على هؤلاء أيضًا أن يهتموا بمشكلات الناس اليومية وإدخالها في التحليل الاقتصادي .


د. رفيق يونس المصري
باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي