تطرح المؤسسة النقدية بالمغرب منتجات تمويلية بنكية جديدة، هناك من أسماها "صيغا تمويلية إسلامية"، وهناك من اعتبرها "منتجات بنكية جديدة"، ولتسويقها ستعتمد البنوك الحالية من خلال شبكات وكالاتها وفروعها على شبكة مخصصة لهذه المنتجات، هي في الأساس بنوك لا تنضبط بأحكام الشرع في المعاملات المالية.
فما هي هذه المنتجات البديلة التي تتطلع إليها شرائح كثيرة من المجتمع المغربي ومعها مستثمرون عرب كثيرون؟ وهل هي صيغ إسلامية حقا تخلو من شبهة الربا؟ وماذا عن تفاصيل التعامل بها؟ هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية..
بداية لا بد من التعرف على تلك الصيغ الجديدة كما أعلنها بنك المغرب المركزي، وذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.. وهذه الصيغ تشتمل على:
- "الإيجار'' وهو "عقد تقوم بموجبه مؤسسة ائتمان بوضع ملك عيني أو عقاري في ملكيتها على سبيل الإيجار، رهن إشارة زبون لها من أجل استعمال مسموح به قانونا، مبرزا أن هذا العقد يمكنه أن يشكل عقد إيجار عادي، كما يمكن أن يتضمن التزاما من المؤجر بشراء العين المؤجرة عند انتهاء فترة متفق عليها مسبقا".
"المرابحة" وهو "عقد تقوم بموجبه مؤسسة ائتمان بطلب من أحد زبائنها بشراء ملك عيني أو عقاري، من أجل أن تبيعه إياه بثمن شرائه، يضاف إليه هامش ربح متفق عليه مسبقا، ويتم أداء ثمن البيع على دفعة واحدة أو دفعات في وقت لاحق لا يتعدى 48 شهرا".
- و"المشاركة" عقد تأخذ بموجبه مؤسسة البنك مساهمة في رأس مال شركة قائمة أو قيد التأسيس من أجل تحقيق ربح، حيث يشترك طرفا العقد في الأرباح تناسبا مع مساهمة كل واحد منهما، ويتحملان الخسائر وفق نسبة محددة مسبقا، وينقسم هذا المنتج المالي إلى صيغتين اثنتين هما "المشاركة الثابتة" التي يبقى طرفا العقد فيها مشتركان إلى حين انتهاء العقد، و"المشاركة المتناقصة" التي تنسحب بموجبها المؤسسة البنكية من رأس مال الشركة تدريجيا وفق مقتضيات العقد.
ترحيب وتساؤلات
على هذه الخلفية رحب عالم المقاصد المغربي الدكتور أحمد الريسوني بالمشروع المرتقب الهادف لتقديم خدمات مصرفية جديدة "تتميز بتوافقها مع الشريعة الإسلامية، وخصوصا خلوها من التعامل الربوي" ، كما رحب أيضا "بهذه الاستجابة الجزئية لمطلب شعبي قديم، ولواجب شرعي أقدم، فضلا عن كونها تشكل خدمة للاقتصاد الوطني المرتهن بالرأسمالية الربوية".
واعتبر الريسوني المعاملات البنكية الجديدة المعلن عنها "جائزة شرعا بضوابطها كما أقرها مجمع الفقه الإسلامي وهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وهي معمول بها حاليا لدى المصارف الإسلامية".
إلا أن الريسوني لاحظ - من جهة أخرى - عدم طرح صيغة المضاربة ضمن المنتجات المعلن عنها، وهي المنتج الكفيل بجلب مدخرات المواطنين والمقاولات على شكل ودائع مصرفية استثمارية، تستخدم صيغة المضاربة، أو القرض كما يسميه المالكية، بدلا عن صيغة القرض الربوي.
ويتابع: "كما أن هذه الصيغة ستنمي القدرة التمويلية للبنوك، وبدون هذا فإن الأموال المدخرة خارج البنوك ستبقى على حالها، ما لم تقدم صيغة لاستقطابها ودمجها داخل الدورة الاقتصادية الاستثمارية".
ولتطبيق هذه المنتجات بشكل سليم، يرى الدكتور أحمد الريسوني، أنه "لا بد من وجود هيئة مراقبة شرعية تفتي البنوك في المشاكل والمستجدات التي تقع أثناء التنفيذ أو بعده، وتراقب - بنفسها أو بموظفين مختصين يتبعون لها- مدى التزام البنك بالضوابط الشرعية المطلوبة".
كذلك فإن الدكتور علي يوعلا الخبير في الاقتصاد الإسلامي يعتبر أن هذه الصيغ في أصلها أدوات إسلامية، لكن وضعها قيد التطبيق من خلال بنوك غير منضبطة شرعا يدفع إلى طرح تساؤلات؛ لأن الفرق بين المعاملة على أساس المشاركة في الربح والخسارة على قدم المساواة فرق دقيق، تضبطه شروط التعامل الإسلامي.
فالأصل كما يوضح يوعلا أن " النقد لا يلد نقدا، والذي يلد الخيرات هو أن يختلط العمل بالرأسمال، وصيغ السُلف على الخصوص ما لم تكن خاضعة لرقابة شرعية تضبط مدى تنزيلها بما يتفق والشريعة الإسلامية تحوم حولها علامات الاستفهام".
ويفصل الدكتور محمد الروكي، أستاذ مادة أصول الفقه بجامعة محمد الخامس بالرباط، المسألة موضحا أن "الإيجار - على سبيل المثال - في صورته الأولى العادية لا يخالف الصورة الشرعية للإجارة التي هي عقد على منفعة بعوض.
ويتابع: " وفي صورته الثانية التي ينتهي فيها بالتمليك لا مانع منه شرعا؛ إذا لم يكن محفوفا بشيء آخر محظور في الشرع؛ كحمل العاقد المستفيد على الاقتراض بفائدة، أو حمله على أن ينشئ بذمته عقد التأمين التجاري، أو غير ذلك مما قد يقترن بالعقد فيفسده".
ويؤكد الروكي أن "مجرد الجمع بين الإجارة والبيع لا مانع منه شرعا، شريطة أن يلتزم في فترة الإيجار بمقتضى عقد الإيجار، وفي مرحلة التمليك بمقتضى عقد البيع".
ويرى الدكتور علي يوعلا أن "الإيجار صيغة تمويلية في حقيقتها محدودة المفعول، والصيغة التي لا غبار عليها شرعا هي تلك التي تنتقل من الإجارة إلى ما يسمى بـ "الليزينغ" أو "كريدي باي" أو الإيجار المفضي إلى التمليك."
ويضيف: "والشروط الجزائية التي تصاحب صيغة الإيجار إنما هي بيع موقوف التنفيذ وهذا يطعن في شرعية هذا التعامل، والصيغة الشرعية الوحيدة الممكنة - حسب الخبير الاقتصادي - هو نقله إلى صيغة البيع بالتقسيط".
حكم المرابحة وضوابطها
أما بالنسبة لصيغة "المرابحة" فيراها د. الروكي جائزة أيضا في صيغتها المعروضة، حيث إن المرابحة في الفقه الإسلامي من عقود الأمانة، ومعناها: شراء سلعة بنفس ثمن شرائها مع زيادة ربح يتفق عليه بين العاقدين، ولا مانع من تسديد الثمن أقساطا لمدة معينة، ولو زاد البائع على المشتري في الربح الذي هو جزء من الثمن، لأن للزمن حصته من الثمن؛ كما هو مقرر عند الفقهاء".
في حين يحدد الأستاذ بن سالم باهشام عضو رابطة علماء المغرب ضوابط المرابحة حتى تصان حقوق البائع والمشتري في العناصر التالية:
أولا: ألا يكون الآمر بالشراء ملزما بالشراء، فإذا قال الشخص لمؤسسة "اشتر لي عقارا وأربحك كذا"، فلا يحق للمؤسسة أن تلزمه بالشراء، فما قاله هو وعد بالشراء، وإلا أصبح الأمر يتعلق بأخذ مال بغير رضا صاحبه لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
ويتابع: "فإذا عدل المشتري عن الشراء باعت تلك المؤسسة ذلك العقار، فيجب على المؤسسة أن تستحضر هذا الشرط وتركز على ما تشتريه وإمكانية بيعه للغير، ومراعاة لحقوق البائع أيضا على المؤسسة المصرفية أن تأخذ سبل الحيطة كما يمكنها أن تمتنع عن الصفقة".
ثانيا: يشدد باهشام على أن يتم الملك والحيازة بأن تشتري المؤسسة ذلك العقار، وأن يدخل في ملكها؛ بحيث إذا وجد المشتري بيعا تمكن من إرجاعه على المؤسسة، فهي البائعة والمالكة، ولا يجيز الإسلام أن نبيع ما لا نملك، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك". وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" قال الترمذي: حديث صحيح .
ثالثا: لا بد من معلومية رأس المال الذي قامت به السلعة على المؤسسة، فإذا جهل الثمن بطل البيع، كذلك لا بد من التراضي والاتفاق على ربح معين معلوم لأن الأصل في المرابحة مراعاة الأمانة لكل ما في هذه الكلمة من معنى.
رابعا: كما يؤكد باهشام ألا يكون الثمن الأول مقابلا بجنسه من أموال الربا، وأيضا أن يكون العقد الأول صحيحا، فإن كان فاسدا لا يجوز بيع المرابحة.
محاذير واجبة النظر
من جانبه، يبين الدكتور علي يوعلا محاذير المرابحة كما تعتزم البنوك المغربية طرحها في النقطتين الآتيتين:
- المرابحة لا تكون صحيحة إلا إذا كان الذي يبيع السلعة متملكا لها، وبالتالي تبعات العيب والنقل وتبعات التسليم والاستلام كلها تكون على حساب البائع، لأنه عقد بيع، فالطرف الممول لا يمكنه أن يبيع شيئا لا يملكه.
ويردف يوعلا: "والذي تفعله حتى بعض البنوك الإسلامية أن يعطى الأمر لصاحب الطلب (اشتر أنت ونحن نتدخل بالتمويل)، وفي هذا انتقال من صورة المرابحة إلى التمويل الربوي البحت".
ويوضح ذلك قائلا: "لأنه عندما يعطى الأمر ليذهب هو لمباشرة العملية، يكون الطرف الممول غير متحمل لتبعات التملك وتبعات العيب وتبعات المخاطر؛ مثلا كشراء سيارة أو تجهيزات من بلاد بعيدة، فإذا هلكت في البحر مثلا فإنه في حالة البيع الشرعي تكون التبعات على البائع وليس على المشتري، لأنه لم يتسلم تلك البضائع والسلع بعد".
ويخشى يوعلا من أن تتحول المسألة وتنحو منحى التورق، أكثر من منحى عملية تسعى لإيجاد معاملات حقيقية قائمة على اشتراك بين العمل والرأسمال، ففي غياب مثل هذه الروح الاقتصادية الإسلامية وغياب هذا التوجه، كما يؤكد الخبير الاقتصادي، قد تتطور هذه الصيغ إلى عمليات تمويل فقط، ومن حيث منفعة البلاد واقتصاده تكون أقل نفعا مما لو كانت منضبطة بضوابط الشرع".
صيغة المشاركة مشروعة
ومن عقد " المرابحة " إلى عقد " المشاركة " أو " الشركة " التي يعرف الشيخ بن سالم باهشام أنواعها بقوله: "الشركة أنواع .. فهناك الشركة الممنوعة التي لا يجوز انعقادها، ومثالها شركة الوجوه الذين يتاجرون بجاههم وهي غير جائزة، لأنها قائمة على الغش، وليس على ركني المال أو العمل أو هما معا، والشركات الجائزة هي تلك القائمة على هذين الركنين أحدهما أو هما معا".
وصيغة المشاركة - وفق عضو رابطة علماء المغرب- "موافقة لمبادئ الشريعة الإسلامية ما دامت المؤسسة البنكية أسهمت في تأسيس الشركة، مما يدخل في الحكمة من تشريع المشاركة، ألا وهو تحقيق الربح والتعاون والمباركة بين الشريكين أو الشركاء (أنا ثالث الشريكين)".
أما د.محمد الروكي فيعتبر أن المشاركة في صورتيها المعروضتين لا مانع منها شرعا، "شريطة أن لا يتم الاتفاق فيها على مدة محدودة، يحددها العاقدان ابتداء، فحينئذ تنقلب إلى إجارة فتفسد ويجب فسخها".
ويتفق معه الدكتور علي يوعلا من كون المشاركة تكون بين طرفين كلاهما مستثمر، وغالبا ما يكون الضابط حسب رأس المال، والمشاركة الثابتة صيغة شرعية محل العمل، والمشاركة المتناقصة تتطلب قسطا قويا من التمويل، والبنك وسيط مالي فقط، وينسحب بقدر ما يتنازل من أقساط رأس المال للشريك المستثمر الآخر، إلى أن تتحول جميع حصص البنك إلى ذمة الشريك الذي ينفرد بالشركة، ويكون قد مول مشروعه، وتنتهي الشركة ويستقل المتمول بشركته، وهذه صيغة شرعية ليس فيها شيء".
لكن الشيخ بن سالم باهشام عاد ليورد شبهة ترتبط بهذه الصيغة، والتي قد تفضي بها إلى مخالفتها لمبادئ الشريعة الإسلامية، وتتمثل في انسحاب البنك من رأس مال الشركة تدريجيا (المشاركة المتناقصة)، إذ إن المؤسسة البنكية قد تنسحب برأس مالها، ورغم انسحابها تبقى متمتعة بما تدره المشاركة من ربح، وهذا فيه غرر، إذ ينعدم ركن المحل هنا (المال أو الجهد)، وبالتالي لا يدخل هذا النوع من الشركة ضمن شركة المضاربة، ولا شركة الضمان ولا المفاوضة.