مقدمة:
يتسم العالم اليوم بسرعة التغيير تلك السمة التي أضحت ميزة لجميع أوجه النشاط البشري وإدارته للمنظمات المختلفة.
نتج عن هذا السباق المحموم انحراف إداري واضح في إدارة المنظمات نتيجة تجاوزه قيم الحق والخير والعدل، بل أضحى استغلال هذه القيم مطية لتحقيق مآرب أخرى وسمة تميز إدارة المنظمات عامة والدولية منها على وجه الخصوص، ولا تخرج كثير من المنظمات الإقليمية والمحلية عن هذا السلوك. ولا يقتصر الأمر على المنظمات العامة فقط، بل المنظمات الخاصة، ولا يكاد يخلو قطاع من القطاعات المختلفة في الدولة عن صور الإدارة المختلة، بل تكاد تكون هذه سمة تميز المنظمات عامة.
يعتبر ترجيح الجانب السالب من تيار العولمة Globalization وسيطرة الاتجاه المادي، وتجاهل القيم الفاضلة والمُثل العليا من أكثر العوامل تأثيراً على زيادة الانحراف الإداري بالمنظمات، وعلى سلوك الأفراد فيها، وبالتالي على أخلاقيات الإدارة.
يُضاف إلى ما سبق تباين الثقافات وحدّة الضغوط التنافسية بين المنظمات، واللهث وراء تكوين الثروات واكتنازها من خلال تعظيم الربح المادي بفرض نُظم معينة على إدارة النشاط الاقتصادي بصفة خاصة، وعلى إدارة السوق بصفة أخص.
أدت جميع العوامل السابقة إلى اضمحلال القيم السامية والأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن تسود على سلوك الفرد في المنظمات التي ينتمي إليها، وهو ما دعت إليه جميع القيم والأعراف السليمة والرسالات السماوية حتى ختمت بأكملها كما بيّن ذلك حديث خاتم الأنبياء: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاقِ)[1].
أدى الانحراف الأخلاقي عما ينبغي لإدارة المنظمات إلى إزكاء روح الأنانية بينها من جانب، وبين العاملين على مستوى المنظمة الواحدة من جانب آخر، مما أزكى اتجاه التمحور حول الذات، وزاد من حدة التوتر وتفجير بؤر الصراع في جميع المنظمات وخاصة منظمات الأعمال باعتبارها أداة إدارة السوق وآلية تعظيم الربح المادي.
طوّر هذا الوضع من نظريات المؤامرة والكيد والتوجس وعدم الطمأنينة، وساهم بشكل فاعل في انتشار المنظمات الرقابية لمراقبة النشاط البشرى في المنظمات.
قادت الصورة السابقة إلى السؤال التالي: كيف يمكن بناء نظم إدارية تسودها الأخلاق الفاضلة والقيم العليا لتجنب المنظمات أوجه الانحراف السابقة، وتغني عن الدور الرقابي الذي تمثله كثير من المنظمات المُختصة، والتي نشأت حديثاً نتيجة عدم توفر الوضع الأخلاقي الأمثل للنظم الإدارية.
وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من تعريف إجرائي يحدد مفهوم أخلاقيات الإدارة، حتى يتثنى المقاربة بين المفهوم النظري والتطبيق العملي لهذا المفهوم على المنظمات عامة ومنظمات الأعمال على وجه الخصوص.
أخلاقيات الإدارة.. المعنى والمفهوم:
الخٌلق لغة لفظ يُطلق على الطبع أو السجية، وهو يُشكّل صورة الإنسان الباطنة مثلما يُشكل الخلق - بفتح الخاء وسكون اللام - صورة الإنسان الظاهرة[2]. واصطلاحاً يعرفه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي بأنه (هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية)[3]. والأخلاق هي مجموعة القيم والمعايير التي يعتمد عليها أفراد المجتمع في التمييز بين ما هو جيد وما هو سيئ، وتمييز ما هو صواب وما هو خطأ[4]، وهي منطلقات للتمييز بين ما هو جيد - الفضيلة - وبين ما هو سيئ - الرذيلة - غير أن شارلز جاريت وجونز يشيران في كتابهما الإدارة الاستراتيجية إلى أن الغرض من الأخلاق في مجال العمل ليس فقط لتعلم الفرق بين الصواب والخطأ، ولكن لتسليح الأفراد بالأدوات اللازمة للتعامل مع تعقيد السلوك الأخلاقي، تلك الأدوات التي يمكن أن يستخدموها للتفكير والتعرف أثناء التطبيق الأخلاقي للقرارات الإستراتيجية[5].
عليه يمكن القول إن الأخلاق وسيلة لتدريب الأفراد على فن التعامل مع السلوك المنظم، ومن هذه التعريفات تُعتبر الأخلاق (Ethics) وليدة ثقافة المجتمع، التي تعتبر بدورها ناتج البناء الاجتماعي، ومن ثم نجد ربطاً وثيقاً بين أخلاقيات الإدارة والمكون الاجتماعي، ذلك البُعد الذي يُشكل السلوك الإداري في المنظمات.
تأسيساً على ذلك، يمكننا القول إن أخلاق المجتمع تُعتبر أساس أخلاقيات الإدارة، كما أن أخلاقيات الإدارة تنبع من أخلاقيات المجتمع، ذلك لأن الإدارة لا تقوم على فراغ، بل هي بيئة حية متفاعلة بين المنظمة ووسطها.
وتقاس حضارة الأمم والشعوب بأخلاقها كما قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والأخلاق مقدمة على العلم، لأن العلم دون أخلاق لا ينفع، وهذا ما يستشف من دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)، وهو العلم الذي لا يقوم على الأخلاق والقيم الفاضلة لإصلاح المجتمع وتسخير الحياة لعبادة الله في الأرض، وفي هذا يقول الشاعر:
العلم يا قوم ينبوع السعادة كم هدى وكم فـك أغــلالاً وأطواقـا
فعلمـوا النشء علماً يستبين بـه سبل الحياة وقبل العلم أخلاقـا
ولقد بيّن دستور الإنسانية الجامع القرآن الكريم صفة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، الذي بنى أعظم صرح للأخلاق الفاضلة على الإطلاق، ذلك الصرح الذي ساهم في بناء أفضل مجتمع عرفته البشرية، فقال تعالى في وصف هذا النبي {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4. وكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في الحديث، حيث صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخلقاً تطبّعه مع ما جلبه الله عليه من خلق عظيم من الحياء والكرم والصفح وكل خلق جميل[6].
والناظر في القرآن الكريم والسنة المطهرة يمكن أن يحصي من القيم والأخلاق ما هو كفيل ببناء أجود النظم وأكفأها على الإطلاق، كيف لا؟ وذلك تقدير العزيز العليم وما آل إليه حال معظم منظمات اليوم من فساد في الإدارة والقيادة وازدواج في المعايير مرده إلى مجانبتها للمنهج القرآني في الأخلاق والمثال النبوي في السلوك.
إن تحقيق الخلق الإداري وفقاً للمنهجية الإسلامية يقتضى تطبيق قيمتي الحق والعدل، والتوظيف الأمثل لما يمكن أن نطلق عليه الميمات الثلاث للإدارة، وهي: المنظمة والمنهج والموارد، وتوظيف المنظمة يتم باعتبارها وسيلة لتحقيق غاية المجتمع أولاً ومصلحتها ومصلحة الأفراد العاملين فيها ثانياً، والتي يجب أن يراعى فيها عدم طغيان إحداهما على الأخرى، إنما القسط في أمانات تؤدى بعدل كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} النساء 58.
وأمثلية المنهج الإداري الإسلامي تقوم على اتباع المنهج القاصد إلى الله عز جل، والذي تحكمه قواعد الشرع كضروريات ومصالح الجميع كحاجيات، وتزينه مكارم الأخلاق كمحسّنات، حيث قال الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النحل90.
أما الاستغلال الأمثل للموارد فيتم من خلال توظيفها بكفاءة تحقق رفاهية المجتمع مع المحافظة على أصلها وبيئتها من غير إسراف ولا تلف حيث قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص77.
إن هذه القيم والمثل العليا لا تتوفر في كثير من إدارة المنظمات اليوم خاصة في العالم الذي يرى أنه امتلك ناصية العلم.
تعريف أخلاقيات الإدارة:
عرف ريو بيارز Rue Byars أخلاقيات الإدارة بأنها (مجموعة من المعايير والمبادئ التي تهيمن على السلوك الإداري وتتعلق بما هو صحيح وما هو خطأ). ونلاحظ في هذا التعريف أن الصحيح والخطأ معايير نسبية تختلف من مجتمع لآخر ما لم تحكمها مرجعية عليا تعترف لكمالها جميع المجتمعات البشرية.
ويري إيفانسيج (Ivancenich) وزملاؤه أن أخلاق الإدارة (تمثل خطوطاً توجيهية للمدبرين في صنع القرار).
يتفق هذا التعريف مع سابقه من حيث مبدأ النسبية، إذ أن هذه الخطوط التوجيهية هي سياسات عامة لابد لها من استراتيجية كلية تشتق منها، وفي نفس الوقت تسعي لتحقيقها.
يشير فان فالوك Van Valock إلى البعد المنهجي لأخلاقيات الإدارة باعتبارها (الدراسة المنهجية للخيار الأخلاقي حتى يتم من خلالها ما هو جيد)[7]. أما بيتر ف داركر Peter F Darker - من أشهر كتاب الإدارة في القرن الحادي والعشرين - فيركز على البعد الموضوعي لأخلاقيات الإدارة بكونها علماً مراعياً للاعتبار المادي ويعرفها على أنها (العلم الذي يعالج الاختيارات العقلية على أساس التقييم بين الوسائل المؤدية إلى الأهداف)[8].
عليه يمكن أن نعرف أخلاقيات الإدارة بأنها مجموعة القيم والمبادئ الفاضلة والمعايير الصادقة والتي تشتق من العقيدة الصحيحة وتحكم السلوك الإداري لتحقق كفاءة المنظمة ورضا أصحاب المصلحة.
إن بناء الأخلاق على أساس عقائدي ضمان لتثبتها واستقرارها وعدم العبث بها، وهو أمر لازم. كما عبّر عن ضرورة ذلك الشيخ محمود شلتوت بقوله (إن العقيدة دون خلق، شجرة لا ظل لها ولا ثمرة، وإن الخلق دون عقيدة ظل لشبح غير مستقر)[9].
والأخلاق في الفلسفة الإسلامية تنتقل بالإنسان من مجال العقيدة إلى مجال الشريعة من العبادات والمعاملات والعلاقات، فهنالك أخلاق تتعلق بصلة الفرد بنفسه كالحياء والإتقان والصبر، ومنها ما يتعلق بصلة الإنسان بخالقه كالطاعة و التعظيم والشكر والتواضع وعدم الاستكبار، ومنها ما يتعلق بصله الفرد بالآخرين كالإحسان وأداء الواجب وحسن العشرة والتعاون على البر والتقوى والعدل والأمانة... الخ، مما يتخلل مختلف الأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية، ومنها ما يتعلق بصله الإنسان بالأشياء والكائنات الأخرى من البيئة، كالحرص على نظافة البيئة والحفاظ عليها والرفق بالحيوان. والحقيقة (إن دائرة الأخلاق في الإسلام من السعة بحيث تغطي شئون الحياة كلها، فهي ذات صلة بالعقيدة والعبادة والمعاملات ومختلف العلاقات علاقة الفرد بنفسه وبربة وبالأشخاص والأشياء)[10].
وعليه نجد أن الفلسفة الإسلامية هي أكثر اتساقاً وأوضح منهجاً في معالجة أخلاقيات الإدارة، وذلك بتركيزها على قيم مثلى ومعايير ثابتة تقوّم السلوك الإنساني من خلال منهج أخلاقي شامل لجميع شئون الحياة. الأمر الذي عجز عنه الفكر الإداري الحديث، وذلك لاستناده على منطلقات فكرية مادية ذات نظرة قاصرة على حياة الإنسان الآنية، ولا تركز كثيراً على ما بعد هذه الحياة.
أما الانحراف الإداري فهو نمط سلوكي غير مرغوب فيه، وهو انتهاك للقواعد والقوانين المكتوبة وغير المكتوبة، ويعرف بأنه (أي سلوك يأتيه الموظف العام ويترتب عليه وقوع مخالفات تنظيمية أو سلوكية أو مالية أو مخالفات تصل إلى درجة العقوبة الجنائية)[11].
وتتمثل المخالفات التنظيمية للموظف في عدم احترام الوقت، واللامبالاة، وعدم الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء، والمخالفات السلوكية في مزاولة أعمال أخرى أثناء تأدية العمل الوظيفي، وفي الوساطة والمحسوبية والكذب والتدليس وغيرها من السلوكيات غير الحميدة. أما المخالفات المالية فتعني مخالفة القواعد المالية واللوائح المنظمة لعمل المنشأة والخاصة بالمناقصات والمزايدات والمخازن والمشتروات وغيرها من اللوائح المالية.
أما المخالفات الجنائية فهي انحرافات يرتكبها الموظف وتكون من الجرم بما لا يكفي معه توقيع الجزاء الإداري الذي تمتلكه المنظمة، وتشمل على سبيل المثال: الاختلاس والرشوة والتزوير والسرقة وغيرها وجميع أوجه الانحراف الإداري التي تتنافى مع القيم الفاضلة والأخلاقيات الحميدة.
الأساس الأخلاقي للفكر الإداري الحديث:
يلاحظ الناظر في تطور الفكر الإداري الحديث أن الاهتمام علماً وتطبيقاً كان منصباً من أجل زيادة الكفاءة العملية للمنظمة لزيادة إنتاجيتها وتعظيم الربح، ولا يوجد اهتمام يذكر بأخلاقيات الإدارة، بل هنالك فهم خاطئ يكرس إلى تناقض بين كفاءة المنظمة وبين التزامها بالأخلاق الفضلى والقيم المثلي[12].
ففي بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر دعا آدم سمث A.. Smith رائد الفكر الاقتصادي الحديث في كتابة البحث في أسباب وطبيعة ثروة الأمم إلى المنافسة الحرة لمنظمات الأعمال، وهي تسعى إلى تعظيم الربح حتى تحقق منافع الجميع، وأكد على أن للشركة هدف رئيس هو أن تبقى كمنشئ للثروة Original Of Wealth لتنتج السلع المادية وتجلبها إلى السوق وتحمي رأس المال وتعظم الربح.
أدت حرية الأعمال هذه في سعيها المحموم من أجل الربح على حساب العمال – إلى حدوث مشكلة اجتماعية وأخلاقية في الممارسات اللاأخلاقية في المصانع من قهر وظلم واستغلال الأطفال، وسوء معاملة النساء العاملات، وسوء أوضاع العاملين والعمل على حد سواء.
حاول رواد الإدارة العلمية في القرن العشرين تقديم معالجة فنية هندسية للآثار السالبة للممارسات اللاأخلاقية والآثار البغيضة التي كانت شائعة في الأعمال والمصانع إلا أن الوعي بالمشكل الأخلاقي في الإدارة ما زال مبكراً، إذ أن الرؤية الهندسية التي يقدمها رواد الإدارة العلمية تقوم على أن الشركة هي (آلة الربح) وأن الطريقة الوحيدة المثلي One best way التي أكد عليها تايلور Taylor رائد الإدارة العلمية، وجعلها هدفاً لإنجاز كل عمل هي طريقة لا تتسم إلا بالكفاءة. وكانت تهدف إلى الحد من تدخل الإنسان وقيمة ومعاييره الخاصة في العمل لكي يكون أكثر كفاءة مما أدى إلى فشل منظمات الأعمال في مراعاة مصالح المجتمع، وقاد إلى ظهور القانون الحديدي للمسئولية Iron Law Of Responsibility الذي يرى من الضروري على سلطات المجتمع فرض مصالح المجتمع بقوة القانون إذا لم ترعها منظمات الأعمال.
هذه المسئولية الاجتماعية كانت تحمل بعداً أخلاقياً ضمنياً من أجل مراعاة التوازن بين الأنانية Egoism أي المصلحة الذاتية القصوى لمنظمات الأعمال في تعظيم الربح والإيثار Altruism أي مصالح المجتمع القصوى وقد أخذ هذا البعد الأخلاقي يتطور كاتجاه متميز عن المسئولية الاجتماعية، وبعداً مكملاً لها ومؤثراً عليها، ولأخلاقيات الإدارة في منظمات الأعمال الحديثة.
إلا أن الرؤية المادية لا تزال تتفق في أخلاقيات الإدارة ومسئولياتها الاجتماعية مع النموذج الاقتصادي للمشروع الخاص الذي عبّر عنه حديثاً ميلتون فريدمان M. Friedman في كتابه الرأسمالية والحرية، حيث اعتبر أن الدوافع الاقتصادية هي أساس العمل في المشروع الخاص (وأن الوظيفة الأساسية هي تعظيم الربح لصالح حمله الأسهم، أما المسئولية الاجتماعية فإنها ترتبط بدوافع غير اقتصادية، وأنها ليست من طبيعة المشروع الخاص)[13]. وهكذا يسيطر الهاجس المادي - تعظيم الربح – على الفكر الإداري الحديث، ساعياً إلى الفصل بين القيم الاقتصادية والقيم الأخلاقية، وبالتالي لتأسيس فهم للتناقض بين كفاءة المنظمة والتزامها الأخلاق المثلى والقيم العليا.
وفي تأكيد لرؤية المشروع الخاص يقول بيتر دراكر (إننا لو عهدنا إلى ملائكة كبار بإدارة الأعمال، وهم بطبيعتهم لا يبالون بشدة بدوافع الربح، لتمنوا أن يحققوا ربحاً، وأن يعنوا بالربحية بتلهف ومواظبة وإخلاص)[14].
وهكذا يسيطر الاتجاه المادي على الفكر الإداري الحديث ومنظماته، متجاهلاً دور القيم والمثل العليا في بناء النظم الإدارية، الأمر الذي أدى إلى الانحراف الإداري في منظمات اليوم رغم التطور العلمي السائد والرفاه الاجتماعي الذي استطاعت تحقيقه.
المنهج الأخلاقي للإدارة في الإسلام:
يرى المنهج الإسلامي أن تحقيق أي هدف لا يتم إلا بتنظيم جهود الأفراد وحشد الموارد الأخرى وفق منهج عقائدي يبنى على القيم السامية والأخلاق الفاضلة، وعليه عندما يسود المنظمة هذا المنهج فإنه سيحقق التحول من الاهتمام والتركيز على فنية الإدارة وعالم الأشياء، كما هو منهج الإدارة العلمية، أو إنسانية العلاقات وعالم الأشخاص، كما هو منهج العلاقات الإنسانية، إلى عالم آخر هو عالم القيم المعنوية المشتركة. فعندما تكون هنالك عقيدة أو نظرية مبدئية - قيم أخلاقية سامية – يؤمن بها العمال والإدارات على حد سواء، وتتحدد رسالة المنشأة ودور العمال ودور الإدارات من واقع مقتضيات هذه العقيدة، فسيوجد الصعيد الذي يتلاقى عليه الجميع وينطلقون منه[15].
ولفاعلية التنظيمات الإدارية واستقامة السلوك في جهد منظم ودءوب لتعميق القيم المعنوية في مجال العمل والتنظيم والأداء الوظيفي يبرز النهج الإسلامي القيم التالية[16].
1.إعلاء قيمة العمل والوظيفة والإحسان فيهما.
2.تزكية روح الجماعة والمسئولية التضامنية.
3.التئام الفرد مع المنظمة في كيان عضوي واحد.
4.الالتزام بواجب الاستخلاف والامتثال في غير معصية.
5.القوة في العمل وتنمية الشخصية السوية.
ومن القيم والمبادئ التي تمتثلها الإدارة الإسلامية وتشكل أساساً راسخاً في السلوك المنظمي للفرد المسلم، وتعتبر سياجاً منيعاً من الانحراف الإداري واستغلال القيم لتحقيق مآرب أخرى:
أ) العدل والأمانة:
إن تحقيق العدل مطلب أسمى وأصل عظيم من الأصول الإسلامية على كل صعيد وفي أية منظمة، قال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة8. وفي الحديث القدسي يحرم الله سبحانه وتعالى الظلم نقيض العدل ويدعو إلى جعله محرماً بين الناس في تنظيماتهم المختلفة: عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا)[17].
وهكذا يدعو الإسلام إلى التزام جانب العدل في سائر تصرفاتنا قولاً وفعلاً، وفي كل الأحوال، أياً كانت الاعتبارات والظروف في المنظمات، وهو ما يضمن الحياد والموضوعية وعدم المحاباة أو الانتقام.
والعدل الاجتماعي في المنظمات مفهوم يقوم على إحلال اليسر بدل العسر وتحقيق كرامة الإنسان والحيلولة دون الظلم والجور وتحقيق الرضا الوظيفي والرفاه العام، ومرتكزه مراعاة العدالة في توزيع المهام والمسؤوليات والأجور والحوافز.
والأمانة في العمل العام تقتضي أولاً عدم استغلال الوظيفة للمصلحة الخاصة بالموظف لأن الإسلام يعتبر استغلال المنصب لمنفعة خاصة خيانة لذلك العمل وخيانة للمسئولية التي أسندت للموظف، إذ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنفال27.
كما شدد الإسلام على أداء الأمانة وتوخي العدالة حيث قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} النساء58.
فالموظف مؤتمن على مصالح الجمهور، مؤتمن على ما تحت يده من أموال، وعلى صحة ما يعرضه من بيانات وما يدلي به من أقوال، ومؤتمن على نصح وتوجيه وتدريب مرؤوسيه، ومؤتمن على ضرورة المحافظة على الاستغلال الأمثل للموارد والوقت، حيث يصف الله المؤمنين فيقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} المؤمنون8.
ومن مجالات الأمانة في العمل العام إسناد الوظيفة إلى القوي الأمين، حيث قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} القصص26، ومنها وضع الرجل المناسب في المكان المناسب واختيار القادة والمسئولين على اختلاف مستوياتهم الإدارية على أساس الكفاءة والخلق والتقوى، حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)[18].
فإذا قدم من يستحق التأخير أو أخّر من يستحق التقديم فإن ذلك خيانة للأمانة، وفي هذا المعني يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلا حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ قَالَ تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)[19].
وخيانة الأمانة وتضييعها من مظاهر الانحراف الإداري الموجبة لقيام الساعة حيث روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.
وهكذا نجد حرص المنهج الإسلامي على قيم الحق والعدل كضروريات لبقاء المنظمة وتطورها.
ب) الصدق والإخلاص:
الصدق يعني التزام الحقيقة وتحريها في القول والفعل، ومما يؤدي بالمنظمات لصحة البيانات المقدمة والتقارير المكتوبة وبناء الخطط والأنشطة على أسس واقعية وتحري المعايير السليمة في الاختيار والتعيين والتوظيف والتدريب والترقي والتحفيز، لذا حث القرآن الكريم التزام جانب الصدق، حيث قال الله تعالى آمراً المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} التوبة119.
وقد حصر الإمام الغزالي – رحمه الله – مجالات الصدق في الجانب السلوكي فقال: لفظ الصدق يستعمل في ستة معان، صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها.
إما الإخلاص فهو من أعظم الأخلاق التي يتحلى بها المسلم في الحياة الدنيا، وهو باعث على إتقان الأعمال كما ورد في الحديث: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[20]. والإخلاص شرط لقبول الأعمال عند الله تعالى، ثم عند الناس، فقال الله تعالى {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} الكهف110.
وفي المنظمات الحديثة الإخلاص في العمل يعني الإتقان والجودة والتميز، وهو أعلى معايير التطور الإداري.
ج) الشورى والمشاركة:
لقد ألزم الله تعالى المسلمين بتبادل الآراء والشورى بين الرؤساء على مختلف مستويات التدرج الرئاسي بالمنظمة، فقال تعالى موجهاً نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} آل عمران159، هذا مع المحافظة على طاعة الأمر وتطبيق اللوائح والقوانين المنظمة لأداء الأعمال. لذا ما انفك رسول الله صلى الله عليه وسلم من استشارة أهل الرأي والبصيرة ممن شهد لهم بالفعل والفضل وقوة الإيمان والتفاني في بث الدعوة الإسلامية[21].
ولقد ثبت عند المتخصصين في علوم الإدارة من غير المسلمين أن أنجح الأساليب القيادية في الإدارة الحديثة هو الذي يهتم بالعلاقات الإنسانية، وفي مقدمتها المشاركة والشورى في تخطيط المشروع ورسم سياساته[22].
الخاتمة:
تعتبر الأخلاق الفاضلة مادة بناء المنظمات وأساس تقدمها ورمز ثقافتها وحضارتها، وهي ما استحسنته الفطرة السليمة، واتفقت عليه جميع الأعراف البشرية والرسالات السماوية حتى ختمت بأكملها أساساً لحسن الخلق، وهي رسالة الإسلام الخالدة على يد أكمل الناس خلقاً وخلقاً المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
فإذا كانت العبادات في الإسلام لعصمة وتزكية الجانب الروحي في الإنسان من الضلال واتباع الهوى، فالأخلاق هي السياج الحصين لتنمية الجانب المادي فيه، واللازم لتعامله مع البيئة من حوله، وبهذا المنهج فإن الإنسان قادر على قيادة منظماته المختلفة على هدىً من الحق والعدل والخير، إلا أن ما نشاهده اليوم من انحراف إداري في إدارة المنظمات المختلفة لهو كفران بحقيقة القيم الأخلاقية الفاضلة في المنهج الإسلامي، إما لجهل بها أو لهوى في نفوس الرافضين لسيادتها وهو الأرجح.
المراجع:
1.القرآن الكريم.
2. الحديث الشريف.
3.ابن منظور، لسان العرب.
4.أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين (بيروت، دار الجيل، 1990).
5. نجم عبود نجم، أخلاقيات الإدارة في عالم متغير (القاهرة: المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 2000م).
6.تشارلز وجاريت جونز، الإدارة الاستراتيجية (الرياض، دار المريخ للطباعة والنشر، 2000م).
7.ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (بيروت، دار مكتبة الهلال، 1990م).
8.بيتر - ف – دراكر، الإدارة، ترجمة اللواء محمد عبد الكريم (القاهرة، الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1995م).
9.محمد شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة (بيروت، دار الشروق، 1992م).
10.كايد فرعوش وآخرون، الأخلاق في الإسلام (الأردن، دار المناهج للنشر والتوزيع، 2006م).
11.M Fried man ,Capitalism and Freedom university of Chicago press 1962.
12.جمال البنا و د. حسن العناني، الحل الإسلامي لأزمة الإدارة (القاهرة: المعهد الدولي للاقتصاد الإسلامي، 1982م).
13.الهادي عبد الصمد، الإنسان والتنظيم: دراسة نقدية للفكر الإداري الغربي من منظور إسلامي (العين).
14.أحمد إبراهيم أبو سن، الإدارة في الإسلام (الخرطوم، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1993م).