السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بعد التحية



في إطار المقاصد الكلية للشرع، يمكننا ملاحظة جملة معوّقات دعا النص القرآني إلى تجاوزها وحذّر من الوقوع
في شباآها، لأثرها السلبي في عملية التفكير
. وسيتبيّن من متابعة الآيات القرآنية، آيف يمكن إدراج القصص
القرآني والنصوص الوعظية وغيرها في إطار تشريعي واحد، ما يؤآد ما سبق وألفتنا إليه، من أن القرآن الكريم
آله تشريع، لأنه يدخل في عمومه في مهمة بناء الإنسان
.

أ العصبية
تشكل العصبية أحد المعوِّقات الرئيسية التي ألفت إليها القرآن الكريم في إطار تسجيله لموقف إبليس الذي أمره الله
تعالى بالسجود لآدم، وعصيانه للأمر بداعي تفضيل أصله على أصل الإنسان، ممثلاً بآدم؛
{وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وآان من الكافرين
}[البقرة/ 34 ]، وآانت دواعي رفض إبليس
تنحصر في آونه خلق من نار بينما خلق الإنسان من طين
{قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين
}[ص/ 76 ]؛ {قال أأسجد لمن خلقت طيناً}[الإسراء/ 61 ]. ولذلك اعتبره الإمام علي(ع) أول من تعصَّب من
المخلوقات
.

والعصبية، التي اشتقت من عصب، تحمل صاحبها على تبني جملة معايير وقيم خاصة تفضي به إلى التعامي عن
الحقائق والنظر إلى الأمور من زوايا محددة، بدلاً من تشريع الأبواب آلها للحقيقة، فتنتظم في ضوء تلك المعايير
سلسلة من الأحكام والمواقف والرؤى والتصورات ليس لها ما يسوّغها إلاّ آونها نابعة من الشعور بالانتماء
لعصب محدَّد
.

ولا تقف أشكال العصبية عند حدود العصب الذي تعبر عنه، في يومنا هذا، الانتماءات العرقية والقبلية والعائلية،
وإنما أيضاً مختلف الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والحزبية
. وآم هي معبّرة تلك الآية التي تصوِّر حال
السكينة والطمأنينة والرضى والتسليم التي يشعر بها المتحزّب لفكرة أو انتماء
{آل حزب بما لديهم

.[
فرحون}[الروم/ 32

ب التقاليد والموروثات
:

تحول الأعراف والتقاليد والمفاهيم المتسالم عليها، وما تتناقله الأجيال من قيم وعادات وأفكار وأنماط ثقافية، دون
التبصّر بكلِّ جديد أو مستجدّ، وآثيراً ما يحصل الصدّ والإعراض رأساً ودون نقاش لمجرد معرفة الملتزمين
بالتقاليد أن ثمة شيئاً جديداً يعمل على زحزحة الراآد
. فالمرء مسكون بمشاعر الانبساط والرضى والتسليم بما هو
قائم ومتداول، وقد يشعر بالضيق والانكسار إذا ما تعرَّض النسيج المفاهيمي والقيمي للاختراق، وغالباً ما يندفع،
بصورة تلقائية، لمقاومته، لمساسه بالسكونية، التي ألفها ودرج عليها
. ولهذا يواجه الإصلاحيون، والمفكرون
النقديون، موقفاً معترضاً من الجمهور العريض، قد يحملهم، في معظم الأحيان، على الانكفاء والإقلاع عن
دعوتهم المغيرة، إذا لم يحسن القراءة والفهم أو لم يتمتع بطاقة هائلة على التحمل والاستيعاب والتجاوز
. وآثيراً
ما يذهب هؤلاء ضحايا الأفكار والمشاريع الإصلاحية، والتاريخ مليء بالشواهد، والقرآن الكريم ينقل لنا من
الأمثلة والنماذج التي ضحَّت بنفسها لقاء تأدية رسالتها
. والمؤآد وفق العرض القرآني، أنّ الأنبياء آلهم آانوا ممن
تعرضوا لحالي الإعراض والصدّ، وآخرهم نبيّنا محمد
(ص).

والمنطق الذي واجههم آان واحداً
: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون}[الزخرف/ 23 ]. والتاريخ
يختزن الكثير من الوقائع التي رفض فيها الناس أفكار مصلحين وعلماء في مجالات مختلفة، آما هو حال

"
غاليلو" و "آوبرنيكس". ولا يستثنى عصرنا الحالي، الذي يمتاز بفسحة لا بأس بها من الحرية، من حالات
الملاحقة والقتل والتشريد والمحاآمة، وسنترك للقارئ ولذاآرته أن تستدعي ما تشاء من صور ونماذج واآبها
وعايشها عن قرب
.

ج الاستبداد بالرأي
:

ينكر القرآن الكريم على المرء ادعاء الحقيقة ومحاولة فرضها على الآخرين، لأن في ذلك تعطيلاً لأهمِّ الإمكانات
في الإنسان، وهي إمكانية التفكير والكشف والاآتشاف، التي تُعدُّ شرطاً لازماً للاستخلاف، وبالتالي العمران
. ولا
شك أن الحرية، بتعبيراتها المختلفة، مساوقة للوجود، بل يمكن القول إن الإنسان آائن حر، وإذا افتقد الإنسان
شعوره بأنه قادر على فعل ما يريد، فإنه يفتقد إحساسه بالحياة
. فالإنسان الذي هذا شأنه، آيف يستشعر وجوده إذا
منع من أن يفكر وينكر ويعترض وينقد؟ أو سمح له بكل ذلك لكن منع من ترجمة اقتناعاته أو مجرد التعبير عنها؟
وقد أنكر القرآن الكريم على فرعون، الذي يمثل في الكتاب العزيز نموذج التسلط والاستكبار، محاولته تعميم
آرائه وأفكاره ومفاهيمه وممارسة الرقابة على مصادر المعلومات، فضلاً عن التحكم بزوايا النظر ومنطلقات التفكير .

وقد نقل النص القرآني آلام فرعون الذي يخاطب به رعيته، والذي يمارس فيه أعتى صنوف الاستبداد
.[ {
ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}[غافر/ 29

يصطفُّ إلى جانب هذا المعنى من الاستبداد، شكل آخر لا يقلُّ خطورة عن الأول، وهو الأنوية، أي أن يخالط
الإنسان وهم الفرادة والامتلاء العلمي، فيصم أذنه عن أفكار وآراء الآخرين، فيلجأ إلى رفض الحوار أو القراءة
واستعداء آل ما ينجزه الناس الآخرون
. وهذه الظاهرة، آما يمكن العثور على نماذجها في الأفراد، يمكن أيضاً أن
تبتلى بها الأمة جمعاء، فتوصد الأبواب في وجه الأفكار والآراء والمنجزات البشرية الأخرى، الأمر الذي يرتدُّ
جموداً وتكلساً في المفاهيم، فيما القاعدة القرآنية
{لتعارفوا} تقتضي خلاف ذلك، {وقالوا قلوبنا في أآنّة مما
تدعونا إليه وفي آذاننا وقر
}[فصلت/ 5]، وفي نص آخر {ولّى مستكبراً آأن لم يسمعها آأن في أذنيه
وقراً
}[لقمان/ 7]. وحال الصدود والإعراض التي تنتاب الإنسان في حياته لها مناشئ عديدة، يأتي في مقدمها
شعوره بامتلاك الحقيقة، وأن الآخرين محرومون منها، ومحاولتهم مجادلته أو محاورته تستهدف، وفق توهماته،
الانتقاص من تلك الحقيقة وتشويش مبتنياتها ومرتكزاتها، وهو ما استنكره الله تعالى في آتابه عندما أورده في

.[
صيغة استفهام إنكاري:{ألم تر إلى الذين يزآون أنفسهم بل الله يزآي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً}[النساء/ 49

إذاً، الاستبداد بكلا وجهيه، أي الاستبداد السياسي والفكري المفروض من الخارج، أو الاستبداد النابع من الداخل،
هو أمر مستكره ومنكر، لأن مآلهما في النتيجة واحد، وهو تعطيل الإبداع وطروء الجمود على الفكر، وفي ذلك
حرف لمقصد الاستخلاف، وتالياً لمقصدي الأمانة والمسؤولية عن جادة التحقق، فضلاً عن هدر الطاقات
المذخورة والكامنة لدى الإنسان
.

د الاستضعاف
:

لا يقف الاستضعاف عند حدود القهرين الجسدي والنفسي، وإنما يتعداهما إلى القهر الفكري، وإذا آان في بعض
مؤدياته يلتقي مع الاستبداد، إلاّ أنه أشد قسوة
. في هذا المقام، يرسم النص القرآني موقفاً مميزاً يحثُّ فيه من
تعرَّض للاستضعاف للتعبير عن رفضه للواقع، وإن استدعى الأمر الهجرة، وذلك لفتح آفاق جديدة أمام الناس
المسلوبي الإرادة، ليستأنفوا حياتهم من جديد، بحيث يتمكنون من تجسيد فعل الاستخلاف
{إن الذين توفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم آنتم قالوا آنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً
}[النساء/ 97 ]. فالاستكانة، وفق منطوق هذه الآية، مرفوض، طالما أنّ
ثمة العديد من الخيارات أمام الإنسان، فإذا استسلم للواقع وأفنى حياته، التي هو مؤتمن عليها، هكذا، ومن دون أي
ثمرة، فسيحاسب في الآخرة حساب المتجاوز للتكاليف، وسيلاقي حساباً عسيراً، والآية بإطلاقها تتضمّن مختلف
أشكال الاستضعاف، ومنها الناحية الفكرية
. "فالحقيقة، آما الإبداع، لا علاقة لهما بالسلطة، وإنما تربطهما قرابة
أصيلة بالحرية
".

لقد حث القرآن الكريم على تجاوز معوّقات التفكير السليم، الذي هو شرط تحقق المقاصد العليا للدين، ودعا إلى
التحرر في تعامله مع الأفكار والقضايا المطروحة أمامه، وقد عرض حتى التوحيد نفسه بشكل لا يخرج فيه عن
دائرة المفكر به، فالله تعالى لم يأمر عباده في آتابه العزيز ولا في آية واحدة، أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو من
عنده أو يسلكوا سبيلاً هكذا وخبط عشواء
. فالنص القرآني علل الشرائع والأحكام التي جعلها للإنسان مما لا سبيل
للعقل إلى تفاصيل ملاآاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات،آقوله تعالى
:{إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
،
[ والمنكر}[العنكبوت/ 45 ]، وقوله: {آتب عليكم الصيام آما آتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}[البقرة، 183

وقوله
:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطّهرآم وليتمَّ نعمته عليكم لعلكم تشكرون}[المائدة/ 6] إلى
غير ذلك من الآيات
.

بعد هذا التعداد، يتّضح حجم المسؤولية ومستواها التي يحمل أعباءها الإنسان في الحياة الدنيا، وآم هي خطيرة
تلك المهمة التي يتحمل تبعاتها هذا المخلوق الاستثنائي، وهذا آله يحوِّل حياة الفرد والجماعة إلى ورشة عمل
مستمرة لا تتوقف إلاّ عند توقف القلب عن النبض
{يا أيها الإنسان إنك آادح إلى ربك آدحاً فملاقيه}[الانشقاق/ 6
].
وقد لخص عبد الرازق الدّواي هذا الدور الخطير الذي يضطلع به الإنسان ويبعده عن اللغو والعبث، اللذين لا
ينفكان يشدانه إلى اللهو واللعب والتسطيح
. يقول الدّواي: "إننا أمام موقف يتصور الإنسان آكائن طبيعي
وتاريخي، لا يتوقف عن القيام بمحاولات لفهم محيطه وعالمه وذاته في أفق التأثير عليهما حسب الإمكان، يستفيد
من تراآم تجاربه، ويوسع أشكال إدراآه وتعلقه، ويضع باستمرار مشاريع للمستقبل، قد تتحقق وقد تفشل، وهو
يستفيد في آلتا الحالتين، وآل ذلك، داخل تاريخ زماني، يؤمن بأنه يساهم نسبياً في تحديد توجهاته، انطلاقاً من
وضعية التناهي ذاتها، التي تشرطه
".

د . حسن جابر