السلام عليكم إخوتي ..
بعد التحية ..
أقدم لكم ملاحظات منهجية لاستكشاف آفات التفكير والتي تتلخص فيما يلي :
1. استكشاف آفات التفكير الانساني .
2. اليقين المطلق .
3. التفكير الارتغابي .
4.الاستسلام والخضوع .
5. التعصب .
6. الجمود والركود الفكري .
7. التعقيد اللغوي .

سنتناول في هذا الموضوع أولى ثلاثة نقاط .. والباقي بموضوع آخر ..
مرتضى معاش

يتميز الكائن الإنساني عن باقي المخلوقات بأنه كائن يهدف إلى تحصيل المعرفة من أجل إشباع حاجاته المادية و الروحية ، و هو للوصول إلى المعرفة يستخدم عقله مفكراً عبر مراحل استدلالية مختلفة و متعددة عبر مقدمات متسلسلة يستنبطها حدسه العقلي حتى يبلغ مأربه و يشبع ظمأه، لذلك اخترع المتقدمون من الحضارات القديمة قواعد و ضوابط عقلية أسموها بالمنطق حتى تصبح ثوابت عامة في المعرفة الإنسانية. ذلك أن الإنسان قد لا يصل غالباً إلى المعرفة التي تكشف عن الواقع او قد يضع لنفسه معرفة تطابق هواه و رغباته ومصالحه لذلك يخطئ كثيراً في تحصيل المعرفة او استخدامها بالصورة الصحيحة.
و اذا كان الإنسان كائن مستدل عقلاني فأن نمط حياته العام يتشكل حسب نوعية الحركة المعرفية التي يتخذها و حسب أساليبه الاستدلالية، و قد تتخذ أمة كاملة منهجاً استدلالياً و معرفياً خاطئاً يقودها إلى اتجاه معاكس و لا يوصلها إلى أهدافها.
أن تغيير كثير من الأخطاء التي نعيشها و تغيير واقعنا إلى واقع جديد سليم يعتمد بشكل كبير على كشف الأسلوب الذي نفكر به ، فإذا كان واقعنا سيئا ومريرا فهذا يعني أننا نفكر بأسلوب خاطئ ولابد من أن نغير أساليبنا الفكرية و الاستدلالية لتغيير هذا الواقع المتخلف.
إن الكثير من الأشياء في هذه الحياة تبدو لنا في ظاهرها سليمة و خالية من العيوب لذلك نعمل وفق هذه الرؤية و نشكل حياتنا وما يتبعها على ضوءها، و لكن قد تكون هذه الأفكار ليست إلا أخطاء تعودنا عليها عبر الزمن حتى يسيطر الركود و الجمود و التخلف علينا ، ذلك أن الاستمرار على الخطأ يؤدي إلى خلق تراكمات متتالية لمجموعات من الأخطاء المعقدة، و هذه هي إشكالية في المنهجية التي يفكر فيها الفرد او الجماعة او المجتمع أو الأمة. إن العبرة التي نستخلصها هي إن المنهج الفكري هو الذي يحدد مسيرة فرد او أمة و حياة الأمة و حيويتها مرتبطة بنوعية التفكير الذي تسير وفقه ، فكم من أمة اندثرت و ماتت عندما غرقت في المستنقعات الراكدة لأفكارها الجامدة. و كم من أمة نهضت بنهوض أفكارها التي غذتها بالحياة و الروح عندما اعتمدت منهجاً سليماً في نظامها الفكري.
استكشاف آفات الفكر الإنساني
ما الذي يجعل التفكير ينقاد إلى الاستدلال العقيم او السقيم؟ هذا السؤال هو الذي يفرض علينا نفسه لمعرفة الأخطاء الفكرية التي يقع فيها الفرد عبر مراحله المختلفة.و اذا كان القدماء قد وضعوا المنطق المعروف بمنطق أرسطو فأن هذا المنطق لا يستطيع ان يستدرك هذه الأخطاء بكاملها لأنه يعتمد على آلية ميكانيكية لا تنظر إلى مختلف المراحل و الظروف الفكرية التي يمر بها الإنسان، إذ ان العقل الإنساني ليس مجرد آلة تصنع الأفكار بل انه خاضع في كثير من الاحيان الى مجموعة من الرغبات و الميول النفسية و الحوافر الاجتماعية و الدوافع الذاتية والضغوط الخارجية. لذلك لابد من دراسة منهج التفكير الإنساني و أسلوبه من خلال الآفات التي تصب الفكر و تعطل حركته او تجعله مريضاً لا يفكر بالطريق الاستدلالية السليمة. ان استكشاف آفات التفكير يعطينا القدرة على استدراك الأخطاء التي نقع بها، و عندما نخضع لمنطق امكان الخطأ في اساليب التفكير و نعترف بذلك فأننا نستطيع أن نغير الكثير من اساليبنا في الحياة عبر تغيير اساليب التفكير.قال تعالى في كتابه الحكيم: ليدبروا آياته وليتذكر اولوا الالباب.
اليقين المطلق
وظيفة المعرفة هي الانتقال من المعلوم للوصول إلى المجهول عبر مجموعة من المقدمات التي يربط الفكر بينها و يستدل منها لأشباع نهمه في قطف الحقائق، لذلك عندما تتكامل هذه المقدمات يحصل على نتيجة تعطيه اليقين الذاتي. هذا اليقين قد يكون حقيقة عندما يتطابق مع الواقع لأن المستدل أتخذ الطرق العقلية السليمة في الاستدلال و هنا يكون يقينه سليماً معترفاً به لدى العقل و عرف العقلاء. و بعبارة أخرى اليقين السليم هو اليقين الذي يكون موضوعياً لا تتحكم فيه الظروف و المصالح العوامل الذاتية أي أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل بحد ذاته. و قد يكون يقينه و هما لا يتطابق مع الواقع لأنه استدل بمقدمات غير صحيحة أو توهم أنها صحيحة أو رغب لا شعورياً أن تكون صحيحة لذلك يصل إلى نتيجة هي يقين وهمي يتمسك به على أنه يقين مطلق. هذا اليقين الوهمي هو منشأ للكثير من الأسقام الفكرية و النفسية و الأمراض الأخلاقية و المشاكل السياسية و الاجتماعية مثل التعصب و الاستبداد و الغرور و النزاعات و الانشقاقات…
ان الإنسان ليس له آلة مجبرة تنتج الأفكار المطلقة، بل هو إنسان يمتلك مجموعة من الصفات المتضادة و الرغبات النفسية المتنازعة و المشاكل الروحية المقلقة، لذلك فأن هذا الإنسان قد يكون مصنعاً لإنتاج الأخطاء، و التاريخ الإنساني شاهد على ذلك. و على هذا فان اليقين الواقعي هو من أصعب النتائج الفكرية التي يمكن يصل اليها الإنسان.
أن اليقين الذاتي هو شعور داخلي لدى الفرد بأنه متأكد من هذا الشيء و هذا اليقين كثيراً ما يكون مضللاً، اذا أن شعورنا الداخلي قد لا يكون على أي أساس سوى ميولنا و اتجاهاتنا الذاتية، و هذا الأمر يزداد كلما ازداد الإنسان جهلاً او سيطرت عليه الرغبات النفسية بشكل اكبر فنلاحظ ان اكثر الناس يقيناً هم عادة اكثر الناس جهلاً، فالشخص الذي هو محدود الثقافة موقن بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة و قطعية صحة الاشاعة التي سمعها من الآخرين و بيقينية هذا الحلم الذي رآه في منامه ويرتب عليه اثارا في الخارج. لكن كلما ازداد المرء علماً تضاءل يقينه بالنسبة للكثير من الأمور و ازداد استخدامه لالفاظ مثل من المحتمل و من المرجع و أغلب الظن..، بل أن بعض العلماء قد لا تجد شيء يقيني يجزم به في كلامه و كتاباته لأنهم من خلال خبراتهم في الحياة يدركون أنهم مهما وصلوا إلى الحقيقة فأنه مجرد قطرة صغيرة من ذلك البحر المتلاطم المجهول، قال تعالى عزوجل: (وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون). العنكبوت 43
أن أحد أسباب ديمومة الفكر الشيعي و تطوره هو اسلوب تعامله مه اليقينييات، فليس كل ما وصل اليه الفقيه في استنباطه هو يقين او حكم واقعي مطابق للواقع بل قد يكون هذا الحكم خاطئاً لذلك يطلقون عليه اسم الحكم الظاهري أي أنه في ظاهر الحال حكم مستدل عليه وقد لا يتطابق مع الواقع وهوقابل للنقاش و التأمل. لذلك يسمى هذا أتباع هذا المنهج بالمخطئة أي أنهم يخطئون الفقيه و لا يعطون لفتواه و رأيه القدسية المطلقة. و ذلك هو عكس ما اتخذه أهل السنة من منهج أطلق عليه المصوبة الذين يرون كل ما رأه الفقيه واستبطه هو حكم واقعي يقيني ليس فيه خطأ.
أن ما يصنع حياتنا و يشكل ما هو ذلك النوع من التفكير العام في حياتنا اليومية، فكم من صدام و شقاق حصل لأن الأطراف تحاول ان تحتكر اليقين لنفسها و تجعله مقدساً لا يمكن النقاش فيه، و كم من شخص حاول أن يمنع الآخرين من التعبير عن آرائهم و استبد بالامر لوحده عندما ظن أنه هو صاحب اليقين المطلق و المقدس الذي أن تعرض لانتقاد يحكم على المتجرئين بانهم مارقين مرتدين.
أن أصحاب هذا المنهج العليل في تقديس يقينيياتهم بأسلوبهم هذا في مواجهة معارضيهم عرضوا كل الحقائق لتجريح و الهدم، فعندما يسيطر المستبد على الأمة و يفرض رأيه عليها يتكون رد فعل عكسي من الجماهير التي ترتد عن كل الحقائق و تضع خطوطاً حمراء على كل اليقينيات حتى الصحيحة منها و هذا التعميم الجماهيري في فهم الحقائق لا شك انه آفة فكرية أخرى.
أن الالتزام بمدرسة الحكم الظاهري في حياتنا اليومية أيضاً يمكن أن يحل الكثير من المشاكل المعقدة التي نواجهها. فليس كل ما نعرفه و نمتلكه من معلومات هو يقين و ليس كل يقين هو أمر يطابق الواقع، فاذا فكّرنا بهذا الاسلوب فاننا يمكن أن نكتشف الكثير من الحقائق و نصحح ما هو خطأ، بل ان استخدام النقد في اساليب الاستدلال يمكن ان يعطي اثباتاً إضافياً لقوة الشيء الذي نريد اثبات انه يقيني. و لا داعي للخوف من الدراسة النقدية و الفكرية لبعض المفاهيم و القيم لأن العقل السليم عبر استخدامه للمنهج السليم في الاستدلال لا شك سيقترب إلى النتيجة الواقعية. نعم قد يكون هناك من يستخدم الشك كأسلوب مغالطة مريض لهدم الاراء الاخرى بدون اتخاذه للاستدلال السليم و المنهجي المنظم و ذلك لكسب الشهرة و أثارة الفتن. و لكن النقد المنهجي الذي يستخدم الموضوعية هو تقوية لايماننا بمفاهيمنا و عقائدنا لانها لا شك تنسجم مع استدلال العقل السليم.
التفكير الارتغابي
هو نوع الذي توجهه الرغبات لا الوقائع و هو نقيض التفكير، الواقعي الذي يبذل جهداً في معرفة الوقائع ثم يقصر نشاطه العقلي عليها. و هذا النوع من التفكير من المشكلات الاساسية التي تعرقل حيوية الأمة و تقدمها بل أنه يقودها للتراجع و التخلف، لأنه:
التفكير الارتغابي: يرسم أفكار كل فرد أو جماعة و حسب مصالحه و أهدافه و بالتالي. فأن سلوكه الاجتماعي العام سوف يتشكل حسب هذا المنطلق لذلك تتعمق الانشقاقات و اللامبالاة و عدم تحمل المسؤولية و الأنانية.
التفكير الارتغابي: يرسم للإنسان واقعاً وهمياً يحلم به فيجعله يحلق من غير أجنحة حتى أن تيقظ سقط سقوطاً مريعاً، هذه الأفكار التي توجها الرغبات النفسية تحول الفرد إلى حالم بعيد عن الوقائع يعيش في اوهام تبعده عن مسؤولياته و تبرر له عزلته و انقطاعه، فعندما لا يستطيع الإنسان أو الأمة أن يواجه أزماته ينخرط في موجات التصوف و الرومانسية التي تجعله منسلخاً عن واقعه.
التفكير الارتغابي: لانه لا يتقيد بالواقع فأنه يشوه الرؤية و يجعلنا ننظر للخارج كما نريد لا كما هو في الواقع لذلك تبقى الكثير من المشكلات على حالها.