غول الفقر يطارد العمال
ٱ نقيب العمال الفلسطيني: توجهنا إلى جميع المنظمات العربية والدولية فلا حياة لمن تنادي
ٱ دوار نابلس : بطالة مرتفعة واجترار الآلام واحتساء الشاي والدخان
ٱ العمال يحاولون التأقلم مع الأوضاع الاقتصادية السيئة
أصبحت قضية العمال المطلبية والنقابية قضية ورأي عام ولم تعد قضية العمال وحدهم، ولا غرابة في ذلك حيث أن العمال يشكلون اللبنة الأساسية لبناء المجتمع، فهم وقود الثورة وحاميتها على امتداد الحركة الوطنية الفلسطينية وصراعها مع الاحتلال.
وفي هذا السياق، إذا ما أردنا الحديث عن العمالة الفلسطينية فإنها بلا شك تنفرد بخصوصيات تميزها عن العمالة العالمية، لما تتعرض له من ظروف قاسية وصعبة، موت بها خلال سنوات الانتفاضة، وما زالت الأعباء تتثاقل وتزيد وتتوالى عليهم، فحلمهم الكبير أصبح لا يتجاوز لقمة العيش.
فبالرجوع إلى ما قبل أحداث الأقصى بقليل، نرى أن هذه العمالة عانت العديد من المشاكل و الصعوبات لتوفير قوتهم اليومي، ليس بالدرجة التي نرى حالهم عليها في الأشهر الأخيرة.
فسابقا ربما كان الحال أفضل، وبما أن العناعة كنز لا يفنى فقد كانت العمالة الفلسطينية مقتنعة بسيرها على حبل الأمان والخوف، راضية عن تجاوزها الخطوط الحمراء والخضراء _ كما يسمونها الصهاينة_ لملء الأفواه المفتوحة في أعشاشها، هذا الجبل من النار الذي رقد يسقط عنه العامل فيموت وقد يتجاوزه فيحيى، أما الآن أصبح العامل الفلسطيني يواجه كارثة تجاوزت بيئته لتطال كل بيت فلسطيني، بل تهدد الاقتصاد الفلسطيني المعتمد على غيرة، ومع هذا يزيد العمال إصرار على تأمين لقمة عيش وأطفالهم الذين طالما حلموا بها مجازفين بحياتهم، مجتازين الحواجز العسكرية الإسرائيلية المنتشرة على أبواب المدن وعلى طول الخط الأخضر.
لعبة القط والفأر
وتبدو مناظر الجنود الإسرائيلية وهم يلاحقون العمال الفلسطيني عند الحواجز العسكرية والمناطق القريبة من الخط الأخضر، أشبه بلقطات فيلم سينمائي، وتبدأ لقطات الفيلم من المناطق القريبة من مدينة طولكرم بالضفة الغربية ومدينة الطيبة داخل الخط الأخضر، عندما يتحرك العمال ببطء وحذر شديدين بين أشجار الزيتون وبساتين الحمضيات متسللين خلف أكوام التراب العالية، ثم يفاجئهم الجنود الكامنون لهم بسيل من قنابل الغاز المدمع والرصاص المطاطي قبل أن يصرخوا عليهم ويدعوهم للتوقف أو العودة، أنه مسلسل "لعبة القط والفأر" بين الجنود والعمال الذين يسعون وراء لقمة عيشهم.
وما أن تهدأ الأمور حتى يعاود العمال الكرة مرة أخرى، وهكذا حتى تميل الشمس إلى كبد السماء معلنة اقتراب النهار من نصفه ويعودون صفر اليدين.

أحاول التأقلم مع المهنة الجديدة
تزداد الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها العمال الفلسطينيون يوما بعد يوم بفعل الحصار الاقتصادي والعسكري الذي يفرضه الجيش الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية منذ نهاية أيلول الماضي، مما حرم هذه الفئة التي تعتبر أكثر الفئات الفلسطينية تضررا ومنع أفرادها من الوصول إلى أماكن عملهم داخل إسرائيل.
وخلال تجوالنا في طرقات وأزقة مدينة نابلس كان "محمد بكري 33 عاما" يمشي بتثاقل المغلوب على أمره يجر عربة صغيرة يبيع عليها الخضار، وهي المهنة الجديد التي اتخذها لنفسه بعد أنه توقف عم عمله في إسرائيل منذ ما يقارب خمسة أشهر.
ومحمد كغيره من آلاف العمال الفلسطيني الذي تأثروا بشكل بالغ نتيجة الحصار والطوق الأمني المشدد الذي تفرضه إسرائيل على الضفة الغربية، بعد اندلاع الأحداث الدموية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويقول محمد أنه يحاول أن يتأقلم مع مهنته الجديدة بإصرار وتحدي.
ماذا أفعل؟
وقال محمد "ماذا أفعل؟ لم أجد غير هذه الوسيلة لتحصيل رزق عيالي، و قد استدنت ألف شيكل من أقارب زوجتي حتى أستطيع شراء العربة ولم أكن لأفعل ذلك لو كان الوضع كما كان عليه في السابق" . ويعمل محمد 12 ساعة يوميا ليحصل على ما قيمته 40 شكيلا أصبحت هي الدخل الوحيد لأسرته المؤلفة من خمسة أفراد بالإضافة إلى أمه وأخيه الصغير و هو الذي كان يحصل على 150 شيكلا يوميا عندنا كان يعمل في إسرائيل.

تفاقم البطالة
لا توجد إحصاءات دقيقة حول البطالة الموجودة في الأراضي الفلسطينية، غير أن الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين قدرها بنسبة تزيد عن 44 في المئة، وأن العمال الذين فقدوا عملهم نتيجة الإغلاقات يزيد عن 120 ألف يضاف إليهم العمال الذين يعملون بالضفة الغربية و قطاع غزة، ولا يدخل في هذا الرقم العمال غير النظاميين، ونظرا إلى أن كل عامل يعيل عددا آخر من الأفراد فهذا يعني أيضا أن أكثر من مليون فلسطيني يعانون خسائر فادحة في مدخولاتهم وهو ما يقارب ثلث الشعب الفلسطيني.
وأكد الأمين العام لإتحاد نقابات فلسطين شاهر سعد أن أوضاع العمالة الفلسطينية ازدادت صعوبة في الأونة الأخيرة مع استمرار الحصار، وأن من يشاهد أسواق المدن الفلسطينية الخالية يلمس مدى صعوبة هذه الأوضاع ويلاحظ الأذى الذي لحق بالفلسطينيين بشكل عام، وخصوصا فئة العمال الذين اضطروا إلى بيع ذهب نسائهم و محتويات منازلهم لتوفير لقمة العيش لأبنائهم.
وأضاف سعد أن العمال هم أشد الفئات تضررا بعد أسر الشهداء و الجرحى، وأن خسائر العمال الفلسطينيين بلغت حتى الآن _________________________________



لا يوجد بيع
ويقول أحمد عبد الفتاح صاحب أحد بسطات لبيع الأدوات المنزلية في دوار نابلس، وقد جلس على الأرض لبيع ما بحوزته من يتابع الأخبار عبر جهاز راديو "ونحن أيضا يمكن أن تحسبنا عاطلين، فكما تري لا يوجد بيع، والشراء كما ترى ضعيف جدا لم نشهده بالمرة منذ سنين".
كما عبر العامل الفلسطيني يوسف علي من إحدى قرى نابلس عن بالغ سخطه حين ضرب كفا بكف وردد "تيتي تيتي زي ما رحتي جيتي" في إشارة لتردده على دوار نابلس منذ بداية الانتفاضة بحثا عن لقمة عيش لأطفاله لكن دون جدوى.
ويؤكد أحد العمال أنه والمئات من زملائه لم يخطوا حتى الآن فرصة عمل، وباتوا يشربون الشاي والقهوة والدخان وسط دوار نابلس على أمل أن يحصلوا بتلك الفرصة.

أم أظفر إلا بيومي عمل
ويضيف عامل م.ي من سكان مدينة نابلس "38 عاما" وهو أب لسبعة أطفال أنه لم يظفر إلا بيومي عمل منذ اندلاع الانتفاضة وفرض الحصار على الأراضي الفلسطينية، ويقطع حديثة عاملا آخر قائلا "في أيام الخير لم نعمل فما بالك في هذه الأيام، نحن نعتمد على عملنا على هذه المنطقة و لا نحصل على تصاريح بسبب قيود أمنية إسرائيلية، يتهم العامل أصحاب الورشات المحلية بالاستغلال ويقدمون لهم أجورا متدنية لا توازي جهدنا وتبعنا". ويتراكض عشرات العمال على دوار الشهداء في نابلس باتجاه سيارة محلية يطلب صاحبها عامل أو اثنين لانجاز عمل مؤقت ليوم واحد، ويظفر بهذه الفرصة "سعيد الحظ".

لا حياة لمن تنادي:
ويقول سعد أن السلطة الفلسطينية لم تتسلم أي معونات من الدول العربية وأن جميع التبرعات تصل إلى مؤسسات أهلية وليس للسلطة مما يخلق فوضى في إيصال المعونات إلى مستحقيها منوها إلى أن السعودية هي الدولة الوحيدة التي قدمت دعما للسلطة.
وحول إمكانية تقديم توجيهات للمنظمات الدولية بالنسبة للمشاكل التي يعاني منها العمال قال النقابي الفلسطيني "لقد قمنا بتقديم توجيهات إلى منظمة العمل الدولية وإلى الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي أنان إلا أنه لم يسلنا منهم أي تعليقات".
وبذلك يعبر عن سخطه قائلا "لا حياة لمن تنادي".

إجراءات تخفيف المعاناة
وعن الحلول التي قدمتها السلطة من خلال بعض المعونات أوضح سعد أن توزيع بملغ 600 شيكلا لكل عامل يكاد أن لا يسد رمقه إلا أن هذا المبلغ لم يصل إلى جميع العمال بل نسبة قليله منهم، ويحصل العامل على هذه المبلغ بعد قيامه بتعبئة استبانه، ثم ترفع إلى مكتب الرئيس في غزة، ويتم هناك اختيار جزء من هذه الأسماء، ويضيف أن من نابلس وحدها وصل عدد العمال المتقدمين نحو ثمانية آلاف عامل.
وأشار مدير مكتب العمل في نابلس طارق السامري إلى أن الاتحاد العام لنقابات العمال قام ببعض الإجراءات للتخفيف عن العمال ومنها تزويدهم بتأمين صحي مجاني وتوزيع مواد غذائية عليهم، وأعرب عن اعتقاده أن المساعدات التي قدمت للعمال حتى الآن لا تكفي و خصوصا أن الحديث يدور عن 260 ألف عامل فلسطيني تضررا بشكل مباشر من الحصار و الإجراءات الإسرائيلية.
وقال سعد "طالبنا بضرورة توجيه الاستثمارات العربية والإسلامية لدعم الفلسطينيين حتى لا تبقى وهينة لسوق العمل الإسرائيلي. كانت هناك خطة لتشغيل 50 ألف عامل فلسطيني في دول الخليج العربي بشروط و ليس على أساس الهجرة، إلا أن هذه الخطة لم تنجح بسبب الانتقادات و تندرج في إطار عملية تهجير لهؤلاء العمال".
ونوة "إلى أنه ما لم يكن هناك استثمار عربي إسلامي في فلسطين فلن يكون هناك استغناء عن سوق العمل الإسرائيلي الخمس عشرة سنة القادمة".
إلى متى؟
هذا ما يتعرض له العامل الفلسطيني في مشوار كفاحه للقضاء على هذا الغول الذي يرحم عندما يلتهم، وما من أحد يقف في وجهه قائلا اقتلوه ... أو أوقفوه، ويبدو أن هذه الحياة تتصف بالغموض فحالة كحال السائر إلى عالم المجهول تلسبه الغيوم السوداء التي لا يظهر بارقة أمل أو شعاع مضيء ينذر بانبعاث الأمل والخلاص من هذه المصيبة التي باتت تثقل كاهله، وتقلب حياته إلى جحيم لا يطاق، فهو كالذاهب إلى البحر ليعود ظمآنا وكحنين المسافر الذي تأمل بتجارة فعاد صفر اليدين، فهل من منقذ؟
وهل هناك من يستطيع التنبؤ بمستقبل أفضل؟ وإلى متى سيستمر هذا البؤس والظلم؟ ومتى يقرع الجرس منذرا بموت هذا الغول؟.