يمكننا تحديد مفهوم التنمية الشاملة على أنها: (عملية تحول تاريخي متعدد الأبعاد، يمس الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما يتناول الثقافة الوطنية، وهو مدفوع بقوى داخلية، وليس مجرد استجابة لرغبات قوى خارجية، وهو يجري في إطار مؤسسات سياسية تحظى بالقبول العام وتسمح باستمرار التنمية، ويرى معظم أفراد المجتمع في هذه العملية إحياء وتجديداً وتواصلاً مع القيم الأساسية للثقافة الوطنية).
وهكذا فالتنمية الشاملة تسعى لتحقيق أهداف ونتائج في مختلف جوانب الحياة أهمها:
أولاً – الأهداف الاقتصادية:
1 ـ زيادة إنتاجية العمل.
2 ـ تغيير الأهمية النسبية للقطاعات الرئيسة في الاقتصاد الوطني. أي زيادة الأهمية النسبية لقطاعات الصناعة والخدمات، وتراجع الأهمية النسبية لقطاع الإنتاج الأولي، سواء من حيث العمالة، أو من حيث المساهمة في توليد الدخل القومي، والإنتاجية أو في تحقيق القيمة المضافة، وذلك باستبعاد أن يكون توسع قطاع الخدمات غطاء لبطالة مقنعة.
3 ـ تزايد الاعتماد على المدخرات المحلية كمصدر للاستثمار.
4 - تنمية القدرة المحلية على توليد التكنولوجيا وتوطينها واستخدامها بالرغم من التوجه الحالي نحو عولمة الاقتصاد.
5 ـ محاربة الفقر وتراجع حدوده وحدته، وهذا يتم عن طريق تراجع التفاوت في توزيع الدخل والثروة في المجتمع.
ثانياً - الأهداف الاجتماعية:
1 ـ تحسين مستويات التعليم والصحة والرفاهية عموماً لكافة المواطنين.
2 ـ زيادة الاهتمام بالطبقة المتوسطة، والطبقة العاملة.
3 ـ زيادة نسبة الخبراء والفنيين والعلماء في القوى العاملة.
4 ـ تزايد مشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي وفي مجالات الحياة العامة.
5 ـ تعميم قيم حب المعرفة وإتقان العمل.
6 ـ تنمية الثقافة الوطنية.
ثالثاً - الأهداف السياسية، توصف التنمية الناجحة بأنها تؤدي إلى ظهور دولة قوية ومجتمع قوي، فيتمتع جهاز الدولة من ناحية بالاستقلال النسبي في صنع وتنفيذ سياساته في كافة المجالات، وذلك في مواجهة القوى الاجتماعية الداخلية والقوى الخارجية، وأن يحظى في نفس الوقت بالقبول من جانب أغلبية المواطنين فلا يعتمد على القهر أساساً لإنقاذ سياساته، والمجتمع القوي هو الذي يتمتع أفراده وجماعاته بقدر واسع من الحرية في القيام بأنشطتهم الخاصة والعامة في إطار قواعد عامة عقلانية مقبولة منهم على نطاق واسع وموضع احترام من جانب هذه الدولة. وهكذا، فمن الناحية السياسية يمكن القول بأن التنمية تعني تواجد الدولة التي تتمتع بالفعالية إلى جانب المجتمع المدني، وذلك دون أن يعنى المجتمع المدني كما يشيع البعض نبذ العقائد الدينية، وإنما يقوم مثل هذا المجتمع على احترام حرية الاعتقاد لكافة أفراده). هذه هي الأبعاد الثلاثة الرئيسة للتنمية الشاملة: البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي والبعد السياسي، قد لايكون البعد الاقتصادي هو أهمها، لكنه قد يكون أكثرها تحديداً وتأثيراً على الأبعاد الأخرى.

إن التنمية الشاملة الجديرة بجهد الأجيال العربية وتضحياتها تتمثل بعدد من المضامين أبرزها:
- رفع مستوى الأداء الاقتصادي أي رفع مستوى الإنتاجية وزيادة حجم الإنتاج القومي ضمن نمط قطاعي متوازن قدر الإمكان وتطوير قدرة البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية.
- تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين .
- توفير فرص العمالة المنتجة وخفض البطالة الظاهرة منها والمقنعة .
- إصلاح نظم توزيع الدخل في كل قطر عربي.
- تحقيق مشاركة شعبية واسعة في مسيرة التنمية .
- تقليص الفجوة التنموية فيما بين الأقطار العربية.
إن عملية التنمية تحتاج إلى تراكم لرأس المال يتزايد باستمرار، حين يجب أن يتم استخدام كامل مدخرات الأفراد والمجتمع عن طريق خلق فرص كافية للاستثمار، (قد تكون الدول العربية الغنية بالنفط لا تعاني من هذا النوع من الصعوبات وهي السعودية، الكويت، ليبيا، الإمارات العربية المتحدة، قطر ، البحرين، الجزائر ، العراق) إلا أن بقية الدول العربية تواجه هذه المشكلة التي تتفاوت حدتها من دولة إلى أخرى. والسبب الأساسي في ذلك أن غالبية المجتمع في الدول العربية على حالة من الفقر لا تسمح لهم مجرد التفكير بالادخار. مع العلم أنه كلما اشتد الفقر في أي قطر عربي، اشتدت الحاجة في هذا القطر إلى ادخار وتراكم رأس المال لخلق فرص استثمار جديدة، (إلا أنه كلما اشتد فقر الدولة تعذر على الشعب أن يدخر، ومن أهم واجبات التنمية الاقتصادية أن تكسر هذه الحلقة المفرغة. والطريق الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة هو استخدام عوائد النفط في تمويل عملية التنمية.
إذا كان معدل الدخل الفردي في بلد ما منخفضاً لا يتجاوز 500 دولار سنوياً، فإن ذلك يعني أن ليس هناك ثروات كبيرة يملكها بعض المواطنين، إن العمال والفلاحين في الوطن العربي لا ينالون كدخل فردي إلى أدنى درجات المعدل الوسطي، بينما يتمتع أفراد الطبقات الغنية بدخل مرتفع ، يمكن استخدامه في تمويل عملية التنمية الاقتصادية. إلا أن هذا لا يحدث عملياً. لأن الأغنياء من الملاكين ينفقون الدخل الذي يحصلون عليه في شراء الكماليات المستوردة، وفي اقتناء الأثاث الفاخر، وفي تسديد أجور ونفقات الخدم والرحلات الترفيهية، في حين كان المفروض أن تنفق هذه الأموال في المشاريع التنموية التي تساعد البلاد في تطورها وتقدمها.
الإنسان هو الثروة الاقتصادية الأولى لكل مجتمع:
يعد الإنسان الثروة الاقتصادية الأولى لكل مجتمع من المجتمعات وأساس تقدمه الاقتصادي والاجتماعي لأنه محور كل نشاط اقتصادي، والإنسان هو المنتج عندما يبذل الجهد ويقوم بالعمل ويستخدم طاقاته الذهنية والجسدية، وهو المستهلك عندما يقوم باستهلاك السلع والخدمات التي تلبي حاجاته ورغباته، وهو مستثمر عندما ينتج وسائل الإنتاج الجديدة. والإنسان هو كل فرد في المجتمع هو السكان.
من الضروري الاهتمام بالمؤسسات التي يكتسب الأفراد من خلالها المهارات والكفايات التي يحتاج إليها للقيام بالعمل، والتركيز هنا يقع على ثلاث مؤسسات، أساسية:
1 - الأسرة،
2 - المدرسة
3 - ومنظمات الاستخدام .
مما يلي مرحلة زراعة مجموعة من الأشجار، هناك مرحلة الإنتاج الخاصة بالكفايات المطلوبة، وهي المرحلة الأطول، فبعض الاختصاصيين من الأطباء لا يكملون تدريباتهم حتى سن الثلاثين، فيكون إعدادهم، إذن أطول وسطياً من فترة عملهم، وهنا يوجه الاهتمام إلى متغيرين أساسيين في تطور المهارات : تأثير الأسرة في مطامح وتطلعات أبنائها، وقدرة المدرسة ومنظمات الاستخدام على صقل وتطوير هذه التطلعات.
إن الاهتمام بالقوى العاملة لا يقتصر على تحديد حجم وتركيب هذه الموارد وإنما يشتمل أيضاً كيفية توزيعها واستخدامها . ويستخدم عادة في هذا المجال ميزان موارد القوى العاملة الذي يحدد مصادرها ومجالات الاستخدام .وتظهر في هذا الميزان بصورة أساسية مصادر تدفق العاملين إلى المؤسسات الإنتاجية والمرافق التابعة للقطاع غير الإنتاجي وعدد الدارسين في سن المقدرة على العمل أو الفنيين في مرحلة التأهيل . بالإضافة إلى المزاولين في الاقتصاد المنزلي والقطاعات الهامشية ، كما يوضح لنا هذا الميزان التناسبات في توزيع القوى العاملة بين الحالات المنتجة وغير المنتجة وبين المدينة والريف وحسب فروع الاقتصاد الوطني والطبيعية الاجتماعية لهذا التوزيع أي بين القطاع العام والخاص والتعاوني والمشترك.
" ولابد هنا من الإشارة إلى أهمية توزيع موارد القوى العاملة بين القطاعات المنتجة وغير المنتجة والعلاقة المتبادلة والتناسب الأمثل فيما بينها . فمن المعلوم أن تطور القطاعات غير المنتجة يعتمد على تطور القطاعات المنتجة ، وبصورة أساسية على مستوى إنتاجية العمل في هذه القطاعات وحجم الفائض الاقتصادي الذي يستخدم جزء منه لتغطية الإنفاق في القطاعات غير المنتجة .ومن ناحية أخرى فإن تطور القطاعات المنتجة يتوقف على تطور القطاعات الأخرى مثل الصحة والتعليم التي تضمن تطور العنصر البشري من الناحية الأيديولوجية والمهنية باعتباره القوة الأساسية المنتجة في المجتمع . إن تطوير مجال الخدمات مثل السكن ومرافق العناية بالأطفال يهيئ الشروط لكي تقوم المرأة بكامل وظيفتها في عملية الإنتاج الاجتماعي وبالتالي الاستغلال الأمثل للموارد البشرية . إن التناسب الأمثل لمصادر القوة العاملة بين القطاعات المنتجة وغير المنتجة يتوقف على طبيعة ومستوى التطور الاقتصادي . ففي مرحلة معينة يتطلب الأمر زيادة عدد العاملين في القطاعات المنتجة بسبب انخفاض المستوى التقني لوسائل الإنتاج . إلا أن عملية التحديث اللاحقة تساعد على الاستغناء عن قسم من العاملين في الإنتاج المادي وتحويلها إلى قطاع الخدمات ، إن مثل هذا التحديث يقود إلى تغيير العلاقة بين رأس المال والعمل من خلال التخفيض اللازم في قوة العمل ، كما يساعد تخفيض نفقات الجهاز الحكومي من خلال تبسيط وعقلنة عمل هذا الجهاز على إنجاز هذه المهمة ".
وتعد مسألة توزيع القوى العاملة بين قسمي الإنتاج أي بين القسم الذي ينتج وسائل الإنتاج والقسم الذي ينتج وسائل الاستهلاك،واستخدامها بين مختلف فروع الاقتصاد الوطني(زراعة ـ صناعة ـ خدمات) مسألة في غاية الأهمية. ولابد من التوازن في توزيع القوى العاملة لأن التركيز على الصناعات الاستهلاكية مثلاً لا يضمن استمرارية عمل الإنتاج الاجتماعي ولابد من تخصيص قسم من القوى العاملة للاستخدام في الصناعات التي تنتج وسائل الإنتاج مع التأكيد على الدور المميز الذي يقوم بـه هذا القسم(القسم الخاص بإنتاج وسائل الإنتاج ) في تطوير المستوى المهني للعامـلين فـيـه وضـمـان وجود القوى العاملة المتخصصة في هذا المجال .ويقوم الأجر بدون الحافز المادي في التوزيع العقلاني والسليم للقوى العاملة بين القطاعات والأقاليم ، وفي خلق الكوادر الأساسية وتزويد القطاعات الاقتصادية بالقوى العاملة المتخصصة ، وفي تحديد الأجر يؤخذ بعين الاعتبار وقت العمل وكثافته وشروط تنفيذه ليتم تحقيق التطابق بين الأجر وكمية العمل ونوعيته .
- الثروة الحقيقية للمجتمعات هى الثروة البشرية:
الثروة الحقيقية للمجتمعات هى الثروة البشرية ، والموارد الحقيقية هى الموارد البشرية ، لأنه مهما كانت مقومات الثروة الأخرى متوافرة فإن تعظيمها أو هدرها يتوقف على طبيعة العنصر البشري . والحديث عن العنصر البشري يعنى الحديث عن التعليم والمؤسسة التعليمية .
وقد شهد العالم فى الآونة الأخيرة تطورات هامة فيما يتعلق بأشكال وأساليب التعليم والتعلم ، وهناك اهتمام متزايد بدور الأسرة والأم ، وتركيز على الدورات والبرامج التدريبية ، وأيضاً مفهوم المدرسة بدأ يتغير ، ولم يعد التعليم يتم بالشكل التقليدي ولكن هناك أدوات وأشكال مختلفة فى إطار ما يطلق عليه عمليات التعلم ، وهذه كلها قضايا هامة ، وقد أصاب مشروع المنتدى العربي للتنمية البشرية فى الاهتمام بها، إلا أن المؤسسة التعليمية ظلت غائبة فى المشروع المقدم، ومن وجهة نظرى فإنه رغم كل ما تطرحه العولمه من تعقيدات فإن المؤسسة التعليمية مستمرة ، ولابد من الاستفادة منها إلى أن يحدث خلال الربع قرن القادم عملية إحلال لها ، والقضية الرئيسية هنا هى كيف يمكن المزج بين التعليم والتعلم ، ونقطة الإنطلاق فى هذا الخصوص هى مواجهة الواقع وكشف مساوئه ، وأكثر ما يدعو للخوف هو الحلول غير الواقعية، والوقوف عند الجوانب الشكلية لتطوير وتحسين أداء المؤسسة التعليمية وتجاهل الفاعلية الحقيقية ، وأيضاً من الأهمية عدم تجاهل ما تم إنجازه من بحوث ودراسات على الصعيد العربي فيما يتعلق بتطوير المؤسسة التعليمية ، وعلى سبيل المثال فإن الجامعة العربية لديها دراسات حول استراتيجية التنمية وتطوير استراتيجية التربية ، وتطوير استراتيجية العلوم ، ولديها دراسات حول استراتيجية التربية قل المدرسة ، واستراتيجية تطوير التعليم العالى . كل هذا الجهد مازال حبيس الأدراج ، وهو بحاجة لإلقاء الضوء عليه ، وأحياؤه مجدداً ، لأنه قد يمثل حجر الأساس لمشروع تنموي انطلاقاً من تطوير التعليم ، وتعميق التعلم.
وتقاس نوعية القوى العاملة من خلال انتشار التعليم وتحسين مستويات التدريب ومن خلال توفر المهارات والكفاءات في المجتمع، وتتصف القوى العاملة العربية باستمرار تركز العامل في المراتب الدنيا من السلم المهني ونقص نسبي في الحلقات الأعلى التي تتطلب إعداداً نظريا وعمليا. كما تتصف القوى العاملة المعروضة في أسواق العمل العربية بارتفاع نسبي بعدد العاملين في الوظائف المكتبية والديوانية وارتفاع نسبة العمالة غير الماهرة في قطاع الإنتاج والتشييد والنقل.


مصطفى عبد الله الكفري