حمل إلينا علم البلاغة قصة ظريفة تندرج تحت علم التشبيه بفرعيه المقبول والمردود. قوم يجلسون في واحة وسط الماء فأراد أحدهم أن يؤرخ ذلك شعراً فقال: ''كأننا والماء من حولنا .. قوم جلوس وحولهم ماء''. ضحك الحضور بعيد أن فاضت قريحة هذا الشاعر الظريف من باب البلية بما وصل إليه علم البلاغة في إيضاح الحال وبيانه. لم يتمالك أحد الحاضرين هذا التشبيه الظريف فرد ببيت شعر اندرج تحت مظلة الأمثال قائلاً: أقام بجهد أياماً قريحته .. وفسر الماء بعد الجهد بالماء.

أعيد قراءة فرع التشبيه من علم البلاغة متزامناً مع قراءة ما نشر حتى اليوم حول برنامج تحفيز المنشآت لتوطين الوظائف ''نطاقات'' الذي أعلنته وزارة العمل مطلع الشهر الحالي تمهيداً لإطلاقه بعد ثلاثة أشهر. أعيد هذه القراءة المتوازية وأتساءل: هل سترتقي نتائج برنامج ''نطاقات'' إلى تطلعات العملية التنموية السعودية في تطوير الكوادر الوطنية وتهيئتها للمساهمة بفاعلية في العملية التنموية السعودية؟
إنه من الأهمية بمكان توضيح أربعة محاور تشكل في مجملها إطار الحديث عن نتائج برنامج ''نطاقات''. المحور الأول تعريف الفرق بين مصطلح ''السعودة'' و''توطين الوظائف'' و''توطين الخبرات'' التي تظهر دائماً عند الحديث عن تطوير الكوادر الوطنية وتهيئتها ضمن العملية التنموية السعودية. يشير دليل مجلس القوى العاملة إلى أن مصطلح ''السعودة'' يعني قصر العمل على السعوديين، بينما يعني مصطلح ''توطين الوظائف'' استبدال العمالة الوافدة بعمالة سعودية وفق مراحل تدريجية ذات جوانب كمية من حيث العدد، ونوعية من حيث المهن والقطاعات. والمقصود بمصطلح ''توطين الخبرات'' التدرج في إكساب العمالة السعودية المعرفة الفنية من العمالة الوافدة عن طريق الاحتكاك والمسؤولية.

تقودنا هذه المصطلحات للانتقال إلى المحور الثاني من محاور الحديث عن نتائج برنامج ''نطاقات'' المتمثل في طبيعة المهام التي تؤديها المنشآت الاقتصادية الخاصة والعامة. تنقسم هذه المهام بشكل عام إلى أربعة أنواع متباينة الطبيعة والتأثير في مستقبل هذه المنشأة أو تلك. الأولى مهام ''القيادة'' وتضم مهام إدارة دفة المنشأة، كالتخطيط، والسياسات والتدقيق الداخلي. والثانية مهام ''التحكم'' وتضم مهام توجيه الموارد المالية وغير المالية للمنشأة، كالموارد البشرية والمالية والمخاطر. والثالثة مهام ''المبيعات'' وتضم مهام التمثيل الخارجي للمنشأة، كالمبيعات، وخدمة العملاء، وتطوير المنتجات. والرابعة مهام ''البنية التحتية'' وتضم مهام توفير البنية التحتية للمنشأة لتمكينها من أداء عملها، كتقنية المعلومات والعمليات والشؤون الإدارية.

لا يمكن الحديث عن نتائج برنامج ''نطاقات'' دون الحديث عن المحور الثالث من محاور المقال، المتمثل في رؤية ''استراتيجية التوظيف السعودية'' وأهدافها الموافق عليها بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 260 وتاريخ 5/8/1430هـ، ونصت رؤية الاستراتيجية على ''توفير فرص عمل كافية من حيث العدد، وملائمة من حيث الأجر، تؤدي إلى توظيف كامل للموارد البشرية السعودية، وتحقق ميزة تنافسية للاقتصاد الوطني''. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق ثلاثة أهداف مرحلية. الأول ''التوظيف الكامل لقوة العمل'' بحلول منتصف 2011 من خلال عشر سياسات و43 آلية. والثاني ''زيادة مستديمة في مساهمة الموارد البشرية الوطنية'' بحلول منتصف 2014 من خلال عشر سياسات و43 آلية. والثالث ''الارتقاء بإنتاجية العامل الوطني'' بحلول منتصف 2034 من خلال ست سياسات و16 آلية.

ينساب سياق المقال إلى محوره الرابع، المتمثل في النظر في أهداف برنامج
''نطاقات'' ومعاييره الجديدة والملزمة لتقييم منشآت القطاع الخاص في توطين الوظائف. يهدف برنامج ''نطاقات'' إلى تحقيق هدفين رئيسين. الأول استخدام معدلات توطين الوظائف كميزة تنافسية بين منشآت القطاع الخاص تؤهل المنشآت الملتزمة للحصول على حزمة من التسهيلات والمحفزات. والآخر خلق قدر من التوازن بين مميزات التوظيف للعامل الوافد والعامل السعودي من خلال رفع تكلفة الاحتفاظ بالعمالة الوافدة في المنشآت ذات معدلات التوطين المتدنية.
سيتجه برنامج ''نطاقات'' إلى تصنيف الأنشطة الاقتصادية في منشآت القطاع الخاص إلى 41 نشاطا مقسما إلى خمسة أحجام ليصل الإجمالي إلى 205 شرائح. ثم يتم حساب معدل نسبة التوطين في كل شريحة على حدة. ويتم تصنيف منشآت القطاع الخاص إلى أربعة نطاقات ملونة. الأبيض للمنشآت ذات نسبة توطين مرتفعة جداً. والأخضر للمنشآت ذات نسبة توطين مرتفعة. والأصفر للمنشآت ذات نسبة توطين متوسطة. والأحمر للمنشآت ذات نسبة توطين منخفضة. وعلى الرغم من أن وزارة العمل لم تعلن عن النسبة الفيصل في التصنيف بين هذه النطاقات الأربعة، إلا أن البوادر تقود إلى استخدام ما يعرف بمنهجية ''المنحنى'' للتصنيف بين هذه النطاقات. وهذه المنهجية ستضع أوزانا قليلة للنطاقين الأبيض والأحمر وتوزّع الأوزان الباقية على النطاقين الأخضر والأصفر معتمدة على أن الفيصل بينهما هو معدل نسبة التوطين في الشريحة الاقتصادية الواحدة.

ولعل استخدام مثال نشاط المأكولات السريعة يوضح نسبة السعودة ونسبة التوطين قبل برنامج ''نطاقات'' وبعده. والدوافع ثلاثة خلف استخدام نشاط المأكولات السريعة كمثال توضيحي. الأول أن هذا القطاع يندرج تحت قطاع الجملة والتجزئة المشغل لأكبر نسبة من العمالة الوافدة والوطنية حسب البحث الاقتصادي السنوي الأخير للمؤسسات الصادر من مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات. حيث يشغّل قطاع الجملة والتجزئة 29.6 في المائة من القوى العاملة في السوق السعودية. والثاني ما يوفره نموذج المطاعم السريعة من مزيج متجانس من الخبرات المهنية المتنوعة. والثالث التشجيع الذي يحظى به قطاع المأكولات السريعة بظهور وزير العمل السابق الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - مرات عديدة يعمل في هذا القطاع، وقدوم وزير العمل الحالي المهندس عادل فقيه من القطاع ذاته من خلال العمل في شركة صافولا المالكة لسلسلة مطاعم هرفي للمأكولات السريعة.

تشير الإحصاءات إلى أن عدد العاملين اليوم في سلسلة مطاعم هرفي يبلغ 2157 عاملا بنسبة سعودة تبلغ 30 في المائة. كما تشير الإحصاءات إلى أن عدد العاملين نهاية آذار (مارس) الماضي في السلسلة المنافسة سلسلة مطاعم ماكدونالدز السعودية يبلغ 1680 عاملا بنسبة سعودة 27 في المائة. وإذا افترضنا أن هذه الشريحة الاقتصادية تضم فقط هاتين السلسلتين، فإن ذلك يعني أن معدل نسبة التوطين في هذه الشريحة الاقتصادية بعد تطبيق برنامج ''نطاقات'' سيكون 28.5 في المائة عبارة عن مجموع نسبتي السعودة أعلاه مقسومة على اثنين. وإذا افترضنا أن برنامج ''نطاقات'' سيطبق منهجية ''المنحنى'' للفصل بين النطاقين الأخضر والأصفر بمعدل نسبة التوطين في الشريحة الاقتصادية الواحدة، فهذا يعني أن كلتا السلسلتين ستكونان في النطاق الأخضر لقربهما من معدل نسبة التوطين في هذه الشريحة الاقتصادية. وبالتالي، فإن النظرة لهاتين السلسلتين ستتطور من منشآت اقتصادية ذات نسبة سعودة منخفضة إلى منشآت اقتصادية ذات نطاق أخضر.

يقودنا سياق المقال إلى العودة إلى السؤال أعلاه: هل سترتقي نتائج برنامج ''نطاقات'' إلى تطلعات العملية التنموية السعودية في تطوير الكوادر الوطنية وتهيئتها للمساهمة بفاعلية في العملية التنموية السعودية؟ الإجابة من الأهمية أن تكون منطلقة من رؤية ''استراتيجية التوظيف السعودية'' وأهدافها ومعايير قياس أداء تنفيذها. حيث يتوقع أن تسهم نتائج برنامج ''نطاقات'' بشكل رئيس في تحقيق الهدف الأول، ''التوظيف الكامل لقوة العمل''، وبشكل كمي ثانوي في تحقيق الهدف الثاني
''زيادة مستديمة في مساهمة الموارد البشرية الوطنية''، وبشكل معدوم النوعي في تحقيق الهدف الثالث، ''الارتقاء بإنتاجية العامل الوطني''. يدعونا ذلك إلى التأكيد على أن تحقيق ميزة تنافسية في مجال الموارد البشرية الوطنية للاقتصاد الوطني لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على الكم فقط دون النوع. والنوع في هذا السياق يعني التأكيد على ضمان أن يوفّر للعامل السعودي مسارا مهنيا مزدوجا عموديا يكفل صعوده التدريجي من مراتب السلم المهني الدنيا إلى العليا، وأفقي يكفل مروره الفني من المهام التشغيلية إلى التنفيذية، على المدى الطويل. عندها يمكن القول إننا ارتقينا بإنتاجية العامل الوطني وحققنا ميزة تنافسية للاقتصاد الوطني.

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.