أقدم هذه التذكرة لنفسى المقصرة أولا ، ثم لحضراتكم ، و نحن على أعتاب شهر رمضان .. الذى يأتينا بركة و خير ، فيه يغشى الله عباده، فينزل الرحمة ، و يحط " يمحو " الخطايا ، و يستجيب الدعاء ، و ينظر الله عز و جل فيه إلى تنافس العباد فى الخير ، و يباهى بهم الملائكة، و استنادا على ما تقدم، يطلب منا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نٌرى الله من أنفسنا خيرا .

سأركز بعون الله تعالى ، فى هذا الموجز ، على الدعاء كأحد أبرز علامات القرب من الله تعالى ، و أحد أهم مظاهر اللجوء إليه سبحانه ، خاصة و أن ذكر الدعاء و التوسل إلى الله جاء مقترنا بفرضية الصيام فى كتاب الله تبارك و تعالى بصورة تجعل العبد يفكر مليا فى مثل هذا الترابط و الاقتران إذ لابد أن يأتى من خلاله خير كثير على مستوى الفرد أو المجتمع بأسره.
فى وسط آيات الصيام التى جاءت فى سورة البقرة تفرض و تضع أحكاما لهذا الركنا لركين فى دين الله عز و جل ، جاءت آيه الدعاء لتقول للصائمين الموحدين : أنتم فى صيامكم قريبون من ربكم ،فادعوه يستجب لكم ، و عندما ترزقون الإجابة من الله على دعائكم فأنتم لابد راشدون فى حياتكم سياسة و اقتصادا ، علما و اجتماعا ، و كل نواحى حياتكم .. لأنكم أول ما آمنتم ، آمنتم بأن الأمر كله لله و عليه فقد سلمتم أموركم كلها لله موقنين بأن قلوب العباد بين إصبعين فى كف الرحمن يقلبها كيف يشاء .
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185).وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)"
جاءت الآيات هكذا فى كتاب الله ، و جاءت أحاديث رسوله تدعو العباد إلى إحقاق معنى العبودية لله بدعائه و التضرع بين يديه سبحانه ، و التذلل على عتبات رضاه ، فخبرنا رسوله و نبيه ، فيما يرويه الترمذى :
" ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حين يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، وتفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين "
ربما يأخذنا الحديث جانبا ، لكنه قريب من موضوعنا نعرج من خلاله على أثر الدعاء فى حياة الأمة ، كمجتمع و أفراد ، خاصة فى عصرنا الحديث ، عندما نقارن أنفسنا و أوضاعنا الحضارية بغيرنا من الأمم . المسافة جد واسعة فجة تنبىء بتخلفنا و تقدمهم ، رغم ما يقال أن بلادنا العربية و الإسلامية قد أخذت بأسباب النهوض و التقدم منذ خمسينيات القرن الماضى مع دول مثل كوريا ج أو ماليزيا فتقدم غيرنا ، و تراجعنا نحن !! لما .. ما السبب ...لماذا حدث ما كنا لا نرجو حدوثه ؟! أقول لك بعد تفكر و تمحيص ، و مراجعة للأسباب و " النوايا " أنه عند الأمة المؤمنة صاحبة الرسالة الخاتمة ، لا يكفى الأخذ بالأسباب المادية وحدها لصنع تقدم و حضارة ، و لو بذل ساستها و أبناؤها جهدا جهيدا فى تحصيل تلك الأسباب على خلاف السنن الكونية الحاكمة لهذا النموذج فى صناعة الحضارة البشرية عند أمم غير الأمة الخاتمة و صاحبة الرسالة الأخيرة إلى العالمين أجمعين ...

.. عند الأمة المؤمنة – حتى تنهض – لابد من توافر عنصرين متلازمين أولها : الأخذ بالأسباب .. أسباب التقدم من جد و عمل مثمر دؤوب فى شتى المجالات ، علما و اقتصادا ، اجتماعا و سياسة . ثانيا : أن يكون عنصر الأخذ بالأسباب متلازما للشرعة و المنهاج اللذين ارتضاهما رب السموات و الأرض ( صاحب الأسباب و مسببها ) للأمة الآخرة ، و قد قبلت بهما فاتصفت بالإيمان ، لأنه منوط بها العمل على تبليغ منهج الله و شرعته للعالمين أجمعين و ذلك بالسبل و الوسائل التى قررتها تلك الشرعة ، و حدد أطرها ذلك المنهاج . و من هنا لا يصبح الإسهام الحضارى و الرقى المادى المنشود وسيلة لرفاهية الأفراد فحسب ، بل يكون فى المقام الأول أحد الوسائل و السبل للوصول إلى الغاية الكبرى من خلق الكون و التى هى تعبيد الناس لرب الناس .

قد تسألنى .. لماذا حقا تقدم الكوريون ج و تخلفنا نحن مع مشابهة الظروف التى مرت بها كلا الأمتين العربية الإسلامية ، و الكورية البوذية ؟! ..
أجيبك : لابد أن يكون السؤال له تكملة كهذه : و لماذا حقا تقدم الماليزيون المسلمون و تخلفنا نحن فى أمتنا الإسلامية ؟! .. و فى الإجابة رد علىشبهات أثيرت من وقت بعيد مفادها أن " الإسلام " هو سبب تخلف هذه الأمة بدليل أن غيرها من الأمم غير المسلمة أخذت بأسباب نجاحها فأنجزت ...أتابع معك