اولا : جذور النظرية

لما نتعرض للوظيفية بالدرس والتحليل والفهم علينا اولا ان نأخذ بعين الاعتبار ان للنظرية الوظيفية :
1. جذورا ابستيمية ومعرفية تسبق تحول الوظيفية الى نظرية ، ولما نبحث عن الجذور فاننا في الواقع نقوم بمقاربة للوظيفية كمفهوم قبل ان نقف عليها كنظرية هذه الجذور المعرفية نجدها لدى علماء الاجتماع الاوائل امثال سان سيمون و اوجست كونت و اميل دور كايم و مارسيل موس وحتى كارل ماركس و ماكس فيبر. وهي في وضعها هذا لا تعدو ان تكون مجرد مقاربة ولكنها قابلة للارتقاء الى مستوى النظرية .
2. ان النظرية الوظيفية هي نظرية جزئية وليست نظرية كلية في علم الاجتماع وهذا هو حالها فيما لو قارناها بالنظرية الماركسية التي تقدم نظرة شاملة للمجتمع .
3. بدء من العقود الاولى للقرن العشرين اخذت الوظيفية بالهيمنه على ساحة علم الاجتماع خاصة بعد ان نشطت المدرسة الانجلو سكسونية التي ضمت كلا من روبرت ميرتون و راد كليف براون و تالكوت بارسونز و مالينوفسكي في انجاز ابحاث استندت الى النظرية الوظيفية او ما عرف بالبنائية الوظيفية .
هكذا علينا أن نقر انه من العبث فهم هذه المقاربة الجديدة قبل ان نرجعها الى جذورها المعرفية الاولى ، أي الى المقاربة الوضعية التي انبثقت منها . كيف؟
لقد اوجد اوجست كونت قطيعة بين ما يسميه هو بقرون الميتافيزيقيا والقرن التاسع عشر او ما يسميه بالقرن الوضعي العلمي . هذه القطيعة ترتب عليها بروز تصورات جديدة تتعلق بالنظام السياسي والنظام الاجتماعي والنظام المعرفي . كما ان كونت بشر بوراثة العلماء والفلاسفة والصناعيين لرجال العهد الميتافيزيقي البائد ، أي انه بشر بنظام اجتماعي وسياسي سيرتكز على العلم والفلسفة والصناعة . وهكذا ، فكلما تغيرت المعرفة بالاتجاه العلمي والوضعي كلما امكن التوصل الى اقامة نظام سيلسي وضعي .
السؤال : ما هي قيمة التصور الوضعي للاجتماع والسياسة والمعرفة ؟
قيمة التصور الوضعي تنعكس على علاقة المعرفة بواقعها .أي ان المعرفة لم تعد نظرية مجردة بالقدر الذي ستصبح فيه تطبيقية . في هذا الاطار من التصور الوضعي سيكون دور المقاربة الوظيفية هو التعامل الواقعي مع الظواهر الاجتماعية . فهل حصل مثل هذا التعامل ؟
في واقع الامر نعم . فقد بدأ هذا التعامل الواقعي مع الظواهر مع سان سيمون لما اعترف – مثلا - بمفهوم المواطنة وأعلى من شأنه على حساب مفهوم الكونت ، ثم لما اعتبر الدين ظاهرة اجتماعية وجردها من كل مقدس . ولكن مع اوجست كونت كان التعامل الواقعي مع الظواهر ابلغ اثرا حيث جعل من ظاهرة الدولة ظاهرة نمطية فقسمها الى ثلاثة اقسام / انماط تعبر عن ثلاث مراحل هي :
§ الدولة الثيولوجية تعبير عن المرحلة اللاهوتية .
§ الدولة الميتافيزيقية تعبير عن المرحلة الفلسفية \الميتافيزيقية – الطبيعية.
§ الدولة العلمية تعبير عن المرحلة الاخيرة / الصناعية او الفكر الوضعي العلمي .
بعد هذه التجربة المعرفية في تنميط مراحل التطور البشري الفكري توصل كونت الى تجاوز الفلسفة النظرية المجردة التي اخفقت لانها عجزت عن تحليل واقع الانسان وشرع كونت في بناء شجرة المعرفة متوجا اياها بعلم الاجتماع الذي كان عليه ان يلعب دورا اساسيا في تحليل وافع الانسان . وهكذا ستكون المقاربة الوظيفية ترجمة لكل التصورات التي حصلت داخل المقاربة الوضعية .

ثانيا : المرجعية العلمية للمقاربة الوظيفية
حين نبحث عن المحددات العلمية المرجعية للوظيفية سيكون امامنا اثنتيين من المرجعيات هما :
§ الاولى : هي العلوم الطبيعية
§ الثانية : هي العلوم البيولوجية
ستأخذ الوظيفية هاتين المرجعيتين بعض العناصر الاساسية :
العنصر الاول : هو القوانين
فالطبيعة تقوم على عدد من القوانين التي تتحكم بظواهرها فاذا ما حدثت تطورات جيولوجية معينة فمن الطبيعي ان يصاحبها او يتولد عنها عددا من الظواهر الطبيعية . وثمة قوانين طبيعية تندثر بفعل عوامل طبيعية اخرى لذا نجد اوجست كونت يعرف الظواهر الاجتماعية تماما مثل تعريفه للظواهر الطبيعية ومثال ذلك تعريفه للدين كظاهرة اجتماعية تولد وتنمو وتكبر ثم تشيخ . أي تبدأ مرحلة التآكل والاندثار .
العنصر الثاني هو : الوظيفة الكامنة في التحليلات البيولوجية للمجتمع
اذ نلاحظ ان مفهوم الوظيفة هو مفهوم قديم في علم الاجتماع ، فقد بدأ التفكير فبه مع هربرت سبنسر ثم تواصل مع اوجست كونت وتطور مع اميل دوركايم و مارسيل موس وايضا مع سان سيمون . كل هؤلاء هم ممثلي المدرسة الوظيفية الفرنسية.
لا شك أن هاتين المرجعيتين ( الطبيعية والبايولوجية ) أرستا مبدأين أساسيين انطلقت منهما المقاربة الوظيفية هما :
الاول : ان المجتمع مثل الجسم البشري كلية متكاملة .
الثاني : ان كل عضو من اعضاء هذا الجسم لا يمكن فهمه الا في اطار كلية .
السؤال : ما هي النتيجة التي يمكن ان نستلخصها بداية من هذين المبدأين ؟
الجواب : إن العضو جزء من كل ، والعلاقة الرابطة بينهما هي حصرا علاقة تكاملية .
والنتيجة القابلة للاستخلاص تبين أنه ثمة تكامل بين الوظيفة و الكلية.

ثالثا : المجتمع من منظور وظيفي
في إطار هذا التكامل نستطيع القول أن المجتمع يتحدد من خلال وظيفته أو وظائفه. بمعنى أن الوظيفة تتحدد داخل المجتمع ، لذا نجد أنثروبولوجي بحجم راد كليف براون يشير في كتابه " الوظيفة العامة " إلى هذه الاخيرة بأنها تلك التي تشمل بقية الوظائف الاخرى و لكن هذه بلا ريب نظرة حتمية . وفي هذا السياق ينبغي الاشارة إلى أن مفهوم الوظيفة حين انبثق في القرن 19 اتخذ طابع الحتمية متأثراً بأطروحات المدرسة الاجتماعية البيولوجية التي ترى أنه طالما أن كل جسم بشري يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة والحتمية الثابتة فالمجتمع أيضاً يتمتع بعدد من الوظائف الثابتة.
مثل هذا الطرح نجده لدى هربرت سبنسر وخاصة لدى أوجست كونت ، وفيما بعد سنجد هذا المنطق الحتمي الذي يرى أن مبدأ الوظيفة العامة يتحكم في بقية الوظائف الاخرى شائعا عند رواد المدرسة الانجلو سكسونية في علم الاجتماع امثال مالينوفسكي و راد كليف براون و تالكوت بارسونز .
هكذا كان لابد من العودة إلى دوركايم لإخراج المفهوم من إطار الحتمية إلى إطار النسبية ، فالحتمية والاطلاقية ليست ولا يمكن أن تكون من سمات الوضعية التي تنظر الى الظواهر نظرة نسبية . لهذا يشار الى المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع بجهود دوركيم التي نحت بالوضعية التقليدية نحو ما عرف بـ الوظعية الصحيحة.

رابعاً : مفهوم الوظيفة لدى دوركايم
يميل دوركايم إلى جعل مفهوم الوظيفة مفهوما نسبيا خاليا من الحتمية . فاذا لم يكن من الضروري اعتبار كل وظيفة تعبير عن حاجة الجسم فليس من الضروري ايضا أن تكون لكل حاجة وظيفة في الجسم . فما هي أسباب هذه النسبية الوظيفية لدى دوركايم ؟
ثمة ثلاثة اسباب تفسر النسبي عند دوركايم :
1. يريد دوركايم ان يحتكر تأسيس العلم الجديد . لذا لن يكون بإمكانه تبني نفس التعريفات التي نجدها عند كلا من كونت و سيمون و سبنسر . ولايجب ان ننسى ايضا أن دوركايم يعتبر الكونتية ( أ. كونت ) ضربا من ضروب الفلسفة المجردة في حين انه يدعي لنفسه تأسيس العلم الجديد .
2. رغب دوركايم ان يتميز في اطروحاته عن كونت مبينا ان علم الاجتماع لا يقوم على مبدأ الحتمية ولايستند اليها .
3. اراد دوركايم ان يتخلص من هذه المرجعيات غير الاجتماعية وان تكون للظاهرة الاجتماعية مرجعيتها المحضة وليست المرجعية البيولوجية او الطبيعية.
في المقابــــل :
4. بدا المجتمع عند كونت و سبنسر على انه كلية اجتماعية ، وعليه فان الحياة الاجتماعية والحياة العضوية ستكونان خاضعتين لنفس القانون ، قانون التطور .
مثال :
فالمؤسسات مثلا تملك نفس الاهداف والوظائف التي تمثل اعضاء الانسان وهو ما يرفضه دوركايم كون سبنسر يختزل النشاط الانساني في الوظيفة التي تقوم بها كل ظاهرة اجتماعية والتي يتم ارجاعها الى حاجيات الجسم الانساني .
أية استنتاجات ؟
ان الاستنتاجات الرئيسية التي يمكن الخروج بها :
§ أن الوظيفية كانت قبل دوركايم تعرف على انها حالة من التطابق ما بين الجسم وحاجاته ، فكلما عبر الجسم عن حاجة ما الا واستشعر الحاجة الى وظيفة ما.
§ ان المقاربة الوظيفية انطلقت من هذا التطابق الكلي مابين الوظيفة والحاجة . لماذا ؟ لان علوم البيولوجيا كانت تشكل نوعا من مرجعيات علم الاجتماع لدى دوركايم و كونت و سيمون ... الخ.
§ اراد دوركايم ان يقصي العلوم البيولوجية والطبيعية من أي تاثير في علم الاجتماع ، وحرص على استقلاله والحد من تدخل علوم البيولوجيا فيه ، لذا ستتخذ الوظيفية عند دوركايم منحىً آخر غير التطابق وهو المنحى المعرفي .
§ يعتبر دوركايم ان الممارسة السوسيولوجية لا ينبغي ان تعتمد على الحتمية لذا يؤكد على نسبية الوظيفة " فليس الشعور بالحاجة يستوجب الوظيفة " .
§ من جهة اخرى هناك اعتبارين لدى دوركايم يقفان خلف تنسيبه للظاهرة الاجتماعية :
الاعتبار الاول : هو صعوبة اعتماد التحليل الحتمي في علم الاجتماع . فالظاهرة الاجتماعية نسبية بحكم ظروف نسبية انتاجها وظروف التحكم فيها .
الاعتبار الثاني : هو ان الظواهر المعتلة والشاذة هي ايضا لها وظائف ولايمكن القول بانها ظواهر غير طبيعية . وهذا يعني ان علم الاجتماع لا يبحث في علة الظواهر بقدر ما يبحث عن الوظيفة التي يمكن ان تؤديها ( في العلاقات والادوار ) .

خامسا : قضايا الوظيفية وتصوراتها
للوظيفية قضايا كبرى تشكل منطلقات لها في أي تحليل سوسيولوجي .اذ يمكن الحديث عن بعض المفاهيم التي ينبغي التعرف عليها بالنسبة للوظيفية كرؤية سوسيولوجية . فما هي ابرز هذه القضايا او المفاهيم ؟
اولا : تصورها للمجتمع
والسؤال هو: كيف تنظر الوظيفية الى المجتمع ؟ وكيف تتصوره ؟
المجتمع عند الوظيفية هو:
§ نسق من الافعال والبنى المحددة والمنظمة . هذا النسق المجتمعي يتألف من متغيرات مترابطة بنائيا ( بنى ) ومتساندة وظيفيا ( وظائف ) .
§ وذو طبيعة متسامية ومتعالية تتجاوز وتعلو كل مكوناته بما فيها ارادة الانسان .
§ هذا التجاوز او التعالي الذي تتحدد شروطه من خلال الضبط والتنظيم الاجتماعيين اللذين يُلزمان الاشحاص بالانصياع لهذه الطبيعة المتسامية والالتزام بها . اذ ان أي انحراف عنها يهدد اسس بناء المجتمع التي تعد المحافظة عليه وصيانته وتدعيم استمراريته غاية بحد ذاتها .
شروحـات:
ان عبارة التصور الاجتماعي ذو الطبيعة المتعالية هي عبارة ذات جذور دوركايمية توازي مقولة دوركايم الممثلة بـ ( الضمير الجمعي ) ؛ فللمجتمع ضمير يسمو ويتعالى على ضمائر الافراد مجتمعين او منفردين .
وحسب الوظيفية فالمجتمع مجموعة لا متناهية من البنى وكل منها يقوم بوظيفة فاذا تساءلنا مثلا : لماذا بنية المجتمع الاسرية صغيرة ؟ نجيب بأن المجتمع يحتاج الى مثل هذا النوع من الاسر كونها تلبي حاجات ووظائف اجتماعية . ان الضبط الاجتماعي هو أية وسيلة يستعملها المجتمع للتحكم بسلوك الافراد سواء عن طريق اللغة ، الاعراف ، التقاليد …الخ فهذه العملية تمثل رقيب اجتماعي . فالافراد الذين يتكلمون لغة معينة او يختصون بعادات وتقاليد واعراف وتصورات معينة يصبحوا تلقائيا مقبولين في المجتمع ومعبرين عنه وعن احتياجاته ووظائفه وضميره الجمعي .
ان التنظيم الاجتماعي هو نتيجة للضبط الاجتماعي . وهاتان الآليتان ( التنظيم و الضبط ) هما المسؤولتان عن الزام الافراد والجماعات بالانصياع لهما والالتزام بهما . واي انحراف عنهما سيهدد الاسس الاجتماعية . ولا شك أن الوظيفية تمتاز بحساسية كبيرة تجاه عوامل التغير في المجتمع . فالتغير الاجتماعي ليس غاية انما هو تهديد في حين ان الوظيفية تستهدف المحافظة على المجتمع وتحقيق الاندماج الاجتماعي .
ثانيا : مسالة التوازن الاجتماعي
توصف الوظيفية في بعض الاحيان بانها :
§ اتجاهات للتوازن . أي انها ترى التوازن واقعا وهدفا يسعى المجتمع الى أداء وظائفه وبقائه واستمراره .
§ اذا كانت الوظيفية عبارة عن اتجاهات للتوازن فان هذا التوازن يتحقق بعمليات التناسق بين مكونات البناء الاجتماعي والتكامل بين وظائفه الاساسية .
§ هذا التوازن يعمل على تحقيقه شريط مفاهيمي تشترك فيه القيم والمعايير الثقافية والافكار التي يرسمها المجتمع لافراده وجماعاته الذين لايملكون حق الخروج عليها والا وقعوا تحت وطأة جزاءات الضبط الاجتماعي الرسمي وبالتالي تصنيفهم في عداد المنحرفين الخارجين عن مسيرة المجتمع .
سؤال : اذا ما تحدثنا عن بارسونز ، فما هي الآلية التي تحافظ على حالة التوازن في المجتمع ؟
الإجابة : نجدها لدى الكثيرين من الوظيفيين . والمسألة تتصل بالنسق الثقافي الذي يشتمل على القيم والافكار والمعايير والاساطير كما يسميها بيير برديو او بالرموز . لذا يؤكد بارسونز على أهمية التوازن الثقافي لتحقيق التوازن الاجتماعي والا فان اختلال النسق الثقافي سيؤدي الى فقد المجتمع لتوازنه وذلك يعني انهيار المجتمع .

البنيويـــة الوظيفيــــة
اولا : مكانة البنيوية الوظيفية في علم الاجتماع
نالت هذه النظرية النصيب الاوفر من الكتابات التي تصدت لموضوع النظرية الاجتماعية . وحتى اواخر الستينات من القرن العشرين ظلت هي النظرية المهيمنة على ساحات علم الاجتماع بل انها اكثر النظريات انتشارا وهيمنة.
ومع انها شهدت تراجعا ملحوظا عن مكانتها منذ السبعينات من القرن العشرين بسبب ظهور نظريات اخرى كعلم الاجتماع الديناميكي وعلم اجتماع التنظيمات والفردوية المنهجية والبنيوية التكوينية إلا ان هذا التراجع لا يبرر عدم التوقف عندها ومحاولة فهمها لاسيما إزاء المدة الطويلة التي هيمنت فيها على الساحة الاجتماعية .
أيضا وقبل الدخول في ماهية النظرية ينبغي الاعتراف بان البنيوية الوظيفية هي نظرية كبيرة وليست نظرية صغيرة ، فهي تنطلق من المجتمع ولا تعطي أهمية للفرد ، ولكونها نظرية مجتمعية فهي غير مستوحاة من الفرد .
في اواخر ايامها تعرضت النظرية لموجة من النقد . فقد قام عالم الاجتماع الامريكي " الفن غولندر " سنة 1970 بتحليل نقدي لعلم الاجتماع الغربي من خلال نقده للبنيوية الوظيفية ذاتها . وثمة من نعتها بانها الطغيان الامبريالي . اما عالم الاجتماع الامريكي ( ويلبرت مور 1978 ) الذي ارتبط اسمه كثيرا بالنظرية الوظيفية فقد مثَّل شاهد من اهله حين اعترف بان استعمال البنيوية الوظيفية اصبح محرجا في علم الاجتماع المعاصر ( النظري ) .
ثانيا : ما هي البنيوية الوظيفية ؟
احيانا نكتفي باستعمال اللفظ " الوظيفية " للدلالة على النظرية . ولكن من اين اتت التسمية بـ" البنيوية الوظيفية " ؟
لقد أسمى دوركايم المجتمع بالحقائق الاجتماعية . وعندما ننظر الى المجتمع بهذا المحتوى فاننا ننظر الى البنى الاجتماعية بما فيها المؤسسات والبنى الطبقية والنوع الديمغرافي للسكان باعتبار المجتمع مدني . فلو نظرنا الى البنية الاسرية [ اب ، ام ، اخ ،...الخ ] كإحدى بنى المجتمع المدني وتساءلنا : ماهي وظيفة هذه البنية بالنسبة لاستقرار المجتمع ؟ سنلاحظ اننا بصدد مواجهه عبارة " البنيوية الوظيفية " التي تفسر لنا الوظائف التي تؤديها البنى في المجتمع .
إذن البنيوية الوظيفية هي :
[ رؤية سوسيولوجية ترمي الى تحليل ودراسة بنى المجتمع من ناحية والوظائف التي تقوم بها هذه البنى من ناحية اخرى ] .
هذا يعني ان البنى لم توجد بطريقة عشوائية لان لها وظائف سوف تقوم بتحقيقها . وبهذا المعنى فان للبنى الاجتماعية حتمية لامفر منها وهي وجود وظائف لها . هكذا فلكل بنية اجتماعية وظيفة تؤديها ، وبما ان كل شئ محكم فسوف تسير الامور على ما يرام في المجتمع دون انتظار طويل للصراعات والثورات ، فالمجتمع عبارة عن سيمفونية من الوظائف تتسم بالتناسق والتوازن .

ثالثا : أشكال البنيوية الوظيفية
صحيح ان البنيوية الوظيفية تهتم بدراسة البنى ووظائفها بيد انها ليست نظرية سوسيولوجية ذات لون واحد بل يمكن الوقوف على ثلاثة اشكال لها :
1. الوظيفية الفردية
في هذا الشكل من النظرية فقد وقع التركيز على حاجات الفاعلين الاجتماعين والبنى الاجتماعية التي تظهر لتلبية هذه الحاجات .
مثال :
الاسرة النووية التي تتكون عادة من أبوين وبضعة أولاد ظهرت لتلبي بعض الحاجات الفردية كالتمتع بالحرية والعيش بالاستقلالية والعمل والتربية الخاصة في مقابل ذلك لم تعد الاسرة الممتدة المكونة من الابوين والابناء والازواج والزوجات وابناءهم ؛ لم تعد قادرة على تلبية الحاجات الفردية .
2. الوظيفية العلاقاتية
في هذا الشكل يقع التركيز على آليات العلاقات الاجتماعية التي تساعد في التغلب على التوترات التي قد تمر بها العلاقات الاجتماعية . هذا النوع نجده موضوع اهتمام لدى الانثربولوجين امثال راد كلييف براون و مالينوفسكي . فالوظيفية العلاقاتية تعمل ، مثلا ، عبر شعيرة طقسية من الشعائر ، على التخفيف من التوترات في اطار العلاج النفسي .
3. الوظيفية الاجتماعية
هنا يقع التركيز على البنى والمؤسسات الاجتماعية الكبرى وعلى علاقاتها ببعضها البعض وتاثيراتها الموجهة لسلوكات الافراد والمجتمعات كالوظيفية التي تقوم بها مؤسسات كالجامعة او المستشفى او الاذاعة او التلفزيون او الاسرة او المسجد او المدرسة... فالمسألة تتعلق بالمجتمع لا بالافراد .

رابعا : الاصول الانثروبولوجية والبايولوجية للنظرية
ظهر مصطلح الوظيفية في الثلاثينات من القرن العشرين عند علماء الانثربولوجيا على الخصوص أمثال راد كليف براون و برونسلوي مالينوفسكي . وفي الاربعينات درَّس هذان العالمان في جامعة شيكاغو مما أدى الى انتشار مصطلح الانثربولوجيا الوظيفية في الولايات المتحدة الامريكية . وفيما بعد مثلت اعمال كل من تالكوت بارسونز و روبرت ميرتون البنيوية الوظيفية في أعمق ما كتب حول النظرية التي تنظر الى المجتمع باعتباره نظاما نسقيا يتمتع بالكثير من الانسجام بين مكوناته البنيوية . أما النظرية البايولوجية فتعد أحد مرجعيات الوظيفية ، ومنها يمكن القول انه إذا كانت العناصر المكونة للجسم الانساني تكون وحدة بيولوجية متكاملة ، أي سيفونية متكاملة تتسم بالانسجام ، إلا أن الوظيفيين وكما هو الحال في النظرية الاجتماعية البيولوجية في ملاحظاتها لفروق بين الجسم البشري والمجتمع لا يتجاهلون أيضا عنصر الصراعات في المجتمعات لكنهم ينظرون اليها بوصفها توترات بريئة . أي انها عبارة عن تمهيدات الى اقامة نظام اجتماعي افضل . فهي في منظورهم ايجابية وليست هدامة للمجتمع .

خامسا : الاصول السوسيولوجية للنظرية
ان البنيوية الوظيفية كنظرية سوسيولوجية تعتبر المجتمع مجموعة من التنظيمات المتراتبة التي يساهم كل منها في الاستقرار الاجتماعي للمجتمع هذا يعني أن الوظيفية تركز اكثر ما يكون التركيز على التوازن الاجتماعي للمجتمع وليس على التغير الاجتماعي . فالعناصر المكونة للمجتمع تُدْرَس من حيث الوظيفة الخاصة والمحددة التي تقدمها للحفاظ على ترابط النسق الاجتماعي لهذا المجتمع او ذاك . اما النسق الاجتماعي فهو عبارة عن مجموعة من العناصر المترابطة بعضها ببعض ، وأي خلل في أحدها لابد وان يؤثر في باقي العناصر . وبدورهم يقول الوظيفيون ان النسق الاجتماعي يمكن ان يحافظ على الاستقرار طاما ان كل عنصر يقوم بوظيفة .
أخيرا يمكن القول ان كونت و دوركايم و سبنسر كانوا اهم ثلاثة رواداجتماعيين اثروا تاثيرا كبيرا على النظرية البنيوية الوظيفية .
1. اوجست كونت
نظر كونت الى المجتمع باعتباره وحدة تتمتع بالكثير من الاستقرار ، وعلى الرغم من انه عارض الثورات والانقلابات والانتفاضات الا انه لم يبد قلقا على مصير المجتمع بما ان الاستقرار يغلب عليه . بل ان كونت كان مؤمنا بان المجتمع يتصف بالتوازن وليس بالصراعات . لذا رأى في الانساق الاجتماعية وكأنها أنساق عضوية او بيولوجية .
2. الوظيفية عند سبنسر
رأى سبنسر أن المجتمع في انساق يتشابه مع كثير من الانساق البيولوجية بل انه اكثر الرواد الذين شبهوا المجتمع بالانساق البيولوجية ، فالكائنات العضوية والانساق الاجتماعية في المجتمع هي كائنات متشابهه من حيث قدرتها على النمو والتطور . ان ازدياد حجم الانساق الاجتماعية كازدياد الكثافة السكانية – مثلا - سيؤدي الى ازدياد انقسام المجتمع الى انساق اكثر تعقيدا وتمايزا وهذا هو حال الاعضاء البيولوجية او الكائن الحي . وقد لاحظ سبنسر ان التمايز التدريجي للبنى في كل الانساق الاجتماعية والبيولوجية يقترن بتمايز تدريجي في الوظيفة . ولعل أهم ما جاء به سبنسر هو استعماله لمصطلحي " البنية والوظيفة "هاتين الكلمتين بلورهما سبنسر اكثر من كونت .
أخيرا فان قانون التطور الاجتماعي الذي جاء به سبنسر قد اثر في نظريات التطور عند علماء الاجتماع الوظيفيين الذين جاؤوا بعده وفي طليعتهم تالكوت بارسونز و دوركايم .
3. الوظيفية عند اميل دوركايم
لـ اميل دوركايم دور موثر في تأسيس النظرية الوظيفية . ومبدئيا فان تاثيرات كونت و سبنسر في الوظيفية تجد امتدادتها عند دوركايم في الكثير من ابحاثه سواء المتعلق منها بـ" تقسيم العمل الاجتماعي