محمد المهدي شنين
يعيش وطننا العربي مرحلة دقيقة وحرجة بسبب الأحداث المتوالية ،وموجات التغيير التي جسدتها الثورات والانتفاضات الشعبية في كل من تونس ومصر ،ففي تونس أدت الثورة كما هو معلوم إلى خلع الرئيس ، وبعد بن علي جاء الدور على نظام من اقوي نظم الوطن العربي والشرق الأوسط ، نظام يعتبر رقم صعب في المعادلة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة ،نظام يعتمد على مؤسسة أمنية قوية وقاسية على الشعب وزادت من قوتها ثلاثة عقود من الحكم المطلق على مصر .سقط هذا النظام اثر الثورة الشعبية التي كانت أول صدى للثورة التونسية ،سقط مبارك بعد هذه الأزمة التي دامت ثمانية عشر يوما ،وسنحاول في هذه الورقة تناول أداء القيادة المصرية إثناء الأزمة من خلال قراراتها وسلوكاتها ،ونعني بالقيادة أداء الرئيس المخلوع وحاشيته المقربة نظرا للنمط الفردي في القيادة الذي أدار به مبارك وبشكل مطلق الحكم في مصر، وسنتعرض لهذه الأزمة وفق معايير دور القيادة في إدارة الأزمات وإسقاطها على الأزمة المصرية .1/ اتخاذ قرار سريع رغم الوقت المحدود الأزمات لا تتيح وقتا للقائد بالشكل الكافي ليقوم بعملية التشاور مع باقي مؤسسات الدولة خصوصا إذا كانت الأزمة مفاجئة وبشكل متسارع ، مما يدفع القائد إلى ابتكار حلول إبداعية وخلاقة لتجاوز وحل الأزمة . وإذا حاولنا إسقاط هذا على القيادة المصرية وجدنا أنها امتلكت كل الوقت ، فمبارك ونظامه لهم ثلاثون سنة في الحكم وبشكل مطلق ، مما جعله وجعل الوقت الذي قضاه جزءا من الأزمة ،بسبب تراكمات سوء الإدارة من فساد وظلم وقمع للحريات ،وفي السنوات الأخيرة توالت الاحتجاجات في الشارع المصري فظهرت حركة كفاية وحركة شباب 6 ابريل ،وازدادت شرائح الشعب الساخطة على النظام ،ورغم ذلك كان النظام دائما يتمادى ويدفع نحو استفزاز الشارع إما بالتوريث أو التزوير أو الاعتقالات ... ورغم انفجار الأزمة التونسية ،إلا أن القيادة المصرية لم ترى فيها ما يدفعا لتقديم إصلاحات كي تتفادى أزمة مشابهة ،لا بل صرح النظام أن مصر ليست تونس ، وما هي إلا أيام حتى وصل صدى الاحتجاجات إلى مصر ،وخرجت كلها تهتف الشعب يريد إسقاط النظام ،فالملاحظ أن الوقت كان متوفرا لدى القيادة المصرية ، لكن الرغبة في الإصلاح هي التي كانت غائبة . وما دمنا نتحدث عن الوقت فإن أكثر ما يلفت الانتباه لنا كباحثين هو سرعة انهيار هاته الأنظمة رغم تجذرها وسيطرتها على مؤسسات الدولة بقبضة أمنية شديدة ،ثمانية عشرة يوما فقط كانت كافية لسقوط هذه الأنظمة الأمنية رغم ارتباطاتها الدولية القوية مما يدل على حجم التناقضات الداخلية وعلى الهشاشة الكبيرة والاهتراء في بنية النظام .
2 / مواجهة التهديد على المستويين القومي والفردي إن فترة الأزمة تضع القائد تحت ضغط كبير ، لما تسببه من تهديد لمصالح الدولة ولأهدافها، وأيضا لما تشكله من تهديد للقائد نفسه ومستقبله ،والسرعة في اتخاذ القرارات تجعله يعتمد على مفاهيمه ومدركاته الشخصية بشكل كبير جدا ، لذلك تعتبر القرارات الحاسمة وقت الأزمات انعكاسا وصدى لشخصية القائد . وإذا حاولنا دراسة الحالة المصرية وفق هذه المعايير فنجد أن أول ما استخدمه القائد هو العنف والعصا الأمنية في مواجه الأزمة وحلها ، فتلقى مطالب شعبه الداعية للإصلاح والعدالة الاجتماعية بالقمع ،وانتهاك حقوق الإنسان ، حتى وصل الأمر إلى قتل المتظاهرين ، والعدد الكبير من القتلى والجرحى يدل على حالة التوتر التي يعيشها صانع القرار ، والتي انعكست على أفعاله ، فلنستعرض الخطوات التي اتخذتها القيادة المصرية لحل الأزمة ، سنجد في الأخير أنها كانت مرتبكة وتدل على التخبط ، فكما أسلفنا قام أولا بممارسة العنف وبقسوة على المتظاهرين من أبناء شعبه ، ثم بعد زيادة حجم المظاهرات خطب في شعبه ووصف المتظاهرين بالمخربين والمشاغبين وأقال الحكومة وعين أخرى ،ثم بعدها عين نائبا له رغم أن هذا المنصب ظل شاغرا منذ توليه الحكم ،واخرج الطائرات الحربية فوق المتظاهرين لتخويفهم بشكل يدعو إلى الدهشة ، وكان آخر ما دل على ارتباك القيادة ،السماح للمساجين بالهروب وحضهم على زرع البلبلة في البلاد ، والاعتداء على المتظاهرين العزل بالخيول والجمال في مشهد غريب يتجلى فيه التناقض ، شباب الفيس بوك والتويتر في مواجهة الجمال والبغال ،والمتأمل يجد أن هذا المظهر هو تصغير للمشهد الأكبر لنمط القيادة الرشيد والواعي الذي يسعى إليه المتظاهرون ، في مواجهة القيادة المتخلفة غير الرشيدة ،وهذا الأسلوب في قمع المتظاهرين بالجمال والخيول وغيرها من أساليب القرون الوسطى ، هو نفسه أسلوب إدارة البلاد ، مما يعكس شخصية قيادية غير سوية ميالة للعنف والعناد ،غير مبالية بالحوار والتشاور ، وهذا نموذج للقيادة الفاشلة . ويتجلى لنا بعد الأحداث أن القيادة المصرية المجسدة في الرئيس المخلوع وحاشيته عرفت التهديد على انه تهديد شخصي وليس تهديدا لمؤسسات الدولة ولمستقبل البلاد ،كان يعاند و يصر على عدم التنحي إلا بعد ضغط الجيش لحماية الدولة ومؤسساتها ، فالجيش رآى في التهديد تهديدا لمصر الدولة ولكيانها المؤسسي ، وهو ما رجح كفة المطالب الشعبية .3/ التوفيق بين المصالح المتناقضة القيادة الرشيدة التي تحسن إدارة الأزمات تجدها دائما تدرك وتجيد إدارة الصراعات الداخلية الناتجة عن تعارض المصالح بين أقطاب النظام وهذا ليس على المستوى الداخلي فقط بل أيضا على المستوى الإقليمي والعالمي . وقد وضحت الأزمة التونسية والمصرية كمية التناقضات الداخلية بين أقطاب كل نظام ،والصراعات حول السلطة والنفوذ ،فنجد في مصر إقالات متتالية لشخصيات بارزة ومحاولة تحميلها وحدها المشاكل التي ترزح تحتها البلاد ، كما يتم الكشف هذه الأيام عن ملفات فساد تخص مسؤولين كبار ،وهذا كله محاولة من القيادة للبحث عن كبش فداء تنظف به ماضيها مما يعكس تعارض المصالح والمصلحة الأقوى هي التي تفرض نفسها ،وسيكشف الغد القريب عن المزيد من التناقضات . فلملفات الفساد المفتوحة عقب انتصار الثورة ضد بعض المسئولين الكبار في النظام السابق بينت مدى التناقضات داخل بنية النظام ومدى تشابك مؤسسة الفساد في الدولة ورغبة كل طرف في تصفية الحسابات . وا يبين تدخل الجيش باعتباره جزء من النظام ، أن سيطرة القيادة أفلتت ولم تستطع التوفيق بين ما تعتبره مصلحة ، وبين تعريف الجيش لهاته المصلحة والتي تجسدت في إبعاد مبارك وتفضيل المصلحة العليا للبلاد .4/ تقليل الخسائر وتعظيم الفوائد إن أعظم هدف لأي قائد يواجه أزمة هو التقليل من الخسائر وتعظيم المكاسب قدر الإمكان ،لكن السؤال المطروح ما هو مفهوم المكسب عند القائد الرشيد ؟ الأكيد انه المصلحة العليا للبلاد وليس المصالح الشخصية الضيقة . اعتقد أن هذا التوصيف للمكاسب باعتبارها المصلحة العليا للبلاد يكاد يكون منعدما لدى صانع القرار المصري لعدة، أسباب منها انه يعتبر المكسب مكسبا شخصيا والخسارة كذلك ، مما يجعله ينتهج سلوك يصب في هذا الاتجاه ، فالقيادة المصرية هي قلب الأزمة ومسببها الرئيسي نتيجة تراكمات ثلاثة عقود من سوء الإدارة ، إضافة إلى أن عناد الرئيس وإصراره على استفزاز الجماهير الغاضبة وتشبثه بمنصبه يؤدي إلى خسائر بالغة لمصر الدولة ، فعلى المستوى الاقتصادي مصر تخسر يوميا ما قيمته 350مليون دولار نتيجة الأزمة ، وخسائر في الأرواح إذ يوميا يسقط قتلى من المتظاهرين برصاص الأمن ، والخسارة الأكبر هي تجميد مؤسسات الدولة مما يهدد استقرارها وينذر بأزمات داخلية عنيفة . الملاحظ أن القائد المصري رغم المظاهرات المليونية المطالبة برحيله ، ورغم الأزمة التي شلت البلاد وجعلتها تتحمل خسائر باهظة إلا انه لم يرغب في التنازل عن عرشه لماذا ؟؟ لأنه يرى في التنازل خسارة شخصية ، ولا يرى فيها مكسبا لمصر وهذا النمط النيروني (نسبة لنيرون إمبراطور روما) من القيادة يصبح عبئا على الدولة ومصدر خطر عليها ،وهذا ما فهمه الجيش فأزاح الرئيس المخلوع .5/ إعداد وتأهيل الصف الثاني (القيادة البديلة) ما يدل على تميز القائد وكفائتة ، قدرته على اختيار قيادة بديلة تحل محله اثر غيابه أو عدم قدرته على أداء مهامه ،وهذا الإعداد للقيادة البديلة يعتبر بحد ذاته فنا من المهم أن يكتسبه القائد . وإذا حاولنا تطبيق هذا المعيار على القيادة المصرية نجدها ابعد ما تكون عنه ، فرغم أن الدستور المصري ينص على ضرورة وجود نائب للرئيس إلا انه ومنذ ثلاثين سنة أي منذ تولي حسني مبارك الحكم ظل هذا المنصب شاغرا ، ولم يعين عمر سليمان نائبا إلا بعد تفاقم الأزمة . لكن المتابع للوضع المصري يرى أن مبارك كان يعد نجله جمال كخليفة له رغم الرفض الشعبي الواسع لعملية التوريث ،مما يدل على نمط قائم على الفردية في إدارة البلاد دون أي اعتبار للرغبة الشعبية . من المهم لأي إدارة على أي مستوى قيادي أن تعي معايير وأسس الإدارة الرشيدة للدول والحكومات وللازمات كذلك، هذه الأخيرة التي لا تخلو منها أي دولة ، لكن نمط الإدارة هو الذي يمكن أن يحل الأزمة أو يفاقمها مما يؤدي بالبلد للهاوية ، وبعد عرض هذه المعايير نرى أن القيادة المصرية المخلوعة ابعد ما تكون عنها ، وفشلت بشكل لافت في إدارة الأزمة وحلها ، بل شكل تعاملها مع الأزمة سبب في شل البلاد وتدهور الأوضاع على كل المستويات ، ومنه نخلص أننا أمام نمط فاشل من القيادة كان عبئا على مصر وخطرا على مستقبل شعبها . سقط مبارك بعد ثلاثة عقود من القيادة التي كانت ابعد ما تكون عن الرشادة وانهار نظامه بسرعة مدهشة مما يدل على ترهل النظام وتسوسه بسبب فقدان الشرعية ، وبسبب الأداء السيئ له في إدارة الأزمة والتي كلفته كرسي الحكم الذي يعتبر اكبر خسارة لهذا النوع من الشخصية المعاندة والمتمسكة بالسلطة على حساب الإرادة الشعبية ،هذه الأخيرة التي أثبتت للشعب وللعالم وللتاريخ أن ارادة الشعوب دائما هي التي تنتصر .