الثورة في مصر قالت:

كيف نستطيع تجاوز الحديث عن مصر والفرح لها يملئ كل مسامات قلوبنا، واحتفالية الابتهاج بنصرها تزدحم بها كل فجاج نفوسنا، إن أسبوعاً من الفرح لا يكفي لاستيعاب نشوة الابتهاج المضاعف، ومع ذلك أحاول تجاوز هذه المشاعر إلى استماع ما قالت الثورة للعالم:
أولاً: كنت في مصر أول يوم تولى فيه حسني مبارك، وطوال الثلاثين سنة كنت أتردد على مصر أرقبها من بعد، وأدنو إليها من قرب، ولاحظت أن مصر طوال هذه الفترة تميزت على كل الأنظمة العسكرية في المنطقة بارتفاع سقف الحرية في التعبير، وكانت رواية شيكاغو لعلاء الأسواني تباع في كل المكتبات مع استهدافها المباشر لشخص الرئيس، كما تميزت مصر بأن معارضي النظام موجودون كلهم داخل مصر في حين توزع معارضو الأنظمة الأخرى في الشتات، فلماذا لم يُرض هذا شعب مصر فيرى أنه أفضل حال من الأنظمة العسكرية الأخرى؟ إن الجواب باختصار هو أن شعب مصر قد بلغ درجة من الوعي بحيث لا تباع عليه حقوقه بحقوقه ، فالحرية لا تمنح له مقابل تنازله عن حقه في المشاركة الحقيقية في القرار، والحرية في التعبير ليست ثمناً للعدل في توزيع الثروة، وهكذا علم المصريون الشعوب من حولهم أن الحقوق لا تتبعض ولا يباع بعضها ببعض، ولقد ثارت تونس أولاً وهي التي لم تنعم بالحرية، وربما لو ثارت مصر أولاً لقالوا إنها بسبب الحرية.
ثانياً: إذا ذكر الرئيس حسني مبارك فإنه يذكر وأعظم إنجازاته الاستقرار والأمن, ولكن شعب مصر علمنا أنه ليس محصوراً بين خيارين: إما الأمن بكل ما معه من ظلم واستئثار، أو الفوضى، بل يوجد الأمن ومعه حقوق أخرى لا تهدر، لقد كانت الحركة التي اتخذت بسحب الشرطة للتخلي عن حماية البلد لتوجه رسالة للناس: أن الأمن يساوي وجود النظام وأن البديل له هو هذه الفوضى، ولكن وعي الناس كان أكبر من أن يحصر بين هاتين الثنائيتين، ولذلك طلبوا أمناً لا يستلب منهم حقوقهم الأخرى، وتصدوا لبعبع الفوضى من خلال اللجان الشعبية ليمارس الشعب دوراً مزدوجاً عجزت عنه الدولة وهو الحرية وحفظ الأمن، لقد تجاوزوا مرحلة إما الطغاة أو الفوضى، وأن نموذج الصومال ليس هو البديل الوحيد لكل مشروع يطالب بالإصلاح الحقيقي.
ثالثاً: كان منظر الجموع وهي تصلي في ميدان التحرير منظراً لا يشبهه إلا الزحام في الحرم في أوقات الذروة عندما تتجاوز الجموع الملايين، كان منظر الحركة الجماعية في الركوع والسجود منظراً مهيباً يحرك المشاعر ويستذرف الدموع، إن هؤلاء الذين يصلون في هذا الميدان ليسوا المنتسبين إلى جماعة الإخوان ولا إلى الجمعية الشرعية، ليسوا منظمين في حزب ولا منتسبين إلى جماعة، إنهم المنتسبون إلى الله بالعبودية.
إن تدين الشعب المصري تدين فطري ترى فيه كل الأطياف وكل الطبقات وكل الفئات في حال من التوحد لله بالعبودية، من أعظم ما يلفت إليه هذا المنظر أن هذا الشعب الوفي لدينه هو أكثر الشعوب استهدافاً لزحزحته عن تدينه منذ الحملة الفرنسية على مصر وطوال مئتي سنة وهو يستهدف بأنواع الاجتيال عن دينه وتدينه ثم تأتي مثل هذه المشاهد لتكشف عمق التدين في نفس هذا الشعب وعمق وفاءه لدينه ، وأن كل محاولات صبغ القشرة الظاهرية لهذا الشعب لم تتسرب إلى جوهره النفيس.
رابعاً: أن الآلة الإعلامية للنظام في مصر هي أضخم آلة إعلامية في العالم العربي، بقنواتها التلفزيونية وبمجلاتها وبصحفها وبالكفاءات الإعلامية الموجودة فيها، وقد جهدت طوال ثلاثين سنة أن ترسم صورة جميلة للنظام لكن اتضح أن كل جهدها لم ينجح في تشكيل صورة زائفة غير الصورة الحقيقية التي تراها عيون الناس، وأن كل ضجيج هذه الآلة الإعلامية والذي أصاب الأذان بالصمم والعيون بزغللة النظر لم ينجح في تكوين قناعة أخرى للناس، ولا أن يزيف وعيهم بما يرونه.
إن منطق الحقيقة أقوى من أن يحجبه لغو الحديث الذي يتبخر سريعاً، وصفحات النفاق التي سرعان ما تتحول إلى أوراق ميتة، ولذا فإن أشد الناقمين على هذا النظام بعد سقوطه هم أوسع الناس أفواهاً في الإشادة به والتزلف إليه عندما كان قائماً، إن منطق النفاق لم يصنع القناعة ولا عند المتحدثين به فضلاً عن المستمعين إليه.
خامساً: أطبق المتابعون لتداعيات الحدث على بطء القيادة في التعامل مع الأزمة وأن كل خطابات الرئيس كانت تأتي متأخرة جداً عن مطالب الناس، وصرح وزير الخارجية قبل سقوط النظام أن كبر سن الرئيس أحد أسباب المشكلة، وكان من مظاهر التقدم في السن البطء في استيعاب التغير، والبطء في اتخاذ القرار، وإن كبر السن له ضريبته التي لا يمكن أن تستثني أحداً (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) .
ولقد كان عمر رضي الله عنه واعياً لهذا المعنى تماماً فلما بلغ الثالثة والستين من عمره دعى ربه فقال: اللهم قد كبرت سني وانتشرت رعيتي وضعفت قوتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط.
لقد كان عمر مدركاً أن ما بعد الستين هي سن الضعف وليس سن القوة وأن التنكر لهذا الناموس الإلهي مكابرة لحقائق الحياة، إن ما أدركه عمر في الثالثة والستين من عمره هو ما لم يدركه مبارك في الرابعة والثمانين من عمره.
سادساً: لقد وقفت أمريكا بقيادتها الفكرية والسياسية نعوم تشومسكي وباراك أوباما موقف المنبهر إعجاباً بما صنعه الشعب المصري واعتبروه حدثا عالمياً ودرساً أممياً لشعوب الأرض بكل ما فيه من قيم عالية، ورقي حضاري، ووعي راشد بالحقوق، فشكراً لشباب مصر الذي قدم لنا جرعة عافية من الإحباط الذي سرب إلى نفوس كثير منا فأوصلنا إلى حافة اليأس.
سابعاً: لقد ظهر حب العرب كلهم لمصر ومكانة أهلها في نفوسهم، واكتشفنا أن قوة الانتماء للأمة أكبر من الشروخ التي تحدثها خلافات أنظمة سياسية أو نتائج مباريات كروية، وأطربني قول أحد أخوتي من مصر : " ياه للدرجادي الناس بيحبو المصريين".
ثامناً: مما كتب أستاذنا زين العابدين الركابي في حول ذلك؛ "لابد من الإفاقة الناجزة من " منوم الاستثناء" لن يحصل لهذا البلد أو ذاك ما حصل لغيره في هذه الصورة أو تلك، فقد جزم مسؤول في بلد عربي كبير بأن دعوى انتقال ما جرى في تونس إلى دول عربية أخرى كلام فارغ، وقبل أن يجف لسانه من هذه العبارة وقع في بلده ما وقع في تونس وبصورة أشد وأحد".
" لسنا مع الذين يقولون أن وقت الإنقاذ قد فات، وليس أمام الناس إلا انتظار مثل هذه الانتفاضات".
" إن فرص الإصلاح والتعافي موجودة تهتف بمن يريدها".