كتبت مقالات كثيرة ووضعت مبادرات حول الخسائر الناجمة عن هجرة العقول والكفاءات العربية إلى الدول الصناعية، وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه في مسيرة التنمية الاقتصادية في بلدها الأم. ومن خلال رصد محور النقاش في البلدان العربية وخارجها في هذا الشأن على مدى العقدين الماضيين، يلاحظ المراقب التركيز على دورها في التحويلات المالية إلى هذه البلدان، وعلى جذب الاستثمارات الأجنبية إليها بهدف رفع معدلات النمو الاقتصادي. أما دورها الأهم في تأهيل الكفاءات البشرية الشابة في الوطن الأم ونقل المعارف التي تكتسبها في بلدان المهجر إليه، فيبقى خارج الاهتمام لأسباب أبرزها في شكل عام، الولع العربي الواضح بتركيز الجهود على مراكمة الثروات المالية والعمرانية من دون بذل مثل هذه الجهود على صعيد تأهيل الكفاءات البشرية القادرة على إدارة هذه الثروات وتشغيلها في قطاعات مبدعة وخلاقة.

ويعكس هذا الولع طغيان مشاريع الإنفاق والاستثمار في المواد الأولية والبناء وبعض الصناعات والبنى التحتية من الحجم الكبير، على موازنات وبرامج خطط التنمية العربية، في حين لا يحظى الاستثمار في البحوث النظرية والتطبيقية والمؤسسات الحاضنة لها والمشاريع المولدة لفرص العمل على أهمية بارزة في معظم هذه الخطط.

إن تركيز خطط التنمية العربية وبرامجها على الثروات المالية والعمرانية ولو كان من ضرورات بناء البنى التحتية وتحديثها، أدى، من ضمن نتائج أخرى، الى تفويت فرصة إنشاء بنية تحتية علمية وتطبيقية قادرة على خلق قيمة مضافة عالية للثروات الطبيعية العربية وتوسيع نطاق الاستفادة من معالجتها وتصنيعها، لتشمل مختلف الشرائح الاجتماعية. وفي ظل خطط وبرامج كهذه، لم يجد الكثير من الكفاءات الوطنية العربية، لاسيما في مصر وسوريا ولبنان والمغرب وتونس، المجال لمساهمة فعلية في تنمية اقتصادية واجتماعية، ما دفعها للهجرة إلى الأمريكتين وأستراليا وأوروبا في شكل أساس. أما الدول العربية النفطية، فقد أدى الاعتماد على الخبرات الأجنبية إلى تفويت فرصة وجود مثل هذه الكفاءات الوطنية أصلاً.

وفي المحصلة، لم يقد هذا الوضع في الحالتين إلى اتساع نطاق الفقر فقط، بل أيضاً إلى نقص مريع في المبادرات الفردية والأفكار الخلاّقة والمبدعة التي يمكن التأسيس لمشاريع اقتصادية واجتماعية مستمرة وناجحة من خلال البناء عليها.

إن نظرة عامة إلى دول المنطقة العربية تفيد بأن غالبيتها الساحقة، ومن ضمنها دول «الربيع العربي»، ليست بحاجة للمال بقدر حاجتها للكفاءات وأصحاب المبادرات الخلاقة والمبدعة. وعلى ضوء ذلك، يتساءل المرء بشيء من الاستغراب عن مبررات سعيها الحثيث الى جذب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية بدلاً من صبّ الجهود على تأهيل الكفاءات الوطنية وتأمينها في إطار بنية علمية ومعرفية قادرة على التعامل مع المعارف والتكنولوجيات العابرة للدول والقارات، بهدف توطينها والبناء عليها لتأسيس قطاعات اقتصادية وطنية مبدعة لا تعتمد بالضرورة على الخبرات الأجنبية إلا في الحدود المتعارف عليها دولياً. ويذكر أن تأمين مثل هذه البنية لم يكلف في المتوسط أكثر من 3 إلى 4 في المئة من الناتج المحلي في معظم حالات الدول التي تمكنت من بنائها مثل الدول الاسكندينافية.

إن معظم الكفاءات المهاجرة العربية والعربية الأصل في الدول الصناعية، ليست في غالبيتها الساحقة من رجال الأعمال والمستثمرين، بل من العلماء والباحثين والمبتكرين وأصحاب المهن التي تتطلب تأهيلاً عالياً كالطب والهندسات وغيرها. ما يعني ان قدرتها على الاستثمار في أوطانها الأم تبقى محدودة بعكس قدرتها الواسعة في مجال تأهيل الأطر والخبرات البشرية لاسيما الشابة منها، بهدف زرع وتشجيع روح المبادرة والإبداع التي تحتاج إليها الدول العربية أكثر من أي شيء آخر لتحقيق تنمية اقتصادية مستمرة، محركها الكفاءات الوطنية.

ولا شك في أن المؤتمرات المتكررة على المستويات الوطنية والعربية بهذا الخصوص مثل «الملتقى الأول للكفاءات العربية في ألمانيا»، الذي نظمه مكتب جامعة الدول العربية بالتعاون مع غرفة التجارة والصناعة العربية-الألمانية في برلين يوم التاسع عشر من تشرين الأول (أكتوبر)، تشكل الخطوة الأولى، غير أن العنصر الحاسم في هذا الشأن يتمثل في إيجاد آليات متابعة مستمرة لاستقدام الكفاءات المذكورة للتدريب والبحث في حاضنات تطبيقية وفي مراكز البحث والتطبيق اللازمة.

إن مسيرة الدول العربية منذ استقلالها تشير إلى أن مراكمة الثروات المالية والعمرانية ليست ضماناً لعميلة تنمية مستدامة تخرج هذه الدول من دائرة الفقر وتدني مستويات المعيشة، ما يفسّر فشل أي منها في الوصول إلى مصاف الدول الصاعدة على رغم نحو نصف قرن من خطط وبرامج تنمية وطنية ركزت على هذه الثروات أكثر من تركيزها على العنصر الأهم، اي العنصر البشري.

في ضوء ذلك مطلوب منها برامج تنمية جديدة تضع هذا العنصر في صلب اهتمامها لأنه الضامن الوحيد لتحقيق ازدهار ورفاهية تقيها شر الفقر وغياب العدالة الاجتماعية.

*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.
* كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية – برلين.