نظر العالم بذهول ورهبة وإعجاب إلى شجاعة النساء والرجال الذين أطلقوا تظاهرات عمّت شوارع المنطقة العربية هذه السنة. وفي بعض البلدان، أثمرت الثورة الشعبية تغيرات واسعة على المستويين السياسي والمجتمعي، أما في بلدان أخرى فيحصل تحول تدريجي. إلاّ أن التغيير بفرصه وتحدياته كلها، آت لا محالة.


وبينما يتخبط العالم نتيجة التداعيات المستمرة لأزمتي المال والديون، يواجه العرب تحدّياتهم التاريخية الخاصة، المتمثلة عموماً بنموّ اقتصادي غير سوي ساهم في ترسيخ أنماط الاستبعاد والتمييز وعدم المساواة وحد من التكامل مع الاقتصاد العالمي وأوجد مفاضلة خاطئة بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة والحقوق السياسية من جهة أخرى، إضافة إلى أزمة حوكمة ومساءلة متجذرة.


ويساهم كل من التقلبات التي تخيّم حالياً على المنطقة والكساد الناجم عن الأزمة في تفاقم الأوضاع الاقتصادية وتقليص القدرة المالية للحكومات على تلبية طلبات مواطنيها بالحصول على خدمات اجتماعية أكثر وأفضل، وعلى عمل لائق ومنتج وحماية اجتماعية. في ظلّ هذه التطورات، كيف نسخّر الإمكانات الواسعة الخاصة بهذه اللحظة التاريخية من أجل إنشاء نموذج تنمية جديد وشامل ومستدام ومفيد للنساء والرجال في العالم العربي؟


تتمتع المنطقة العربية بمكامن القوة الخاصة بها، وآن الأوان لاستخدامها من خلال اعتماد نموذج اقتصادي شامل يؤدّي إلى استحداث فرص عمل لائق من طريق تعزيز المنشآت المستدامة وزيادة الإنتاجية والنمو المنصف.


أولاً، علينا أن نغتنم الفرصة لتحقيق الإصلاح الديموقراطي من خلال تعزيز الحوار الاجتماعي وحرية تكوين الجمعيات والمفاوضة الجماعية. ويشكّل انفتاح الأنظمة السياسية فرصة لاحترام حقوق العمال وتحقيق العدالة الاجتماعية. وتؤدّي منظمات العمال وأصحاب العمل المستقلة والديموقراطية والتمثيلية دوراً محورياً في هذا المجال.


ثانياً، ينبغي تنظيم الأسواق في شكلٍ أفضل، إذ يستفيد النموذج الشامل من التآزر الناتج من تعاون القطاعين العام والخاص والحوار التعاوني بين الشركاء الاجتماعيين. ووحدها مؤسسات سوق العمل القوية قادرة على ضمان المساواة في المعاملة وتمكين العمال، خصوصاً النساء والشباب والمهاجرين والعمال غير النظاميين منهم، من زيادة حصتهم من أرباح الإنتاجية.


ثالثاً، علينا أن نستفيد من إمكانات الشباب في المنطقة، فالشباب العرب لا ينفكون يحققون مستويات أعلى وأفضل من التعليم، كما أن تضخم أعداد الشباب في المنطقة بدأ ينحسر خلال العقد الماضي مع تراجع معدلات الولادة. أمّا تعزيز فرص العمل اللائق للشباب فيستدعي اعتماد سياسات ذكية على مستوى التعليم والمهارات، تتناسب مع حاجات السوق. وهنا يبرز دور أصحاب العمل، خصوصاً من خلال الاستثمار في تدريب الموظفين والمتدرجين.


رابعاً، يُعتبر اعتماد الحد الأدنى للحماية الاجتماعية خطوة أساسية في منطقة تفتقر فيها فئات واسعة من العمال، خصوصاً العاملين في الاقتصاد غير النظامي، إلى عناصر الضمان الاجتماعي الأساسية كالرعاية الصحية وضمان الدخل. ومن شأن أنظمة الضمان المتماسكة والمستجيبة التي تطاول الحاجات على المستويين البعيد والقريب الأجل أن تساهم بقوة في الحد من الفقر وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.


بإمكان الدول العربية أن تستفيد من الخبرة القيمة التي يتمتّع بها نظراؤها الآسيويون في مسائل بناء شبكات أمان أقوى وتنمية المهارات ودعم الأعمال التجارية الصغيرة. كما يمكنها زيادة التنسيق مع الدول الآسيوية حول المسائل المرتبطة بهجرة اليد العاملة والإتجار بالبشر والتغير المناخي، التي تستلزم حلولاً مبتكرة تتعدى حدود الدولة الواحدة.


وستتاح الفرصة أمام صانعي السياسات من الحكومات ومنظمات العمال وأصحاب العمل للقيام بذلك خلال اجتماع منظمة العمل الدولية الإقليمي الخامس عشر لآسيا والمحيط الهادئ الذي يُعقد في كيوتو، اليابان بين الرابع والسابع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري. وخلال الاجتماع ستناقش وفود من أكثر من 40 دولة عضواً في آسيا والمحيط الهادئ والدول العربية في غرب آسيا، سبل تطوير مستقبل أكثر توازناً وعدلاً واستدامةً لعالم العمل.


نشهد اليوم في منطقتنا والعالم أجمع، فترة من الوعود يشوبها غموض كبير، إذ تنبغي معالجة الحاجة العالمية إلى فرص العمل اللائق والحقوق والحريات الأساسية وإلى احترام كرامة الإنسان من أجل تجنب مزيد من عدم الاستقرار. علينا أن نحترم هذه الدعوة للتغيير وألا ننظر إليها كتهديد، بل كدعوة للعمل، وفرصة لبناء مستقبل أكثر توازناً وعدلاً واستدامةً للجميع.


* نقلا عن "الحياة" الللندنية