تشير أدبيات العلوم المالية إلى ثلاث نظريات رئيسة ذات ارتباط وثيق باستقراء مستقبل الاتحادات الاقتصادية تتعلق الأولى بنمو المنظومة الاقتصادية ودور السياسة المالية في هذا النمو. وتتعلق الثانية بنمو الأصول المالية للمنظومة الاقتصادية ودور السياسة النقدية في هذا النمو. وتتعلق الثالثة بالتوافق البيني بين الدورات الاقتصادية التي يمر بها كل اقتصاد محلي واقع ضمن اتحاد نقدي مشترك.


عديدة هي الفوائد عندما ننظر إلى الجانب النظري ونحاول توظيفه كمنظور مشاهد لواقع اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي. فوائد من الأهمية بمكان النظر إليها من زاوية مشروع الوحدة النقدية الخليجية الطموح وما سبق ذلك من تطورات مالية ونقدية في وقت تشهد فيه الوحدة النقدية الأوروبية تحديات قد تضع نهاية للطموح الأوروبي.


تفترض النظرية الأولى أن أي منظومة اقتصادية تمر بدورة اقتصادية تكرر نفسها من عامين إلى ثمانية أعوام. تمر هذه الدور الاقتصادية بأربعة مراح متباينة من النمو والازدهار، حيث تبدأ الدورة الاقتصادية من حالة الركود الاقتصادي ثم تنتقل إلى حالة نمو مروراً بحالة ازدهار وصولاً عند حالة انكماش قبل أن تدخل في دورة اقتصادية جديدة. المساهم الرئيس في هذه الدورة ومراحلها المختلفة هي السياسة المالية وكفاءتها في استثمار الفرص ومواجهة التحديات الاقتصادية بما يضمن استدامة مراحل النمو والازدهار على حساب مراحل الانكماش والركود الاقتصادي.
أما النظرية الثانية، تفترض أن الأصول المالية التي تعد المحرك الرئيس للدورة الاقتصادية تمر بتسع مراحل تهدف في نهاية مطافها إلى تكوين أصول مالية. تعد المراحل الأربع الأولى مراحل تراجع، والمرحلة الخامسة مرحلة انتقالية من حالة التراجع إلى حالة النمو، والمراحل الأربع الأخيرة مراحل نمو. تبدأ مرحلة تكون الأصول مباشرة بعد فقاعة اقتصادية وتنتهي بتولد فقاعة اقتصادية جديدة. فالمرحلة الأولى تتراجع السياسة النقدية مما يؤدي إلى انفجار الفقاعة الاقتصادية. والمرحلة الثانية، انخفاض أسعار الأصول، ما يؤدي إلى تراجع أحجام المشاريع الاقتصادية.


تسهم هذه المرحلة في زيادة حجم الديون ومن ثم توجه المنظومة الاقتصادية إلى الركود. والمرحلة الثالثة، تتوقف السياسة النقدية عن أداء عملها مع توقف القدرة على سداد الديون فتبدأ السياسة المالية في أداء دورها بمفردها. والمرحلة الرابعة، تتمكن المشاريع الاقتصادية من الوفاء بديونها بعد فترة من السداد ومعلنة قرب انتهاء حالة الركود الاقتصادي مع بقاء أسعار الفائدة منخفضة والاقتصاد متقلب والنفسية متوترة. والمرحلة الخامسة يتلاشى التوتر النفسي من استمرار الركود الاقتصادي وتبدأ فرص تمويل المشاريع الجديدة تلوح في الأفق معلنة بداية النمو الاقتصادي.


والمرحلة السادسة يتحسن مستوى عرض تمويل المشاريع الاقتصادية وتبدأ السياسة النقدية في العمل من جديد بعد توقفها خلال المرحلة الثالثة. والمرحلة السابعة تحل السياسة النقدية محل السياسة المالية في أداء دورها الطبيعي في المنظومة الاقتصادية. والمرحلة الثامنة تعود الثقة للقطاع الخاص في أخذ زمام المبادرة في تنفيذ المشاريع الاقتصادية بعد الشعور بالنمو الاقتصادي. والمرحلة التاسعة والأخيرة تزداد ثقة القطاع الخاص زيادة أكثر من المأمول، ما يشكل إعلان تكون فقاعة اقتصادية جديدة.


أما النظرية الثالثة، فهي تفترض أن أحد الأسباب الرئيسة لنجاح أي اتحاد وحدة نقدية مشتركة أن تكون الدورة الاقتصادية التي يمر بها كل اقتصاد محلي على حدة ضمن اتحاد اقتصادي منسجمة ومتوافقة مع ما تمر به الاقتصادات المحلية الأخرى. على سبيل المثال، عندما يمر الاقتصاد السعودي بمرحلة نمو اقتصادي وزيادة في الإنفاق الحكومي وتراجع في معدلات البطالة والتضخم، فإنه من الأهمية أن تكون جميع اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي تمر بذات مراحل النمو وتسجل مستويات متقاربة في المؤشرات الاقتصادية. وعندما يتوافر هذا الشرط تكون فرصة نجاح الوحدة النقدية بين مجموعة الاقتصادات المحلية مسألة وقت لا أكثر، والعكس صحيح.


صدرت دراسة صدرت مطلع الأسبوع الحالي من صندوق النقد الدولي بعنوان ''تقلبات القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي''. هدفت الدراسة إلى التعرف على مراحل نمو اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي للتعرف على فرص نجاح الوحدة النقدية الخليجية. اعتمدت الدراسة على بيانات الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي في دول مجلس التعاون الخليجي على مدى 20 عاما منذ مطلع 1990 وحتى 2010. ثم أجرت الدراسة مجموعة من المقارنات البينية بين اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي لتحديد الدورات الاقتصادية التي يمر بها كل اقتصاد على حدة، ومن ثم التعرف على مدى الانسجام البيني بين هذه الدورات الاقتصادية.


قدمت الدراسة مجموعة من الملاحظات حول وجود درجة ليست بالقليلة من عدم الانسجام والتوافق بين الدورات الاقتصادية التي تمر بها القطاعات غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي. من الأمثلة على ذلك أن استثمارات القطاع الخاص بين الكويت والبحرين سجلت معدل توافق بلغ 30 نقطة، بينما سجل ذات المعدل تراجعا بمقدار -71 نقطة بين الكويت وقطر. والصادرات غير النفطية بين البحرين وقطر سجلت معدل توافق بلغ 57 نقطة، بينما سجل ذات المعدل تراجعا بمقدار -87 نقطة بين السعودية والكويت.


والاستثمارات الحكومية بين قطر والبحرين سجلت معدل توافق بلغ 43 نقطة، بينما سجل ذات المعدل تراجع -33 بين البحرين وعمان. شهدت أيضا كل من السعودية والبحرين والإمارات نموا مستديما في مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بتواضع في النمو سجله ذات القطاع في كل من الكويت وقطر وعمان خلال الـ 20 عاما الماضية.


الوحدة النقدية الخليجية مشروع طموح يهدف إلى نقل اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي من مرحلة ترابط إلى مرحلة كيان واحد. جهود حثيثة تقوم بها السلطات المالية والنقدية بدول المجلس مما من شأنه تذليل التحديات نحو ظهور هذا المشروع الطموح. وعلى الرغم مما تشهده الساحتان المالية والنقدية الخليجية من جهود دؤوبة نحو بلوغ الهدف الطموح، إلا أن الساحة التجارية ما زالت تسير بالوتيرة ذاتها منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي وحتى اليوم. من الأهمية التأكيد على ضرورة أن تواكب العلاقات التجارية الخليجية جهود السلطات المالية والنقدية في دول المجلس نحو إصدار الوحدة النقدية الخليجية.


*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.