عرض الأسبوع الماضي في جامعة الملك سعود الدكتور ديفيد روبنسون، عضو فريق صندوق النقد الدولي الاستشاري الزائر للمملكة، بعضا من الإحصاءات ذات العلاقة بسوق العمل خلال العقد الماضي. من هذه الإحصاءات أن الاقتصاد السعودي استطاع استحداث وتوظيف 2,598 مليون وظيفة خلال الفترة 2000 - 2010 موزعة بين القطاع العام بنسبة 9.78 في المائة (أي 254 ألف وظيفة) والقطاع الخاص بنسبة 90.22 في المائة (أي 2,344 مليون وظيفة). كما بلغت نسبة التوطين في الوظائف المستحدثة في القطاع العام 92.13 في المائة. بينما بلغت النسبة ذاتها في القطاع الخاص نسبة 45.56 في المائة. بمعنى آخر، أن لكل وظيفة مستحدثة في سوق العمل بشقيه العام والخاص خلال الفترة 2000 - 2010 يشغلها مواطن، نجد أن هناك وظيفتين تستحدث وتشغل بغير مواطنين (معدل 1 إلى 2). ينخفض هذا المعدل في الوظائف المستحدثة في القطاع العام ليصل إلى 1.1 بينما يزداد في القطاع الخاص ليصل إلى 2.2.

يقودنا هذا الاختلال في التوزيع البيني بين الوظائف المستحدثة إلى النظر في تجربتنا في تخصيص مجموعة من القطاعات الإنتاجية خلال العقد الماضي للبحث عن إمكانية وجود الأسباب. لكن من الأهمية بمكان المرور على تجربة دولية مشابهة قبل تناول التجربة السعودية. ومن هذه التجارب برنامج التخصيص الشامل التايواني وانعكاساته على تنافسية الاقتصاد التايواني خلال 1996 - 2002. والهدف من هذا المرور فتح باب المقارنة البينية مع مراعاة أوجه التباين، ما من شأنه الاستفادة من تجارب قائمة.

اعتمدت الحكومة التايوانية منتصف التسعينيات الميلادية من الألفية الماضية برنامجا شاملا لتخصيص الشركات العامة. شمل البرنامج جدولاً زمنياً لتخصيص 47 شركة عامة تعمل في قطاعات الاتصالات، والطاقة، والخدمات المالية، والتأمين، بحيث يبدأ التنفيذ في 1996 ويكتمل في 2002. تباينت نتائج برنامج التخصيص بين إيجابية وسلبية. عزيت أسباب التباين إلى ثلاثة أسباب. الأول اتحادات العمال التايوانية وتأثيرها في صناعة القرار الاقتصادي في الشركات المخصصة. والثاني أحزاب المعارضة السياسية وتحفظها على تقييم أصول الشركات العامة. والثالث الأسواق المالية الآسيوية وانعكاسات أزمتها في 1997 على نمو السوق المالية التايوانية وجاذبيتها.

ظهرت بوضوح هذه الأسباب مع قرب انتهاء الجدول الزمني لبرنامج التخصيص وبالتحديد في 2001 عندما أعلنت الأوساط الاقتصادية التايوانية تخصيص شركة شنجوا تيلكوم، أكبر شركة اتصالات تايوانية. تضمن إعلان التخصيص إيضاح آلية التنفيذ، التي من أهمها طرح قرابة 40 في المائة من أسهم الشركة للاكتتاب العام، و20 في المائة من أسهم الشركة لمستثمر رئيس. تزامنت فترة تخصيص الشركة مع بدء انطلاق عمليات مجموعة من شركات الاتصالات الجديدة على سوق الاتصالات التايوانية بعد تحرير قطاع الاتصالات. انعكس بالسلب بطء عملية تخصيص ''شنجوا تيلكوم''، وسرعة انتشار خدمات ومنتجات شركات الاتصالات الجديدة، واستمرار تواضع أداء السوق المالية التايوانية على تسويق عملية التخصيص وجاذبيتها. حيث أظهرت نتائج تخصيص ''شنجوا تيلكوم'' أن 5 في المائة فقط من أسهمها تمت تغطيتها، إما عن طريق الاكتتاب العام وإما مستثمر رئيس، والـ 55 في المائة الباقية لم تجد من يتملكها. انتهت في 2002 المرحلة الأولى من برنامج التخصيص الشامل التايواني بعد أن حقق عددا لا بأس به من الأهداف. وعلى الرغم من ذلك، إلا أنه ما زال يعاني تحديات الماضي، المتمثلة في انخفاض مستوى إنتاجية العامل التايواني، واستمرار العجز المالي في الميزانية العامة للدولة.

تحمل تجربة برنامج التخصيص الشامل التايواني وانعكاساته على تنافسية الاقتصاد التايواني في طياته عديدا من الفوائد عندما ننظر إلى التجربة السعودية في تخصيص مجموعة من القطاعات الإنتاجية. تجربة جديرة بالتأمل كونها، من جهة، ركزت على جانب الاستثمار المادي من خلال آليات تخصيص فاعلة أسهمت في بيع أصول هذه القطاعات الإنتاجية للقطاع الخاص بأسعار مجزية. ومن جهة أخرى، ركزت بشكل أكثر تواضعاً على جانب الاستثمار في رأس المال البشري الوطني من خلال عدم تفعيل شرط توطين الوظائف بشكل مجد خلال عملية التخصيص.

فتجربة تخصيص قطاع الاتصالات مطلع العقد الماضي تحمل عديدا من الفوائد، حيث تم التخصيص من خلال عملية اكتتاب عام كبيرة أسهمت في إعادة جاذبية السوق المالية السعودية. أدت عملية التخصيص هذه إلى إسناد أنشطة كانت تؤدى بأيدي منسوبي ''الاتصالات السعودية'' إلى شركات القطاع الخاص التي أسندتها بدورها إلى عمالة وافدة لأسباب مختلفة، من أهمها تقليل تكلفة التشغيل وزيادة الإنتاجية بعد أن كانت تقدم بأيدي عمالة وطنية. من الأمثلة على هذه الأنشطة أنشطة تركيبات الهاتف الثابت وإعادة بيع خدمات الاتصالات.

تقودنا القراءة السريعة لتجربتي تخصيص قطاعي الاتصالات السعودي والتايواني إلى التأكيد على ثلاثة أمور قد تسهم في معالجة الاختلال في التوزيع البيني بين الوظائف المستحدثة خلال الفترة المقبلة. الأمر الأول تفعيل جانب شرط توطين الوظائف في جميع برامج التخصيص المقبلة من خلال جعله مساوياً للجانب المادي. والأمر الثاني إعادة مراجعة اتفاقيات التخصيص السابقة بما يهدف إلى إعادة صياغتها بما يعطي جانب شرط توطين الوظائف الثقل الطبيعي. والأمر الثالث توجيه الهيئات والمؤسسات الحكومية التي تتولى مهام الإشراف على كل قطاع إنتاجي مستقل بجعل توطين الوظائف على قائمة المهام الإشرافية على القطاع الخاص. مهام ليست باليسيرة يقودها طموح الاقتصاد السعودي إلى الاستثمار في العنصر البشري كأهم عناصر التنمية بما يضمن إعداد أجيال قادمة مسلحة بالعلم، والمعرفة، والكفاءة، والمهنية، والقدرة، بعون من الله وتوفيقه.

* نقلا عن "الاقتصادية" السعودية