يؤكد كثيرون أن العمل الريادي والمستقل يشكل احد الحلول الممكنة لتجاوز مشكلة البطالة في الدول العربية، بخاصة في أوساط الشباب الذين يعانون من أعلى معدلات البطالة في العالم. والمقصود بهذا النوع من الأعمال هو المهن التي تستند الى المشاريع الصغيرة والجديدة والتي تعتمد على جهود الفئات الجديدة الراغبة في السوق من خلال مبادراتها الذاتية.

ويعتبر هذا الموضوع جذاباً للكثير من منظري التنمية لأسباب مختلفة، فهو من جهة يشكل مدخلاً سهلاً من الناحية النظرية للتعامل مع ابرز المشاكل التي تعاني منها الدول العربية، وكل المطلوب هو تشجيع هذا النوع من العمل المبادر والمستقل، والنتيجة المتوقعة هي التحفيف من البطالة، وتوليد الدخل وربما تحقيق نقلة نوعية في التنمية. كذلك، فإن الترويج لهذا النوع من الأعمال يعفي الكثير من الحكومات من المسؤولية المباشرة عن التوظيف وإيجاد فرص عمل. ومن لا يعمل، بعد انتشار هذا النوع من الثقافة وتوثيقه، يكون هو المسؤول عن تعطله عن العمل، فهو غير مبادر وهو لم يقنص الفرص المتاحة، او لم يخلق لنفسه فرصة.

ولكن هل يعتبر هذا مدخلاً معقولاً للتعامل مع ابرز التحديات التي تواجه المنطقة ببطالة في أوساط الشباب المتعلم تصل الى حوال 25 في المئة، هي الأعلى عالمياً، وهل يمكن توقع تحقيق نقلة نوعية في هذا المجال، وما هي المتطلبات الأولية لكي نتوقع نجاح هذا النوع من النمط التنموي الذي لم تعتد عليه المنطقة؟

تشير البيانات المتعلقة بالعمل الريادي، الى أن الدول العربية تأتي في أدنى السلم، متقدمة فقط على افريقيا من ناحية عدد الشركات الجديدة التي تسجل سنوياً في الفئات الصغيرة والمتوسطة، ففي حين يصل عدد الشركات الجديدة الوافدة الى السوق ما معدله 4 شركات لكل ألف شخص في الفئة العمرية العاملة (15-64) ، فإن المعدل في الدول العربية لا يتجاوز الواحد، وقدره البنك الدولي الذي يعد مؤشراً خاصاً بهذا الموضوع بحوالى 0.63، وهو ما يعني اقل من شركة لكل ألف شخص في سن العمل.

وهناك جملة من الأسباب التي تجعل العمل الريادي متدنياً الى هذه الدرجة في الدول العربية، يأتي في مقدمها العوائق البيروقراطية للدخول الى الأسواق والكلف المرتفعة، فهناك إجراءات لطالما تنادت الحكومات الى ضرورة الغائها، تبدأ من إجراءات التسجيل والتراخيص التي تصل الى عدد لا يمكن تخيله يتجاوز العشرين توقيعاً وإذناً ليس واضحاً كيف تراكمت على مدى عقود من البيروقراطية المتضخمة، يرافقها بالطبع كلفة وإمكانات عالية للفساد والرشوة، ولا يقل عنها اهمية امكان الخروج من السوق للشركات التي تتعثر مالياً، فمعظم الدول العربية لا يوجد فيها قوانين للإفلاس تسهل إجراءات الخروج من السوق.

السبب الثاني لتدني نسب العمل الريادي هو ثقافة سائدة في اوساط المجتمع والتي تنظر الى العمل المستقل كمحطة انتظار لحين الحصول على وظيفة عامة. وهذا النمط من التفكير يأتي ايضاً من المؤسسات التعليمية، التي نادراً ما تركز على هذا البعد، يرافق ذلك ثقافة لا تشجع على عنصر المخاطرة، وحمل الفشل في مشاريع جديدة اكثر مما تحتمل، ويصبح الشخص فاشلاً بدل أن يكون مغامراً متعثراً.

السبب الثالث يتعلق بتدني نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، وهي مرة اخرى، من ادنى النسب على مستوى العالم، ولا يلوح في الافق ما يشير الى ان هذا الوضع سيتغير قريبا. والمبادرات أياً كانت، يجب أن تستهدف مشاريع للنساء ضمن أولويات تتميز بالمرونة في سوق العمل للتعامل مع هذا النوع من الانشطة التي يمكن بالفعل ان تخفف من العبء على كاهل الحكومة.

السبب الرابع يتعلق بارتفاع كلفة الاقتراض وصعوبته للمشاريع الجديدة، لا سيما بعيداً من مراكز المدن، وهناك الكثير من المبادرات، لكنها غالباً ما تدار من قبل البيروقراطية، التي تضع شروطاً صعبة على المبادرين، ليس أقلها ضمان النجاح قبل البدء بالمشاريع، وهو ما يخالف طبيعة المشاريع الجديدة التي تعتمد على افكار خلاقة وجديدة. يرافق ذلك غياب الرعاية في المراحل الأولية لهذا النوع من المبادرات. واخيراً، فإن تركيبة السوق الاحتكارية في معظم الدول العربية لا تشجع على هذا النوع من الأعمال، إذ يسيطر عدد محدود من الشركات على السوق ولا يفسح المجال كثيراً للمؤسسات الصغيرة والجديدة.

إن نجاح نشر العمل الريادي يعتمد على كيفية التعاطي مع الاسباب أعلاه، فهناك دور مهم للحكومات يتعلق بإيجاد الإطار المؤسسي الذي ينظم هذا النوع من العمل ويركز على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ويقدم أدوات تمويلية ميسرة تأخذ بعين الاعتبار إمكانية الفشل، فنسب النجاح في مثل هذه الأعمال على مستوى الدول المتقدمة لا يتجاوز 50 في المئة، كذلك هناك دور مطلوب من المؤسسات التعليمية لنشر هذا النوع من العمل وتشجيعه.

ان الترويج للعمل الريادي لا يعني ان الحكومات ليس لها دور في إنجاحه، لكنه يعني اعادة النظر بالوسائل التقليدية التي تسعى الحكومات العربية فيها الى التعاطي مع الازمة الدائمة المتعلقة ببطالة الشباب.

*نقلا عن صحيفة الحياة.
* باحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط - بيروت.