دروس عظيمة في الإدارة من ممكلة النحل (2)


(2) في إعداد وتهيئة القيادة
للأستاذ الدكتور/ محمد المحمدي الماضي
أستاذ إدارة الاستراتيجية
كلية التجارة - جامعة القاهرة


لا شك أن اختيار وإعداد القيادات الإدارية في أية منظمة من المنظمات يعتبر من الأمور العامة والمصيرية، والمؤثرة تأثيراً مباشر أو غير مباشر على أدائها التنظيمي.
وبالرغم مما نلاحظه من عشوائية وارتجالية اختيار القيادات في كثير من المواقع الهامة في منظماتنا، وندرة الإعداد لها - إن وجد أصلاً - فإن الأمر يختلف تماماً في منظمة خلية النحل، فلا عشوائية أو ارتجال في الاختيار، ولا قيادة بلا إعداد علمي مخطط ، وعلى أعلى درجة من الكفاءة والتقنية، مما يجعلنا في حاجة شديدة إلى وقفة لنتعلم هذا الدرس العظيم من النحل.

واقع المنظمات البشرية في الاختيار والإعداد:

رغم تطور علم الإدارة وما حققه منذ بداية القرن العشرين من طفرة علمية هائلة استفادت من كافة معطيات العصر الحديث ؛ العلمية والتكنولوجيا والمعلوماتية، والتعليمية، والصناعية إلا أننا لا نزال نجد أن كثيرا من منظمات الأعمال، أو المنظمات الحكومية تصر على تطبيق نظم لا تتوافق على الإطلاق مع تلك المعطيات وذلك في اختيارها لقيادات العمل بها... !
فالمنظمات الحكومية في معظمها تعتمد في تصعيد القيادات إما على معايير الثقة أو الأقدمية أو كليهما معاً، وغالباً ما يتم ترجيح أهل الثقة، وقلما يلتفت إلى الخبرة والكفاءة.

وإذا ما تصادف وجود قيادة يتوافر فيها الكفاءة فيكون ذلك ليس لآليات النظام المتبع في الاختيار، وإنما لمجرد صدفة أو توافق حدث لشخص معين، وقلما يتكرر فيمن سوف يأتي بعده.
ولقد قام كاتب هذه السطور بنفسه بإعداد أكثر من دراسة حول هذا الموضوع، والتي أثبتت حقيقة ما سبق ، حيث تم المقارنة بين أداء إحدى المنظمات الجامعية في فترة قيادة استراتيجية كفء تولت إنشاء وإدارة وقيادة العمل لوحدة جامعية معينة بجامعة القاهرة على مدى خمس سنوات، ثم من بعدها قيادات تم تعينها في المنصب لمجرد الترقية أو الثقة دون أن تكون على نفس مستوى الكفاءة أو الخبرة، وكانت النتيجة الواضحة وجود اختلاف جوهري في أداء تلك الوحدة، وذلك لمصلحة الفترة الأولى، حيث اتجهت كافة مؤشرات الأداء بشكل كبير للتدهور في الفترات التالية، لا لشيء إلا لتغير القيادة الاستراتيجية فقط، رغم أن كل شيء قد تم إعداده، من نظم ولوائح وتنظيم واختيار قوة بشرية منتقاة ومدربة ومحفزة على العمل.

وليس هذا الوضع هو فقط ما تعاني منه هذه الوحدة أو هو مرهون بشخص معين، وإنما هو وضع يمثل واقع معظم مؤسساتنا ويعبر عنه أفضل تعبير.
فلا توجد مقومات أو معايير واضحة للاختيار، ولا توجد نظم علمية محددة للإعداد، ولا يوجد حتى الآن استعداد لمراجعة هذين الأمرين بشكل جدي.
وإذا كان هذا هو حال معظم المؤسسات الحكومية، فليس الوضع بأفضل حالاً وخاصة في منظمات الأعمال بكافة أنواعها وخاصة العائلي منها، فالملاحظات الميدانية لا تزال تؤكد نفس النتيجة السابقة.

دروس في الإعداد من النحل:

ليس هكذا تسير الأمور في مملكة النحل، بل إن النظام الذي يتبعه النحل لا يسمح إطلاقاً إلا باختيار قيادة على أعلى درجة من الكفاءة، وليس هناك أي معيار آخر سوى الكفاءة ،والقدرة لاختيار ملكة النحل، ولكن هل يترك ذلك لمجرد الصدفة؟؟ أو هل يتبع النحل نظرية الرجل العظيم؟ بأن القائد الموهوب يولد ولا يصنع؟
أو هل ينتظر ظهور قائد متميز بالصدفة؟ أو يجامل أحد لأنه أو شك على المعاش، أو لأقدميته أو لقربه ودرجة الثقة فيه؟
لحسن الحظ فإن النحل لا تعترف بكل ما سبق من نظريات أو أساليب تحدث في واقع منظماتنا البشرية.
فماذا يفعل النحل إذاً؟
في ضوء الواقع والمشاهدات وسؤال المتخصصين في النحل من أساتذة كلية الزراعة، وما هو معلوم ومدون في كثير من المراجع، وما هو أصبح معروف لدرجة يمكن أن يطلق عليه "المعلوم عن النحل بالضرورة"
فإننا نلاحظ أن شغالات النحل أو بالأحرى مجموعة محددة منها تتخصص في إعداد الملكة المرتقبة، ولا يكون ذلك باختيار سلالة معينة من بين سلالات الخلية، لأنه لا يوجد أصلاً شيء اسمه سلالات في الخلية الواحدة ولكن ذكور، وإناث.
ولكن تقوم هذه المجموعة بالتركيز على عدد محدود جداً من يرقات النحل القادم وبمجرد ظهوره للحياة في بداياته الأولى يتم تعهد هذه المجموعة المحدودة جداً، بغذاء خاص يختلف عن الغذاء الذي يقدم لباقي أفراد الخلية، وهو ما يعرف بغذاء ملكات النحل، ولا شك أن الجميع يعرفون ما لهذا الغذاء من قيمة غذائية عالية جداً، لدرجة أن سعره يقدر بالجرام والذي يصل في أقل تقدير إلى 10 جنيهات مصرية، بينما سعر العسل الذي تأكل منه باقي اليرقات في مراحل نموها المختلفة في حدود عشرين (20) جنيهاً مصرياً، وبحسبة بسيطة فإن سعر الكيلو من غذاء الملكات يبلغ 500 ضعف سعر الكيلو من غذاء باقي أفراد الخلية (1000: 20)
فما الذي يعنيه ذلك للإدارة من دروس وفوائد ؟
إن ذلك يعني عدة أمور ودروس مهمة للإدارة نذكر منها :

1- أن إعداد قيادات المستقبل أمر ضروري وحتمي،
2- وأن ما يجب أن ينفق على إعداد قيادات المستقبل ، ونوعية البرامج ، ووسائل الإعداد ، لا شك تختلف عما يقدم لباقي الأفراد.
3- وأن ذلك يعتبر استثماراً مهماً وليس مجرد إنفاق ضائع ، أو عبء زائد، ,وإنما هو استثمار في مجاله ؛ لأنه يتجه نحو أهم دعائم النمو والاستمرارية والتميز المستقبلي بشكل فعال وكفء ، فلا يمكن تخيل خلية نحل جديدة بلا ملكة، ولا سرب جديد بلا ملكة، وكذلك وكما قال الشاعر:
4- "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا"
5- إن ذلك يعيد النظر تماماً في نظريات القيادة وخاصة ما يتعلق منها بالوهبي والكسبي، أو الفن والعلم، وهل صحيح أن القائد يولد ولا يصنع كما تدعي بعض النظريات أم أن القائد يمكن أن يصنع ويعد بصرف النظر عن أمور الوراثة؟
ونستكمل المرة القادمة إن شاء الله الجز الثاني من هذه المقالة حول "القيادة فن أم علم"... فتابعوا معنا..