تمر مصر بمحنة اقتصادية بادية للعيان .. فالقاصي والداني يعرف ما تمر به مصر حاليا من هزة اقتصادية قوية نتيجة انسحاب الاستثمارات الأجنبية بواقع 80% عنها قبل الثورة .. وهذه النسبة الكبيرة والتي انسحبت كنتيجة مباشرة للثورة في الأساس وكنتيجة غير مباشرة ايضا بسبب ما نتج عن الثورة من حالة الفراغ الأمني وانتشار الاعتصامات والاضرابات على مستوى كافة القطاعات الحكومية، كما لم ينج القطاع الخاص ايضا من مثل هذه الإضرابات وسياسة فرض الأمر الواقع بالقوة كما هو الحال في ميناء العين السخنة والتي تديره شركة موانئ دبي وهو يعد من احد اهم الاستثمارات الاجنبية في مصر والذي توقف عن العمل لفترات طويلة نتيجة لاضراب العمال كي يحققوا مطالبهم ولو بالقوة، هذا بالإضافة الى المظاهرات والاحتكاكات المستمرة بين الحين والأخر بين الشعب والشرطة من ناحية وبين بعض الساسة والمجلس العسكري الحاكم من جهة اخرى وبين قوى سياسية مختلفة بعضها البعض من جهة ثالثة، وهي كلها أمور تسببت في زعزعة الثقة في الاقتصاد المصري بشكل كبير، وهو ما أدى الى هروب جماعي للمستثمرين الأجانب من السوق المصرية في محاولة لحماية مصالحهم.
إن هروب الاستثمارات الاجنبية للأسف لم يتفاعل معه المجتمع العربي عموما والخليجي خصوصا بشكل ايجابي .. فعوضا عن أن تقوم الدول الخليجية الغنية بتقديم الدعم اللازم لمصر سواء من حيث دعمها بالقروض السريعة لسد عجز الموازنة أو عن طريق ضخ مزيد من الاستثمارات المباشرة في السوق المصرية لتوفير السيولة اللازمة لمساعدة الحكومة المصرية على مواجهة أزمتها الحالية .. وأنا هنا لا اروج لنظرية الفضل والمن التي يتبعها البعض وكأن مساعدة الدول الخليجية لمصر فرض عين عليهم نتيجة لما قدمناه لهم في الماضي، ذلك أن ما فعلناه في الماضي وما سنفعله في المستقبل هو دور مصر الأبدي الذي سيظل هو الواجب الذي لا ننتظر من أحد شكرا عليه، وليس من حق أحد أن يتاجر بهذا الدور الذي كلفنا به المولى عز وجل منذ نشأة هذه الأرض وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، فبدلا من هذا كله غضت جميع الحكومات العربية الطرف عن مساعدة مصر وحكوماتها طوال الشهور الماضية .. وانا حقيقة لا أعلم بالقطع السر في تخلي المجتمع الاقتصادي العربي عن مصر في ظل ما تمر به من ازمات، فالبعض يعزو هذا الى ضغوط غربية على الحكومات العربية، والبعض يعزوه الى حالة من التشفي أصابت الحكومات والممالك العربية تجاه ما أصاب مصر ومحاولة استغلاله في القضاء على مصر أو على الأقل استغلال الفرصة لمنع مصر من استعادة مكانتها مرة أخرى.
أما اللافت للنظر فهو المحاولات الايرانية هذه الايام لضخ استثمارات في الاقتصاد المصري بمليارات الدولارات وبشكل عاجل وسريع .. وبهذا فإن إيران ستستطيع ان تكسر عزلتها التي فرضها عليها العالم جراء تجاربها النووية، بالإضافة الى أنه سيكون عربونا مثاليا لتسهيل عودة العلاقات مرة أخرى مع مصر باعتبارها قوى اقليمية لا يستهان بها ومن مصلحة ايران ان تقلص دائرة اعدائها اذا ما اضطرتها الظروف للدخول في مواجهة مع الغرب.
إن ضخ الاستثمارات الايرانية في السوق المصرية هو ليس ضربة للغرب في المقام الأول على قدر ما هو ضربة للدول الخليجية تحديدا والتي أدى تعنتها في مساعدة الدولة المصرية - وهو الدور المنطقي والمفروض - الى لجوء الحكومة المصرية لأن تفتح أحضانها لإيران ولاستثماراتها لانقاذ الاقتصاد المصري .. وأنا اعتقد ان هذا التقارب المصري الايراني لا يجب أن يخيف أحدا أكثر من الدول الخليجية والتي من المنطقي انها اذا ما حدثت اية مواجهة عسكرية محتملة لها مع ايران ان تستنجد بمصر للزود عنها ولحمايتها .. لكن الآن ومع التقارب الاقتصادي بين مصر وايران والذي قد يتمدد ليشمل مجالات عدة، سيكون من الصعب ان يكون لمصر دورا في هذا الإطار.
إن الخاسر الأكبر من المحاولة الايرانية لمساعدة مصر اقتصاديا سيكون هو الدول الخليجية، وأنا لا استبعد ان تندم الدول الخليجية على هذا الموقف المخجل ندما شديدا في المستقبل القريب .. واذا لم يمتلك القادة الخليجين الحنكة السياسية اللازمة لادراك خطورة موقفها، فإنها بهذا تدق أول مسمار في نعش بقائها واستقرارها، فالمنطقة العربية ومع وجود كيان سرطاني يدعى اسرائيل ستكون دائما وابدا على صفيح ساخن واذا لم يأخذ الخليجيون موقفا يضمن لهم تحقيق توازن قوى في المنطقة فإن هذه الدول لن تستطيع ان تصمد امام الطوفان الذي سيجتاح المنطقة وسيأخذ في طريقه الأخضر واليابس.

لمتابعة كاتب المقال على الفيسبوك:
https://www.facebook.com/AhmadNabilFarahat