ما هو أكثر شيء يسعدك في هذه الدنيا ..؟
المال .. الجاه .. النساء .. الحب .. الشهرة .. السلطة .. تصفيق الآخرين .
إذا كنت جعلت سعادتك في هذه الأشياء فقد استودعت قلبك الأيدي التي تخون و تغدر و أتمنت عليها الشفاه التي تنافق و تتلون .

إذا جعلت من المال مصدر سعادتك فقد جعلتها في ما لا يدوم فالمال ينفد و بورصة الذهب و الدولار لا تثبت على حال .
و إذا جعلت سعادتك في الجاه و السلطان .. فالسلطان كما علمنا التاريخ كالأسد أنت اليوم راكبه و غدا أنت مأكوله .
و إذا جعلت سعادتك في تصفيق الآخرين فالآخرين يغيرون آراءهم كل يوم .

لقد وضعت كل رصيدك في بنك القلق و ألقيت بنفسك إلى عالم الوحشة و الغربة و استضفت راحة بالك على الأرصفة .. و نزلت في فنادق قطاع الطرق .. و لن يهدأ لك بال و لن تعرف طعم الراحة و لن تعرف أمنا و لا أمانا ، و لن تذوق للطمأنينة طعما حتى آخر يوم في حياتك ، لأنك أعطيت أثمن ما تملك .. أعطيت روحك لعالم الفرقة و الشتات ، و رهنت همك و اهتمامك بعائد اللحظة ، و علقت قلبك بكل ما هو عابر زائل متقلب ، و أسلمت وجدانك ينهشه وحش الوقت .

و إذا جعلت سعادتك في حب امرأة .. فأين هي المرأة التي لم تتغير ؟ و أين هو القلب الذي لم يتقلب ؟ أين نجد هذا القلب إلا في الخيال في دواوين الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون و الذين هم في كل واد يهيمون .

سبعون ألف نبي في تقدير بعض العارفين عبروا هذه الأرض و بلغوا أقوامهم نفس الشيء و أعادوا عليهم نفس الدرس و رددوا نفس الكلمات .
و الناس مازالوا على حالهم لا يرى الواحد منهم أبعد من لحظته .
مازالوا على جاهليتهم الأولى يتدافعون بالمناكب على نفس الخسائس يرون حاصد الموت يحصد الرقاب من حولهم و لا يعتبرون .
بل هم اليوم أكثر نهما و أكثر تهالكا و أكثر تهافتا على اللاشيء و يقول لهم القرآن :

(( و في أنفسكم أفلا تبصرون )) .

و في أنفسهم و أقرب إليهم من حبل الوريد ، غاية الغايات و منتهى الأرب ، و قبلة المقاصد و مهوى الأفئدة و متعلق جميع المعارف .. الحق بذاته .. الله سبحانه و تعالى بنوره الأقدس .
الرحاب الأبهى و شميم الجنة و رفيف الملائكة في نفوسهم .. أقرب إليهم من حبل الوريد .. أقرب إلى الواحد منهم من نطقه .

إلى هذا المدى من القرب .. و إلى هذا المدى من اللطف .. يبلغ إيناس الرب لعبده .. و لا غرابة .. ألا تصير النفس الإنسانية قابلة لتجليات الأسماء الإلهية فيصبح الواحد منا رءوفا رحيما ودودا كريما حليما عفوا سميعا بصيرا عليما .

إلى هذ المدى يستوي الرحمن على عرش سماوتنا الداخلية ، و يكاشفنا بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد .. و هو من هو .. جامع الكمالات على إطلاقها .. ثم نتولى عنه معرضين نتدافع بالأكتاف و نتسابق بالمناكب خلف كل زائل و تافه .

و نتكلم عن الحب .. و في عمق نفوسنا من هو أولى بالحب كل الحب .. بل واهب الحب لكل محب و محبوب و سر الحب في كل محب و محبوب .. بل عين القيمة في كل ما هو قيم .. و عين الجمال في كل جميل .
و نتولى معرضين نجري خلف بريق اللحظات و نتشتت و نتوزع و تتجاذبنا الغوايات و نتمزق إلى شتات و نموت في وحشة و غربة و محصولنا مما جمعناه صفر .

و الله أقام شريعته غيرة علينا و على ما أودع فينا من روحه و رحمة بنا حتى لا نضيع ، و الشيطان يحاول أن يحجبنا عن هذا الثراء الداخلي حسدا و حقدا على ما فضلنا الله به .. و نحن نختار صحبة العدو على الصديق .. و نستمع إلى العدو و لا نلتفت إلى الصديق ، و نلازم العدو و نهجر الصديق .
و ما أكثر ما قتل الأقوام من أنبيائهم و أهل الغفلة من شهدائهم .
و عالمنا اليوم أشد في جاهليته و أعتى في ماديته من كل ما مضى من عوالم .

(( و في أنفسكم أفلا تبصرون )) .
في داخلنا الشاطئ و المرساة و بر الأمان .
سند الضمان فينا و لسنا في حاجة إلى التأمين على حياتنا في بنك خارجي لا داعي لكل هذا اللهاث المجنون على الجمع و التملك و الاكتناز .. فلن نزداد بذلك أمنا .
لا داعي لكل هذا السباق و القتل على السلطة فلن نزداد بذلك قوة .

اطمئن قلبا أيها المؤمن و أعرض عن هذه الغابة التي يتعارك فيها الكل بالمخلب و الناب ، قل كلمتك و الزم معرفتك و اعمل على شاكلتك ، و خض البحر فلن تبتل و اعبر أرض الغربة و الوحشة فلن تستوحش فلست وحدك فالله معك .. و أينما كنت فهو معك .

لا تقف مع الواقفين أمام فاترينة المال و الجاه و النساء الباهرات و الحب و الشهوة و السلطة و سائر غوايات الدنيا .
فأنت غني بما في داخلك عن كل هذا .

لا يكن مبلغ همك أن تحب هذه و تلك ، و إنما ليكن همك مجموعا على الله إلهك ، محبوبا لك مطلقا و دائما و أبدا .
و حسبك من المرأة التي تختارها المودة و الرحمة و حسن المعاشرة .
تعلق القلب لا يصح إلا لواحد ، و انشغال الهمة لا يجوز إلا لواحد هو الله وحده جامع الكمالات .

إنما جعل عرش القلب ليستوي الرب عليه وحده و ليس لهذه المرأة أو تلك .. الصبابة لا تليق بالعارف الكامل .. و بهو الملك حق للملك وحده و ليس لأي عابر سبيل ، و الله هو أغنى الشركاء عن الشرك .. و حق على من عرفه حق معرفته ألا يعبد غيره .
ألست تقطعه فيصلك ، و تكفره فيرزقك ، و تعصيه فيغفر لك ، و تهجره فيتودد إليك .. و هو من هو المتعال ذو الجلال و الجمال .. فأين هو من هذه و تلك .. ألا يكفيك أن بابه مفتوح أبدا و عفوه مناد عليك دائما ؟

ألا يحرك ذلك كوامن الشوق فيك ؟
ألا يثير فيك من الوجد ما لا تثيره هذه و تلك من أشباح ترابية فانية ؟
ألا تعود فتنظر حولك ببصيرة .. و تنظر في داخلك بإلهام .. قبل أن يجرفك التيار إلى عالم الوحشة و إلى البحر الطام الذي يتخبطه الشيطان من المس ؟
ألا تغريك هذه الكلمات بلحظة تأمل و بوقفة مع النفس تعيد فيها النظر .

( بقليل من التصرف )

المصدر :كتاب (( الإسلام .. ما هو ..؟ ))
للدكتور مصطفى محمود