من أطرف ما في كتاب الدكتور بول غاليونجي عن طب الفراعنة هذه الفقرة عن الطبيب (( خوي)).
و قد وجد اسمه مدونا على جدران معابد سقارة و أمامه هذه الألقاب: طبيب القصر الملكي، عميد أطباء القصر الملكي.. المسيطر على سم العقرب.. المبجل لدى إله الطب.. المقرب لدى أنونيس.. كبير أطباء الوجهين البحري و القبلي.. راعي الشرج.

كان الطبيب (( خوي)) هو راعي شرج الملك تيتي، و هذا يعني أن البواسير و الناسور مشكلة قديمة قدم التاريخ، و أنها كانت من أمراض الملوك، و أنها كانت من الأهمية لدرجة أن يلقب كبار الأطباء بأن الواحد منهم راعي شرج الملك.

لم أكن وحدي إذن الذي أصرخ من آلام البواسير، فقبل ذلك بثلاثة آلاف سنة كان هناك فرعون عظيم يصرخ مثلي من البواسير اسمه تيتي.
كانت هذه الحقيقة التاريخية فيها بعض السلوى لي.. و الذين جربوا آلام جراحة البواسير يعرفون قيمة لحظة سلوى في زوبعة العذاب التي تثيرها تلك الجراحة.

وضعت الكتاب جانبي على سرير المستشفى و قد أسعدني أن حالي هو حال الملك تيتي.
و أعطيت ذراعي في لهفة إلى الممرضة لتغرس فيه حقنة المورفين و قد تصورت أني الملك تيتي فعلا.
و ماذا تعني ثلاثة آلاف سنة في عمر الأبدية.
إنها لا شيء.. لا أكثر من ثلاث لحظات.. كل ما تغير في الأمر أن الطبيب (( خوي)) هو الآن المبجل سليل الآلهة الدكتور عبدالله صبيح.. و المكان مستشفى الشبراويشي.. و الزمان يناير 69 بعد ساعات من إجراء الجراحة.
و الألم الآن يذكرني بنفسه.
و كل ما فعله المورفين أني أصبحت أحلم بالألم بدلا من معاناته بعينين مفتوحتين.. و قد كان حلما بطول الليل كله.
و في الحلم كنت أرى أني الفرعون تيتي الكافر الذي ألقي في جهنم.
و في نار جهنم اجتمع حولي الزبانية يضعونني على خوازيق من نار..
و السماء فوقي حمراء كنحاس منصهر.
و الزبانية لا يرحمون.
و العذاب سوف يكون بطول الأبد.
و في الحلم نسيت تماما أنها جراحة.
و كان هذا بتأثير المورفين الذي صور لي من الألم المؤقت دراما لا نهائية من العذاب.
و كانت أسعد مفاجأة أن يطلع علي الصبح و يتبخر ضباب المورفين و اكتشف أني أتألم من جراح سوف تشفى.
و حمدت الإله الرحيم.

ما أجمل أن يهبنا الله الزمن الذي لا يدوم فيه شيء.
كل شيء يمضي ثم يصبح ذكرى.
أشد الآلام تتحول إلى مقالة طريفة تروى و أحاديث حول فنجان شاي.

أليست حياتنا معجزة.
و أليست معجزة أكبر أن تشفى و تلتئم جراح مفتوحة في مجرى الشرج تتلوث كل لحظة بما يلفظه الجسم من فضلات.. تشفى و تلتئم تلقائيا بدون بنسلين و بدون صبغة يود.. بالقدرة الإلهية التي وضعها الخالق في الأنسجة.

و من عجب أن الله حشد كل جنده عند مدخل الجسم و عند مخرجه.. عند الفم و الحلق و اللوزتين تشفى الجراح المفتوحة و تلتئم و هي في مجرى اللعاب الملوث و الأنفاس المحملة بالأتربة و الجراثيم.. و تقطع اللوزتان فيلتئم مكانهما بلمسة ساحر.

و عند الشرج حيث تخرج الفضلات تموج بالميكروبات القتالة تلتئم الجراح المفتوحة بقدرة القادر الذي سلحنا بأمضى أسلحته.
و لعل هذا هو السبب في الآلام حول منطقة الشرج حيث وضع الخالق أقوى شبكة من الأعصاب و نشر قنوات و أنهارا من الدم و الليمف و رصد الملايين من الكرات البيض و الخلايا الحارسة التي تلتهم كل ميكروب وافد فلا تبقي عليه.

و بعد هذا يشك شاك في العناية و الرحمة.
و يقول مفكر سطحي مثل سارتر إننا قد ألقي بنا في العالم بدون عون، و قذفنا إلى الوجود لنترك بلا عناية و بلا رعاية.
و لو أن سارتر تعلم الطب كما تعلم الأدب و درس الإنسان كما درس الوجود لعرف حقيقة نفسه و لقال كلاما آخر.

و لهذا تخطر لي أحيانا فكرة إلحاق كلية الآداب بكلية الطب.. فالإنسان و الوجود حقيقة واحدة. و لا يمكن إدراك الأول. دون إدراك الآخر. و ملامح الروح مكتوبة على الخلايا و ليست في كتب أرسطو.
و شفرة العناية الإلهية مكتوبة على أوراق الشجر و على مناقير الحمام و بتلات الورد..

الدودة التي يجعلها الله خضراء بلون الغصن الأخضر ليجعلها أقدر على الاختفاء عن عدوها.. و الفراشة الملونة بلون الوردة.. و السلحفاة الصفراء بلون الصحراء.

بشرة الزنجي التي تتلون في الشمس الاستوائية فتصبح سوداء كمظلة منصوبة عليه طول الوقت لتقيه لفح الشمس.
و البشرة البيضاء البلورية الشفافة لأهل الشمال حيث تختفي الشمس طول الوقت خلف الضباب، و حيث يشح الضوء لدرجة تجعل الجسد في حاجة إلى كل شعاعة عن أي طريق مثل تلك البشرة الشفافة الزجاجية.

أجسام الحيتان التي صاغتها العناية تلك الصياغات الإنسيابية كغواصات.. و كل سمكة و قد منحتها الطبيعة كيسا يفرغ و يمتلئ بالهواء لتطفو و تغوص كما تريد.

أفواه الحشرات و قد شكلتها العناية على ألف صورة و صورة حسب وظائفها.. الحشرة التي تمتص كالذبابة تشكل فمها على صورة خرطوم. و الحشرة التي تلدغ كالبعوضة تشكل فمها على صورة إبرة.. و الحشرة التي تقرص كالصرصور زودتها الطبيعة بمناشير و مبارد.
و الدودة التي تتطفل على الأمعاء زودتها الطبيعة بخطاطيف و كلابات حتى لا تقع في تجويف الأمعاء و تجرفها الفضلات.

و كلما تكاثر الأعداء على مخلوق أكثر الخالق من نسله، فدودة الإسكارس تبيض أكثر من مليون بيضة في الشهر، و تنجب أكثر من مليون دودة.

و في متاهات الصحاري حيث يشح الماء و تندر العيون خلق الله للأشجار بذورا مجنحة لتطير مع الرياح في الجهات الأربع و تحط في ألف شبر و شبر من الأرض، و ترحل مسافات شاسعة و كأنها بعثات استكشاف تذرع الصحاري.

و الخفاش الأعمى الذي لا يطير إلا في الليل زودته الطبيعة بأمواج ألتراسونيك يستكشف بها طريقه.
و الكتكوت الوليد ترشده الغريزة إلى أضعف مكان في البيضة فينقرها ليخرج إلى الوجود.
و الزنبور يعرف مكان المراكز العصبية عند فريسته فيحقنها بالسم و يشلها و كأنه جراح ماهر درس التشريح.
و النمل الذي قادته فطرته إلى اكتشاف الزراعة و تخزين المحصولات قبل أن يكتشفها الإنسان بملايين السنين.
و حشرة الترميت التي عرفت تكييف الهواء في بيوتها قبل أن يعرف الإنسان الأبواب و الشبابيك.

إن كل خطوة تخطوها في الطبيعة حولك تجد فيها أثر الرحمة و العناية و الرعاية.
لم يقذف بنا إلى الدنيا لنعاني بلا معين كما يقول سارتر.
إن كل ذرة في الكون تشير بإصبعها إلى رحمة الرحيم.
حتى الألم لم يخلقه الله لنا عبثا.. و إنما هو مؤشر و بوصلة تشير إلى مكان الداء و تلفت النظر إليه.
ألم الجسد يضع يدك على موضع المرض.
و ألم النفس يدفعك للبحث عن نفسك.
و ألم الروح يلهمك و يفتح آفاقك إلى إدراك شامل، فالدنيا ليست كل شيء، و لا يمكن أن تكون كل شيء و فيها كل هذه الآلام و المظالم. و إنما لابد أن يكون وراءها عالم آخر سماوي ترد فيه الحقوق إلى أصحابها، و يجد كل ظالم عقابه.
و بالألم و مغالبته و الصبر عليه و مجاهدته تنمو الشخصية و تزداد الإرادة صلابة و إصرا، و يصبح الإنسان شيئا آخر غير الحيوان والنبات.

ما أكثر ما تعلمت على سرير المستشفى.
و شكرا لأيام المرض و آلامه.

المصدر : كتاب (( الشيطان يحكم ))
للدكتور مصطفى محمود