نحن نقول إننا في عصر العلم و إننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها و أوثانها.. و لم يعد هناك من يعبد اللات و العزى و هبل و لا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة.

و لكني أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد و نركع و نحرق البخور و نرتل التسابيح و الابتهالات في كل لحظة لأصنام لا حصر لها.

نحن في الجاهلية بعينها و لو تكلمنا بلغة الإلكترونات.. و لو مشينا على تراب القمر.

إنما اختلفت أسماء الأصنام.. و اختلفت صورها و نوعياتها.. و تسترت تحت ثياب الألفة.. و لكنها هي الأصنام بعينها.

ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم.. و هل هو إلا صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجى.

لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروج بها أي بضاعة.
صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر و إعلانات الخمور و الصابون و البيرة و الكاميرات و الساعات و الحراير و الأقمشة حتى أدوية الزكام و شفرات الحلاقة و معاجين الأسنان.

و هي عامل مشترك في كل أفيشات السينما و المسرح.
و هي على أغلفة المجلات و على كروت المعايدة و في جميع الفاترينات بمناسبة و بدون مناسبة.
و هي على علب الشيكولاته و علب البونبون و زجاجات العطر و نجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات.

و نفاجأ بها في إعلان سيارات تفتح لنا الباب و في طائرات س م ع تقدم لنا طبقا من الجاتوه مع ابتسامة.. و إلى جانب مطحنة بن تقدم لنا فنجانا من القهوة.. بل و في إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبني بيتا جديدا.. و هي دائما عارية أو نصف عارية أو بالمايوه.

و كأنما لا وسيلة لجذب الانتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد.. و لا طريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن.

إنه الذكر و الابتهال و التسبيح العصري تسفح فيه الدموع و تنشد الأشعار و ترتل المزامير و الأغاني و الرباعيات و السبعايات و تؤلف المسلسلات و الحلقات كل حلقة تشحذ الذهن و تثير شهية المستمع و المتفرج.

أما الصنم الثاني أو لعله المعبد أو الكاتدرائية العظمى أو جبل الأولمب الذي يتجمع فيه حشد الآلهة العصرية فهو فاترينة البضائع الإستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة و الريكوردر و التليفيزيون و الساعة الذهبية و السوار الماسي. و الابن يقتل أباه و الأخ يسرق أخاه و الموظف يختلس و الصانع يغش و الصراف يزور و المزيف يزيف في سبيل هذه الفاترينة الوهاجة.. فاترينة الأحلام.. الكل يتهجدون و يسهرون الليل يصلون لها.. و كل شيء يفنى ما عدا وجهها ذي الجلال و الإكرام المضاء دائما بالنيون و الفلورسنت في حي المال و التجارة من كل مدينة.

أما الصنم الثالث فهو الهيكل.. هيكل الفكرة المجردة و النظرية و المذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب. لا يرى حقا إلا ما تقوله بنود نظريته و لا يرى صدقا إلا ما يأمر به مذهبه فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يحرق حيا.. و هو يعيش بفكر مقلوب و منطق معكوس فالإنسان عنده يجب أن يوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان.

و هذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد و عابد قصاصات الورق و الشعارات الطنانة الكاذبة.. و هو أحد مجانين هذا الزمان.

و صنم آخر شائع هو الدكتاتور و الحاكم المطلق و الطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة و من حوله بلاط الهتافين و المصفقين و حملة المباخر و المجامر و المسبحين بالحمد و المنافقين و الكذابين و قارعي الطبول و نافخي الأبواق. تزفه الأناشيد و الأهازيج في كل مكان.. و يلقن الاطفال في مدارسهم.. إنه الرزاق و المنقذ و المعين الذي يطعمهم من جوع و يؤمنهم من خوف و يكسوهم من عري و أن عليهم أن يتوجهوا إليه بالتسبيح و التحميد كل صباح.. و أن عليهم أن يحفظوا كلماته و يعوا وصاياه و يلتمسوا رضاه.

و ربما كانت أشيع أصنام هذا العصر و أكثرها انتشارا هو صنم (( الذات)).. عبادة النفس.. و اتباع الهوى.

المرأة التي تعبد جمالها.. و الرجل الذي يعبد أناقته.. و الممثل الذي يفتتن بشهرته.. و الفنان العابد لفنه.. و البطل المبهور ببطولته.. و المتحدث اللبق الذكي المعجب بنفسه و بذكائه.. و نجم السهرة المزهو بشخصيته.. و صاحب الملايين الفرحان بملايينه.

و المال في أكثر الأحوال و في هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع.

و قد يختفي صنم (( الذات )) وراء صنم أكبر هو (( العصبية )) للعائلة أو القبيلة أو الطائفة أو العرق أو العنصر أو الملة و كلها أصنام.. و كلها عبوديات.. و كلها شرك.

و عابد الله لا يكون عبدا لله إلا إذا تحرر منها جميعا و أسلم قلبه و وجهه خالصا من جميع الشواغل و العلائق و التبعيات و المنازعات.

القلب لله (( بلا منازع )).. هذا هو الدين.

أما ما نحن فيه فهو جاهلية.. جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة و نصبت أوثانها العصرية و أقامتها مكان اللات و العزى و هبل و بعل و أقامت لها الهياكل و وظفت لها السدنة و الكهان و قدرت لها النذور و القرابين.

و لو أننا جلسنا إلى أنفسنا و صارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عباد الأصنام يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأثان الخفية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس.

(بتصرف)

المصدر : كتاب (( الروح و الجسد ))
للدكتور مصطفى محمود