[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]



هناك حرب شرسة دارت رحاها بين رئيس أكبر دولة في العالم وبين رئيس أكبر شركة بترول في العالم، والسبب أن كلاً من الرئيسين يريد المحافظة على أسهمه مرتفعة لدى مواطنيه ومستثمريه وينقذ صورته الملطخة بالنفط الذي طيَّن سواحل خمس ولايات أمريكية تطل على خليج المكسيك.

اندلعت المعركة عندما انفجرت صمامات بئر بترول عميقة تستثمرها شركة "بي پي " – واسمها القديم "بريتش بتروليوم" – في خليج المكسيك. ولم ينس "أوباما" طبعًا ما حدث لسلفه "جورج بوش" عندما دمر إعصار "كاترينا" مدينة "نيو أورليانز" على نفس الخليج، ولم يهب لنجدتها بسرعة. فصب "أوباما" جام غضبه على الشركة العالمية ذات الأصول البريطانية ليرفع أسهمه، وأطلق التصريحات النارية فأحرق أسهم الشركة التي انخفضت حتى الآن أكثر من 30%.

فما هي الدروس التي يمكن أن تتعلمها شركاتنا وحكوماتنا من التسرب النفطي المستمر في خاصرة "بي پي"؟
• أولاً: أغفل رئيس الشركة "توني هيوارد" تحذيرات مهندسيه ولم يخصص بضعة ملايين لصيانة البئر العميقة التي تقع تحت سطح الخليج بحوالي ميل تقريبًا. وبهذا فإن امتصاص البترول من هذه الأعماق تحت الماء بدون توفير تكنولوجيا متقدمة يشبه امتصاص الدماء. وفيما يبدو أن الشركة أجرت كل الحسابات ما عدا سيناريو الكارثة. فقد مات 11 فنيًا عندما انفجرت البئر، وخسرت الشركة 2 مليار دولار في مراحل التنظيف الأولى، وعليها أن تخصص الآن حوالي 20 مليار دولار تعويضات، وهبطت قيمتها بحوالي 12 مليارًا في يوم واحد. فكلما تواصل نزيف نفطها في أعماق الخليج، كلما تواصل نزيف أسهمها في البورصات العالمية. فبترولها يحترق ودخان أسهمها يتطاير.
• ثانيًا: كررت "بي پي" نفس الخطأ الذي ترتكبه الشركات الناجحة. فقد كان يُضرب بها المثل في الاهتمام بالبيئة، لكن أرباحها التي وصلت إلى 20 مليارًا عام 2009 أعمتها عن رؤية الحقيقة. فوجهت استثماراتها نحو التنقيب عن المزيد من البترول في الأعماق، دون إدراك أن للمجازفة مخاطرها، وأنها كلما حفرت أعمق، كلما احتاجت إلى المزيد من الأبحاث والتطوير في تقنيات الحفر والتنقيب. فالوصول إلى القمة أو الحفر أميالاً في الأعماق لا يكفي. لا بد من قواعد قوية تصعد عليها لكي ترتقي، ولا بد من وسائل نجاة وخزانات أوكسجين ضخمة تساعدك على مواصلة التنفس في الأعماق.
• ثالثًا: يقول "وارين بافيت" وهو من أثرياء العالم : "تحتاج عشرين عامًا لبناء سمعة رائعة لأعظم شركة وخمس دقائق فقط لتدميرها." فحتى لحظة انفجار البئر كانت الشركة هي الأشهر والأعظم، لكن سمعتها وصورتها انهارت لحظة الانفجار. وعندما سؤل "توني هيوارد" في ذروة الأزمة عن أمنيته قال: "أريد أن تنتهي الأزمة لأعود وأعيش حياتي." وفيما يبدو أن شركته تفتقر إلى خبراء الاتصال ومستشاري العلاقات العامة. فالمشكلة بالنسبة له ليست تدمير البيئة، ولا مليارات الحيوانات البحرية التي تموت بسرعة الصوت. المهم هو أن يعيش حياته. أما الحياة البحرية والشاطئية فهي ليست ضمن أولوياته.

كنت في جامعة "روتجرز" في "نيوجرسي" في صيف عام 1985 وكان عدد من الأمريكيين قد مات بعدما تناولوا "تايلينول" وهو دواء مسكن يشبه "البنادول" تنتجه شركة "جونسون آند جونسون". كان مقر الشركة في "نيو برونزويك" في ولاية "نيوجيرسي" على بعد مئات الأمتار من الجامعة. وعندما أعلنت حالة الطوارئ في الشركة كنت أرى طائرات الهيلوكبتر تقلع وتحط على مبنى الشركة. فقد واصلت الإدارة اجتماعاتها حتى صدر القرار الشجاع الذي أعلنه رئيسها وهو سحب كل عبوات "تايلينول" من الأسواق في كل أنحاء العالم. تم إيقاف إنتاج الدواء لسنوات حتى أعيد تصميم عبواته بطريقة محكمة حتى لا يستطيع أحد فتح العبوات ووضع السموم القاتلة مكان كبسولات "التايلينول". وحينها صفق العالم كله لـ "جيمس بيرك" رئيس الشركة لأنه اتخذ القرار الصعب: "سحب الدواء وخسارة عشرات الملايين على المدى القريب، لمواصلة النجاح وتحقيق عشرات المليارات على المدى البعيد." ومن الواضح أن المهندس "هيوارد" لم يتعلم من الدكتور "بيرك".

نسيم الصمادي