بطل الحادث (( سليمة إبراهيم )) 801 جنايات الصف، اشتركت مع أخيها – 17 سنة – في قتل زوجها ضربا و خنقا، ثم هجمت عليه و أكلت أعضاءه و هو ميت.. هكذا تقول اعترافاتها المفصلة أمام وكيل النيابة و القاضي.. و هكذا شهدت الوقائع كما تشهد الجثة.

قرأت الحادث مع الألوف الذين قرأوه، و شعرت معهم بتلك القشعريرة الباردة، و الفضول إلى معرفة هذا الحادث الغريب في وحشيته.

هل يمكن أن يبلغ الغل بإمرأة إلى هذا المدى.

و ماذا يمكن أن تكون صورة هذا الوجه الذي يأكل الميتة.

طالعتني في سجن النساء بالقناطر إمرأة وسيمة، دقيقة الملامح، أسنانها جميلة كصفين من لؤلؤ.. على وجهها سكينة و طمأنينة.. تصلي و تصوم، و تنام نوما هادئا عميقا.. و كلامها كله عن رحمة الله و أمر الله و حكمة الله.. و كأنها رجل صوفي ضل مكانه.

أيمكن أن يخالف الظاهر الباطن إلى هذا الحد؟
أيمكن أن تخدع الصور، و تكذب العين و اليد و اللسان؟
أيمكن أن تصبح الحياة كلها تمويها؟
و كيف يخلق الله للحقائق البشعة وجوها جميلة؟
و ما الدافع الذي أخرج من الباطن كل هذا الشر المخفي؟
و ما الذي هتك الحجاب و كشف النفس على ما هي عليه.

الزوج تزوج عليها..
هذا أمر عادي في البدو..
و هو يتكرر في تلك البيئة دون أن تأكل النساء أزواجهن.
الزوج طلق الزوجة ثم ردها..
كان يسيء معاملتها أمام الزوجة الجديدة.
أهي غضبة للنفس و للكرامة؟!

و لكن الزوجة اعترفت بأنها كانت على علاقات متعددة مع رجال متعددين أثناء الطلاق فهي لم تحفظ لنفسها كرامة..

كيف لا يبدو كل هذا الخراب النفسي على ذلك الوجه الجميل السمح الوديع، المطمئن الهادئ كأنه وجه قديس.

تذكرت رجلا جميلا رأيته ذات مرة.. كان جميلا فاتنا مفتول العضل، جذاب الصورة كأنه نجم سينما.. و كان مهذبا يتكلم بنبرة خفيضة.. و كان يجفل بنظراته في حياء.. ثم تبين لي فيما بعد أنه مجنون يعالج بالصدمات الكهربائية.

كان باطن الرجل خرابا مطلقا..
و كانت حقيقته الخواء.
و كان فارغا تماما و مجوفا من الداخل.. إلى هذا المدى يمكن أن تكذب الصور و تخدع الأشكال.
(( إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أشكالكم و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم )).

في ليلة الجريمة عاد الزوج إلى زوجته بهدية من الحلوى ليصالحها (( لم يكن يدري برغم سنوات المعاشرة الطويلة أنه ينام كل ليلة مع ضبع )).. قتلته في لحظة غزل.. كيف واتتها الشجاعة؟

نفس السؤال يلح علي باستمرار.
كيف تتنكر الحقائق في غير ثيابها؟
و يلبس الباطل الحق..
و يلبس القبح الجمال..
و تلبس الجريمة الحب.
و كيف يخلق الخالق هذه العبوات الجميلة لهذه النفوس البشعة؟ كيف يضع السم في وردة و يضع العسل في عقرب، و يخفي المتفجرات في أقنعة من حرير؟

أهذا مصداق الآية:
(( و الله مخرج ما كنتم تكتمون )) (721 – البقرة).

أهو المكر الإلهي الذي يستدرج به الله النفوس، و يمتحنها بعضها ببعض ليفضح خباياها و مكتوماتها، و ليخرج حقائقها و يكشف بشاعتها، فإذا بالمرأة الجميلة جلادا و إذا بالرجل الدميم ملاكا..

هي لا تشعر بندم أو تأنيب ضمير.. و يقينها أنها على الحق.
أيمكن ألا يعرف الواحد منا نفسه؟

لقد قال أبوبكر أنه لا يطمئن إلى أنه صار إلى الجنة حتى و لو دخلت إحدى رجليه الجنة، مادامت الرجل الثانية لم تدخل بعد.. و ذلك خوفا من مكر الله.. خوفا من أن يكشف الله في اللحظة الأخيرة شرا مكتوما في نفسه يدخله به النار الأبدية.. شرا كان يكتمه أبوبكر في نفسه دون أن يدري به أو يدري عنه.
و تلك هي ذروة التقوى..
خوف الله..

و التواضع و عدم الإطمئنان إلى براءة النفس و نقائها، و خلوها من الشوائب..
و عدم الغرور بصالح الأعمال..
و خوف المكتوم الذي يمكن أن يفتضح فجأة بالامتحان..
لم يكن أبوبكر من أهل الدعاوي..
لم يكن يدعي لنفسه منزلة أو صلاحا..
و إنما كان من أهل الحقائق..

و أهل الحقائق في خوف دائما من أن تظهر فيهم حقيقة مكتومة لا يعلمون عنها شيئا تؤدي بهم إلى المهالك، فهم أمام نفوسهم في رجفة..
و أمام الله في رجفة..
و ذلك هو العلم الحق بالنفس و بالله..

فالنفس هي(( السر الأعظم )).. و هي الغيب المطلسم..
هي غيب حتى عن صاحبها.. لا تنكشف له إلا من خلال المعاناة.. و هي في مكر دائم تظهر وجها من وجوهها، و تخفي ألف وجه..

و الله غيب مطلق و خفاء تام.. و هو سبحانه ذروة المكر إن صح القول..
لماذا وصف الله نفسه بالمكر؟ و قال:
(( و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين )). (30 – الأنفال).
و ما الفرق بين مكر الله و مكرنا..
و كيف يمكر الله..

الله يمكر لإظهار الحقيقة..
و نحن نمكر لإخفائها..
و لهذا كان مكر الله خيرا كله، و مكرنا سوءا كله..
مكر الله نور و مكرنا ظلمة..
مكر الله عدل و مكرنا ظلم..
و هل هناك أسوأ من مكر هذين الصفين من الأسنان اللؤلؤية التي تأكل الميتة، و تمتص الدم البارد و توشوش بالحب، و تضمر الموت؟!

شيء واحد في مظهر هذه المرأة العجيبة كان ينم عليها.. هو صوتها..
ذلك الصوت النحاسي المعدني الذي يخرج عاليا حادا رتيبا على الدوام، و كأنه يخرج من أنبوبة معدنية و ليس من قلب يشعر.

صوت لا يبدو فيه حزن و لا فرح و لا غضب..
صوت معرى مجرد من جميع المشاعر..
صوت أقرع أملس لا يشف عن أي انفعال.. يعطيك الإحساس دائما بأن هناك شيئا غير إنساني يتكلم، و إنك أمام جماد ينطق..

تتكلم عن الحب كما تتكلم عن الكراهية..
تتكلم عن رحمة الله كما تتكلم عن انتقامه بنفس الوجه الجامد و النبرة النحاسية الرتيبة..
يخيل لمن يسمعها أن هناك شخصا آخر يتكلم في داخلها.. شيطانا.. أو جنا.. أو ملقنا يتكلم من وراء خباء..

هل يمكن أن تتلبسنا الشياطين..
الله يقول إن الشياطين لا تتسلط إلا على أشباهها، و إنه لابد أن تكون هناك مشاكلة و مجانسة بين اثنين ليتسلط واحد على الآخر..
(( شياطين الإنس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) (112 – الأنعام).

الشيطان لا يتسلط إلا على شيطان مثله، حيث يمكن التواصل و التأثر بحكم المشاكلة..
أما عباد الله فلا مدخل للشيطان عليهم..
فالله يقول لإبليس..
(( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان )) (42 – الحجر).
فلا حجة لمن يقول.. تسلط علي الشيطان.. فنحن نرد عليه قائلين.. ( لأنك شيطان مثله ).

و لمن يتصور أن المكر الإلهي ينافي العدل.. نقول بل هو عين العدل.. فالله لا يمكر إلا بماكر.
(( يمكرون و يمكر الله )) ( 30 – الأنفال).
(( يكيدون كيدا، و أكيد كيدا )) (15، 16 – الطارق).
و حقيقة الأمر أن الله يسلط على الإنسان الذي يخفي شيئا في نفسه إنسانا آخر يخفي شيئا في نفسه.. و هذا منتهى العدل.. بل نحن أمام ميزان مضبوط تماما.. ففي كلتا الكفتين نفس ماكرة تخفي شيئا.
ثم أنه من تماكر الإثنين بعضهما ببعض تظهر الحقيقة..

و هذه هي الدنيا..
و لهذا خلقها..
لإحقاق الحق..
ما خلق السماوات و الأرض إلا بالحق.
و هذا عين الخير في أمر خلق الدنيا برغم ما يبدو من دم جريمة و شر و بشاعة.. فالعبرة بالخواتيم..
و شرور الدنيا زائلة مهما استحكمت..
و لا أهمية لشر زائل مادام سوف يكشف لنا في الختام عن خير باق..

و لو فكر الواحد منا في الأمر تفكيرا هادئا، و لو تأمل ما يجري في الدنيا حوله في عمق لأدرك أن الأمر جاد برغم ما يبدو في الظاهر من هزل و عبث، فكل شيء محسوب، و كل شيء يجري بموازين دقيقة.

و نحن الماكرون الماهرون.. و كل واحد فينا يتصور أنه يخطط بفطانة.. و ذكاء.. نحن بدون أن ندري، يكشف بعضنا بعضا، و نكشف أنفسنا من خلال مآزق الشطرنج المتوالية التي تزجنا فيها المقادير، و نفتضح عبر هذا الفعل المتسلسل الذي اسمه الدنيا حتى لا تبقى فينا باقية.. ثم نموت و قد ظهر المكتوم.

و الذين يدركون تمام الإدراك لب القضية تصيبهم الرجفة من الرأس إلى القدم..
إن ما يجري في هذه الدنيا ليس عبثا..
بل إن الأمر جاد بصورة مخيفة.

و الرجل الماكر الذي يسألنا دائما.. كيف يذهب إنسان متحضر في السويد إلى جهنم.. كيف يذهب ذلك الرجل الأبيض النظيف الجميل اللطيف أستاذ التكنولوجيا إلى جهنم و يذهب حاج مغفل يبكي عند الكعبة إلى الجنة؟

نقول له: لقد ذهب ذلك الحاج الذي يبكي عند الكعبة بالفعل إلى الجنة من الآن.. إنه من الآن في الجنة.. لقد أدرك روح المسألة و اتصل بالعلم الكلي المطلق.. أما صاحبك فمازال يشتغل بالنحاس و الحديد و المنجنيز.. مازال مشغولا بالمسألة ذاتها.. لم يدرك روحها..
و هذا أمر يفيد في الدنيا.. و لكن لا قيمة له بعد ذلك و الله لم يمنعنا عن كشف الحديد و المنجنيز بل أمرنا به.
(( و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس )) (25- الحديد).
و ذلك أمر بإدراك المنافع في الحديد..

و لكن دين الله يقتضي منا التوغل وراء ذلك لإدراك روح المسألة بحثا عن نفع آخر باق.. و بذلك يجمع المسلم بين نفع الدنيا و نفع الآخرة، فالحديد و المنجنيز ليسا كل شيء.. فالحاج الذي يبكي عند الكعبة ليس مغفلا.. فهو يبكي بسبب علم آخر عميق تعلمه.. هو علمه بنفسه و علمه بربه.. و هو واقف على عتبة من العلم أعلى من صاحبنا أستاذ التكنولوجيا في السويد الذي وقف علمه عند الحديد و المنجنيز.

و أين هذا العارف بنفسه و العارف بربه.. من هذا العارف الآخر الذي توقفت معارفه عند المادة و قوانينها؟
إن المغفل الحقيقي هو الذي عرف المادة و غفل عن رب المادة..
و تحصيل العلوم المادية سهل و هو في الكتب و في المدارس و في مصر وحدها أكثر من عشرة آلاف حامل دكتوراه، و أكثر من مائة ألف حامل ماجستير و دبلوم.

و لكن كم في هذا البلد من الآحاد أو العشرات ممن يمكن أن يقال عنهم من العارفين بنفوسهم و العارفين بربهم.
لقد حصلت علوم الطب و أنا شاب..
و هأنذا أكتهل دون أن أن أصل إلى معرفة بنفسي و بربي.. فتلك ذروة لا يبلغها إلا الأفراد..
هؤلاء الذين قال عنهم ربهم:
(( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا )) (58 – مريم).

ذلك حال صاحبنا الذي سجد باكياً عند الكعبة..
و تلك مرتبة و منزلة و درجة بينها و بين صاحبنا النظيف اللطيف الذكي المتحضر أستاذ التكنولوجيا السويدي سبع سماوات.. هذا سيد من سادة الأرض، صاحب ملك محدود في زمن محدود.. و ذلك سيد على الأولين و الآخرين له في السماوات ملك بلا حدود في أبد بلا تناه..

فمن هو المغفل بالحقيقة؟
و من هو الفائز بالحقيقة؟

و لكن نحن في عصر مادي.. و ذكر الجنة و السماوات أمر يبتسم له أهل الدنيا و سادتها الماكرون، و يضحكون فيه على سذاجتنا و لا أحد يهتم في هذه الدنيا إلا بالربح العاجل..

و لهذ اقتضى العدل أن يتعامل الله مع هؤلاء الماكرين.. بالمكر الإلهي..
(( و مكروا مكراً و مكرنا مكراً )) (50 – النمل).

و ما هم فيه من رخاء و غنى و علو.. هو استدراج و ليس علواً.
(( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )) (44 – القلم).
(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون )) (55، 56 – المؤمنون).
(( و قد مكروا مكرهم و عند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال )) (46 – إبراهيم).

و صاحبنا الذكي الذي لا تنفد له حجج إذا رآنا نحكم حول عنقه حلقات المنطق و إذا شعر بمنطقنا يوشك أن يسكته ما يلبث أن يصرخ.
و ماذا أساوي أنا إلى جوار عظمة الله.. و لماذا يعذبني الله و أنا لا أساوي شيئا.. و هل أنا إلا ذرة تافهة؟

و هو تواضع كاذب و انكسار مفتعل لأنه لو شعر حقاً بعظمة ربه و بتفاهة نفسه لخر ساجداً باكياً أمام هذه العظمة، و لشعر بالخشوع أمام تلك الهيبة.. إنما هي الملاحاة و الجدل.
و نرد على مكره فنقول:
لست تافهاً عند ربك و لا هين الشأن، فقد نفخ فيك من روحه، و أسجد لك ملائكته، و سخر لك أكوانه كلها، و أعطاك التسرمد و الخلود، و منحك الحرية.. إن شئت كنت ربانياً.. و إن شئت كنت شيطانياً.

فأين هوان الشأن من هذا كله.

بل هو تحايل الماكرين حينما يصبح ظهرهم إلى الحائط و تتقطع بهم الحجج فيتمسكنون و يتماوتون و يتخافتون و يتهامسون.. هل نحن إلا ذباب يارب..
و هل للتراب أن يتطاول..
و هل للطين عندك شأن يساوي أن تحفل به و تعذبه؟ و لو أحس الواحد منهم بالفعل أنه تراب، و لوانطلقت أعماله و أقواله من هذا الإحساس لكان له مع الله حال غير الحال و شأن غير الشأن.

و لكنه المكر..

و مهما تماكروا.. فالله أمكر..

المصدر : كتاب (( القرآن كائن حي ))
للدكتور مصطفى محمود