وصلتني رسائل كثيرة تعلق على مقالي الأخير.. الخروج من مستنقع الاشتراكية.. و بعضها يقول لقد شخصت الداء.. و لم تصف الدواء.. لماذا لم تقل أن الإسلام هو الحل؟.

و أنا أسألهم بدوري..
أي إسلام يقصدون؟!.
إسلام الخوميني أو إسلام حزب الله أو إسلام الريان.
و كل الفرق ترفع لافتات الإسلام.. و كل الإتجاهات تحمل بطاقات إسلامية.. و كل صنوف الإرهاب تحمل مسميات إسلامية..

خطف الرهائن و تفجير الطائرات و تلغيم السيارات يحدث تحت لافتات إسلامية.. و نشل الثروات يحدث باسم مضاربات إسلامية و القناصة على رؤوس العمارات يقتلون الأبرياء في لبنان بشعارات إسلامية.

و كل من يملك لحية و شمروخا و يحفظ آية يريد أن يغير المجتمع بيده.. أو بالجنازير.. ليصبغه بالصبغة الإسلامية.

و في هذه اللحظة يتبادل الأخوة من شيعة أمل و شيعة إيران إطلاق الرصاص و يقتلون بعضهم بعضا في إقليم التفاح و هم من نفس الطائفة الشيعية و بدعاوى إسلامية.

هناك تزييف هائل للشعارات الإسلامية.. و هناك تشويه و تلطيخ للإسلام أحيانا عن جهل، و أحيانا عن عمد..

و الانتهازيون من كل لون يطلعون ببضاعتهم المزيفة على الناس كل يوم.
لقد حولوا الإسلام إلى رصاصة غادرة.
و طوعوا الأحاديث و الآيات لتوافق هواهم.

و لكن الإسلام رحمة و سماحة و مكارم أخلاق..
الإسلام وعي كوني و احتضان للقوانين و السنن الإلهية، و انسياب جميل متناغم مع القدر.. و هو دين العلم و العقل و عقيدة السلام.. و هو أبعد ما يكون عن هذه التشنجات العدوانية.. التي نراها حولنا و التي لا تعكس سوى أحقاد أصحابها.

و طريق الإسلام للتغيير الإجتماعي صريح و واضح.
فالله في القرآن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فالله أسند التغيير لنفسه و جعل دورنا في هذا التغيير أن يغير كل منا ما بنفسه.. إصلاح كل واحد منا لنفسه هو البداية.. و أول الطريق.. طبق الشريعة على مملكة نفسك أولا قبل أن تحمل العصا على غيرك.

و هو يقول لعيسى عليه السلام في الحديث القدسي:
يا عيسى عظ نفسك فإذا اتعظت فعظ الآخرين و إلا فاستح مني.
و يقول لمحمد عليه الصلاة و السلام في القرآن (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم )).

مامن أحد يقدر على تأليف القلوب و لو كان هذا الواحد محمدا عليه الصلاة و السلام و معه مال الأرض.. إنما هو عمل إلهي.. و فضل إلهي.. و منة إلهية.

نستطيع أن نسعى إلى الوحدة العربية بحسن النوايا.. و لكن الله وحده هو الذي سوف يحققها حينما نصبح أهلا لها.. بما قمنا به من إصلاح أنفسنا.

إصلاح كل منا لنفسه و حملها على شريعة الله هي المرحلة الأولى في طريق التغيير.. فهل أصلحنا من أنفسنا.. لنصبح أهلا عند الله ليغيرنا؟.

و هل ما يجري الآن في بلدنا يدل على أننا أصلحنا من أنفسنا.. الجواب بالسلب للأسف.. فنحن أبعد ما يكون عن إصلاح أنفسنا.. و الغش و الكذب و الحقد و الطمع و خراب الذمم و النفاق و الانتهازية و الفسوق و الانحلال، هي الأخلاق السائدة و الطباع الغالبة على الكبير و الصغير.

و بالكلام عن زعامة تستطيع أن تغير أحوالنا في أربع و عشرين ساعة و تنشر الفضيلة بقرار وزاري.. كلام فارغ.. و الكلام عن جماعة إسلامية تغيرنا بالقهر و بالقمع و بالضرب على الأيدي كلام أكثر سذاجة..

إن الكرباج لن يصنع سوى الخوف.. و الخوف لن يؤدي إلى فضيلة و إنما إلى العكس.. إلى النفاق و المداراه..

و دور الإسلام إذن ليس الجنازير و لا التأديب بالشماريخ.. و لكن الدعوة بالتي هي أحسن.. و نشر الأخلاق بالقدوة الحسنة و الكلمة الطيبة.. و إحياء الضمائر في الناس.. ليبدأ كل إنسان رحلة تأديب نفسه و إصلاح نفسه بنفسه.

لقد ظل النبي عليه الصلاة و السلام يدعو الناس بالحسنى ثلاث عشرة سنة بلا عنف و بلا حرب.
و نحن الآن في في هذه المرحلة.. مرحلة الدعوة.. و إحياء ضمائر الناس..
إلى متى.. الله أعلم.. هذا يتوقف على همتنا.. و على صدق توجهنا..
فإذا أصبحنا أهلا للتغيير الشامل.. فإن الله حينئذ سوف يمدنا بالأسباب و بالظروف المواتية و القيادات المستنيرة و الحلفاء المخلصين و العون المادي و المدد الروحي.

و لا يستطيع شخص واحد أن يغير التاريخ .. لأن التغيير التاريخي عمل متعدد الأطراف تدخل فيه عوامل لا تحصى و لا يقدر عليه إلا خالق الزمان و المكان و الناس .. الله الذي بيده مقاليد كل شيء ، و الذي بيده كل القلوب و الإرادات و العناصر ..

و إنما كل دورنا أن نصلح من أنفسنا لنصبح أهلا لهذا التغيير .
و ليس في هذا الرأي دعوة إلى كسل .. لأن إصلاح النفس سوف يحتاج إلى استنهاض كل الهمم و تحصيل كل الأسباب .

إنه الجهاد الأكبر الذي سيحتاج منا إلى العزم كل العزم ، و إلى العلم كل العلم ، و إلى العمل كل العمل .. هذا دور كل منا في هذه المرحلة ..
و هذا هو كلام الإسلام .. و الدرس المستفاد من تاريخه .
و الذي يقول غير ذلك يخدع نفسه و يخدعنا .

هناك أشواق إسلامية في كل بلد .. و هي ظاهرة حميدة و طيبة و مبشرة .. و لكن هذه الأشواق تحاول أن تقفز على الزمن و تختصر التاريخ و تحقق الدولة الإسلامية بدون أن تمر على المرحلة الأولى الضرورية و هي صناعة الفرد المسلم .. و هي عجلة لا مجدية .

إن حملة الرايات الإسلامية ليسوا على مستوى الأزمة .. و ليسوا على مستوى المرحلة التاريخية التي يتصدون لها .. و هم إما رافض و إما متزمت و إما سلفي لا يرى للنصوص إلا تفسيرا واحدا ، فإذا طلعت عليه بتفسير آخر اتهمك بالكفر و أعلن عليك الحرب .. و أكثرهم فهم الأصولية على أنها غلظة و عنف و قتل للمخالفين أيا كانت القضية التي اختلف فيها .

و غسيل المخ الذي جرى للشباب في إيران مثال قريب .. و ما يفعله حزب الله كل يوم .. و ما فعلته جماعات التكفير و الهجرة و جماعات الناجون من النار .. و الجهاد .. و غيرها .

و مثل هذه القيادات المندفعة و المتعصبة و الهوجاء لا تؤتمن على سفينة الإسلام .. و لا تستطيع الملاحة في البحار الدولية المضطربة لأنها عجزت عن أن تحكم نفسها ، فكيف تحكم أمما و مجتمعات ؟!.

هؤلاء ناس يجب أن يغيروا ما بأنفسهم أولا .. يجب أن يقتلعوا هذا الغل و هذا الهوى العارم للسلطة و للبطش و للتنكيل .. قبل أن يصبحوا أهلا لقيادة شيء أي شيء .
و صدق الله العظيم إنه لن يغير ما بهؤلاء القوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. إنها سنة إلهية و قانون من قوانين حركة التاريخ .. و لهذا أفشلهم الله و أحبط أعمالهم .

و الحقبة التي نعيش فيها هي حقبة تخلف ديني و علمي و اجتماعي و اقتصادي و أخلاقي .. حقبة مراهقة سياسية .. و مراهقة إسلامية .

و المرحلة المطلوبة هي مرحلة دعوة و تربية و تحصيل علمي و نهضة للعمل و احتشاد للانتاج و مجاهدة للأخلاق الذميمة و إحياء للضمائر الميتة و محاولة لسياسة النفس أولا على قيم الإسلام .. و من يفعل هذا يكون مسلما عظيما و سوف يساهم بفعله في انتشال المركب من القاع .. و هذا دورنا الآن .. أن ننتشل المركب من القاع ..

و يخطئ من يسوق هذه المرحلة نحو انقلابات فجة و ثورات عقيمة و فتن مضلة .

و يضر بالإسلام من يزج به في بحار السياسة الملوثة و يدفع به إلى دهاليزها المريبة و سراديبها المظلمة التي يتوه فيها الحليم .. و لن يصل إلى شيء سوى الضياع في السراديب و الانخداع بالأكاذيب .

لم يأت الأوان بعد يا أخوة ..
و أمامنا ليل طويل من الامتحان .. قبل أن يؤذن الفجر .. هذا إذا رأى رب الكون أننا نضجنا و أصبحنا أهلا لأن يطلع علينا شمس عصر جديد .

لنتعاون أولا و نضع اليد على اليد لننتشل المركب من القاع ..

المصدر : كتاب (( قراءة للمستقبل ))
للدكتور مصطفى محمود